20/12/2010 - 00:28

كونشرتو الرّبابة: تلاوةُ الشّعر في خضمّ الموسيقى الفلهارمونيّة

كيف خرجت الرّبابة من قلب الصّحراء ونضج صوتها مع الأوركسترا الفلهارمونيّة، وهل تستطيع هذه الآلة التقليديّة الصّمود أمام مئة عازفٍ في الأوركسترا؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها مارسيل خليفة على نفسه وهو يعرض فكرته المغامرة لأوّل كونشرتو للرّبابة.

كونشرتو الرّبابة: تلاوةُ الشّعر في خضمّ الموسيقى الفلهارمونيّة

كيف خرجت الرّبابة من قلب الصّحراء ونضج صوتها مع الأوركسترا الفلهارمونيّة، وهل تستطيع هذه الآلة التقليديّة الصّمود أمام مئة عازفٍ في الأوركسترا؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها مارسيل خليفة على نفسه وهو يعرض فكرته المغامرة لأوّل كونشرتو للرّبابة.

فقد قدّمت أوركسترا قطر الفلهارمونيّة للمرّة الأولى هذا الكونشرتو قبل أيّام، بمناسبة اليوم الوطنيّ في قطر، وذلك في دار الأوبرا بالحي الثقافيّ في الدّوحة، وهو مجمعٌ يضمّ عدة منشآت ومرافق تحتضن المهرجانات الثقافيّة والسينمائيّة في قطر.

وعن تساؤلاته يجيب خليفة: "حاولت دراسة الزّمان والمكان لهذه الآلة، وحاولت أن أسمع ما غنّى العرب في الصّحراء بين كثبان الرّمل والواحات، من قوافل المقامات والايقاعات، لقد كتبت ومحوتُ وكتبت ومحوت خلال عامٍ كامل، وأبحرت في ميزان وإيقاعات الشّعر العربيّ، الرّجز والرّمل، والطّويل، لـفتح باب المستحيل لهذه الآلة."

معتز حسن المُلاّ يتألّق بربابته وألحانها

على مدى ثلاثين دقيقة، هي عمر كونشرتو الرّبابة، جلس عازف الرّبابة المصريّ، معتز حسن الملاّ، في قلب الأوركسترا، ولم تبد الرّبابة في يده كائنًا غريبًا أو دخيلاً على الإطلاق، بل احتضنها عازفو الأوركسترا بقيادة توماس كالب بأنّاتها وصهيلها وفرحها، ثم صفّقوا مطوّلاً للعازف المنفرد.

ويقول خليفة عن عازف الرّبابة: "هو شخصٌ لديه ثقافة مزدوجةٌ بالموسيقى، عربيّة وعالميّة، هو عازف تشيلو، وعازف أساسيّ في الأوركسترا الفلهارمونيّة القطريّة، واستطاع من خلال أصابعه النافذة، كونه عازف تشيلو قدير، أن يعطي حضورًا لهذا العمل، ولا يستطيع أيّ عازف تقليديّ أن يعزف ما كتبته."

وبحسب خليفة، فإنّ أيّ عازف تقليديّ يحتاج إلى تأهيل كبير جدّا كي يقرأ النّوتة الموسيقيّة ويتعامل مع الأوركسترا، ولا يخفي خليفة وجود رهبةٍ لدى العازفين من هذه المزاوجة غير التقليديّة.

ويقول: "حين أبلغت حسن أنّني سأكتب له كونشرتو الرّبابة، بدا الأمر وكأنّني أتحدّث عن رحلةٍ إلى المرّيخ"، ويضيف: "عندما كتبت جعلت الرّبابة تستسلم بين الموسيقى الّتي كتبتها وبين نبرةٍ أخرى تضيق بها قاعة الأوبرا، بحيث تريد نقلك للصّحراء وللجوّ الأصليّ للرّبابة، وتنقلك إلى الرّحب والسّعة في ملاذٍ آمنٍ للمتعبين من السّفر، إذ تشتمّ رائحة الصّحراء."

ويتكوّن كونشرتو الرّبابة من ثلاث حركات، الحركة الأولى ترافق فيها الرّبابة جميع عازفي الأوركسترا، وتنفرد في الحركة الثّانية، بينما تشاركها مجموعة من الآلات الوتريّة، وخاصّة التّشيلو بضبط الايقاع من خلال طرق العازفين على خشب الآلة وليس أوتارها، أمّا الحركة الثّالثة فتعزف الرّبابة مرّة أخرى مع الأوركسترا.

الرّبابةُ مثلها مثل الشّعر: ديوانٌ للعرب

ولدى خليفة رواية لكل حركة، فيوضح أنّه "في الحركة الأولى، نسمع كيف كان يحمل العربيّ معه في ترحاله ربابته كي تدلَّ عليه في وحشة اللّيل، ونتخيّل بهذا الكونشرتو كيف تكون الرّبابة أيضًا ديوان العرب كالشّعر تمامًا، كالماء والنّار التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما نتخيّل كيف استقى الشّعراء والمغنّون من رنين الرّبابة لترتيل الشّعر، وقد كانوا دائمًا يكتبون شعرهم من رنين هذه الرّبابة، وهذا واضحٌ جدًّا في الكونشيرتو، وهذا ما بنيته فيه."

ويتابع الموسيقي اللبنانيّ الّذي سبق وأن أدخل العود بكلّ أبّهته إلى الأوركسترا السّمفونية، يقول: "في الحركة الثانية نسمع رنينًا ما، من وقع حوافر الخيل وقد أطلقته إلى المدى، وذلك بين خشب الوتريّات فآلات التشيلو والباصات، إذ يتمّ النّقر فيها على الخشب وليس على الأوتار، وهنا يكون دور التشيلو الايقاعيّ على الخشب، ومساعدة الرّبابة بالإيقاع، ونسمع في صوت الرّبابة، وخلال كلّ العمل، ترحال الصّحراويّ والموسيقى الّتي يعزفها لكي يتسلّى، ونسمع فيها تلاوة الشّعر برفقة الرّبابة من خلال مرافقة الأوركسترا"، وبحسب خلفية، فإنّه "لا يوجد شاعرٌ قال قصيدةً دون أن يغنّيها مع الرّبابة".

وعن الحركة الأخيرة في الكونشرتو، يقول خليفة: "يبتعد صوتها في بيداء الألحان، تورد مع الإبل وترقب الخوف من جفاف الينابيع، وقد أطلقت في الليل حبًّا، ورغم هذا الجفاف والقيظ في الصّحراء والشّظف، كانت دائمًا تنطق بالحبّ."

ويضيف: "الرّبابة تشبه امرأةً ساحرة نتبادل معها الدّلال في ليلةٍ مقمرة، إنّ فيها غزلا، هي شهيّةٌ في مساء الشّهوة."

البحث عن مخزون الذّاكرة العربيّ من خلال الموسيقى

خليفة لا يتحدّث عن علاقة خاصّة بالرّبابة بقدر ما يبحث عن مخزون الذّاكرة العربيّ، ويقول في هذا السّياق: "أنا بصفتي موسيقيًّا، أبحث عن مخزون ذاكرةٍ موجودةٍ لدينا، وهناك عدّة أمورٍ يمكن التّفكير فيها، فالكونشرتو الأوّل الذي قدّمته للفرقة الفلهارمونية، بالإضافة للكونشرتو العربيّ، منذ ثلاثة سنوات، قدّمت فيه التّخت الموسيقيّ العربيّ مع الموسيقى الفلهارمونيّة، وكان اقتراحًا مهمًّا، لأنّه أعطى للفرقة بريقًا في العالم حيثما ذهبنا."

هذا وقد عزف الكونشرتو العربيّ في إيطاليا وواشنطن وباريس ولندن، وبحسب خليفة، فإنّ الرّبابة مثلها مثل العود، تربط المنطقة العربيّة ببعضها، وهي موجودةٌ في المشرق والمغرب ومصر والصّحراء، و"هناك عدّة أشكال للرّبابة."

ويرى خليفة أنّ المزاوجة بين الموسيقى العربيّة والغربيّة حالة إبداع، ويقول: "الموسيقى موسيقى، وكلّ الموسيقى العالميّة انبثقت من تراثها، وبيتهوفن كتب موسيقى تخصّ فلكلور البلد الّذي يعيش فيه، وأيّ موسيقيّ هو كذلك."

ويضيف: "برأيي أنّ الرّوعة الثقافيّة العربيّة الموسيقيّة، موجودةٌ في هذا التنوّع الكبير من المشرق للمغرب، ولا أستطيع تجاهله، لكن على أن تكون موسيقى لديها الطّابع الفلهارموني الأوركسترالي."

الغرب متعطّش لتجارب موسيقيّة جديدة

ويؤكد خليفة أنّ الغرب متعطّشٌ لتجارب ومؤلّفات موسيقيّة جديدة، ويقول: "من قاد الكونشرتو العربيّ هو لورين مازيل، وعمره ثمانون عامًا، وهو من أوائل قادة فرق الأوركسترا الكبار، وكان يقدّم هذا العمل بفرح، كونه مقترحًا جديدًا للسّمع."

ويخلص خليفة إلى القول: "إنّ العالم بحاجةٍ لشيءٍ جديد، فهم يستطيعون سماع بيتهوفن من فرقة أوركسترا برلين، أو البوليرو من الأوركسترا الوطنيّة الفرنسيّة، ولكنهم لا يستطيعون سماع الأعمال النّابعة من بيئتنا وتراثنا، إلاّ إذا كان هناك مؤلّفون لها."

التعليقات