"كماين الطوب"... هل تندثر مأثرة النيل التي شيدت الخرطوم؟

من مآثر نهر النيل في السودان، "الكماين" أو "كماين الطوب"، ذلك الاسم الشعبي الذي يطلق على ورش تقليدية لصناعة "اللبن المحروق"، أو ما يعرف محليا بـ "الطوب الأحمر"، لكنها بعد قرنين من الازدهار ربما هي في طريقها للاندثار.

من مآثر نهر النيل في السودان، "الكماين" أو "كماين الطوب"، ذلك الاسم الشعبي الذي يطلق على ورش تقليدية لصناعة "اللبن المحروق"، أو ما يعرف محليا بـ "الطوب الأحمر"، لكنها بعد قرنين من الازدهار ربما هي في طريقها للاندثار.

ويعود تاريخ هذه الصناعة بشكلها الحالي إلى ثمانينيات القرن الـ19، حيث بقيت منتعشة بعد ذلك كواحدة من أعمدة البناء في هذا البلد.

ورغم أن هذه الورش منتشرة في مختلف أنحاء السودان، إلا أنها تتركز على طول مجرى النيل، للاستفادة من لزوجة الطمي، الذي يضمن صلابة الطوب المصنع منه.

وضمن خطوات مرهقة، يبدأ العمل في "الكماين" بعجن الطمي، بعد خلطه بروث البهائم، ثم صبه على معاول حديدية، تعطي الطوبة شكلها المستطيل.

بعدها يتم نشر الطوب في مساحات واسعة مكشوفة تحت الشمس لكي يجف، قبل البدء برصه، على مساحة بنحو 20 مترا مربعا، مع ارتفاع قد يزيد على 10 أمتار، يطلق على الواحدة منها اسم "كمينة".

وتستلزم هذه المهمة ترك فراغات بين الطوب، الذي يرصه العمال وكأنهم يشيدون سلما، حتى يتسنى لهم بلوغ الارتفاع اللازم، ومن ثم حشو الفراغات بحزم من الحطب، تشعل فيها النار.

تترك النار مشتعلة طوال ساعات، لتساعد على منح قطع الطوب الصلابة اللازمة، وبعد ذلك يصعد العمال مجددا إلى أعلى "الكمينة" لإنزال المنتج ورصه، ليكون جاهزا للبيع.

ورغم أن "الطوب الأحمر" كان معتمدا، تاريخيا، في عمليات البناء عند أكثرية السكان، إلا أنه بدأ بالتراجع خلال الأعوام الماضية، لمصلحة الطوب المصنوع من الأسمنت.

لكن إسحاق داؤود، الذي يعمل في واحدة من "الكماين" على ضفاف نهر النيل بمنطقة "الجريف" شرقي العاصمة الخرطوم، يجادل بأن الطوب الأحمر "سيحتفظ" بسوقه رغم بعض التراجع.

واستشهد داؤود بـ "صلابة" الطوب الأحمر، مقابل "هشاشة" الطوب المصنوع من الإسمنت، ويتآكل تدريجيا لكونه "مجوفا".

غير أن مهندس البناء عبد الباقي عبد الله، يرى أن كل المنشآت التي شيدت مؤخرا بالطوب الإسمنتي "تقف شاهدة على متانته".

مع ذلك يقر عبد الله بأن الطوب الأحمر "لن يتلاشى بشكل نهائي، رغم تراجعه لصالح الطوب الإسمنتي".

ولا تقف العقبات في وجه "الكماين" عند الجانب التسويقي، بل إن السلطات أخذت الطوب الإسمنتي ذريعة لإغلاقها، بسبب مخاوف "صحية وبيئية" من استخدام روث البهائم، والدخان الذي يتصاعد بكثافة من هذه الورش الشعبية.

ورغم قرار السلطات الذي اتخذته في 2015، إلا أن الورش، وعددها 900 ورشة، يعمل بها نحو 300 ألف عامل، لا تزال في الخدمة، كما يقول عبد العزيز بشير، الذي يملك واحدة من "الكماين"، في منطقة الجريف.

ويشتكي بشير من دفع "غرامات متواصلة للسلطات، نظير استمرارنا في العمل، تبلغ 5 آلاف جنيه (746 دولارا) للمالك وألف جنيه (149 دولارا) للعامل".

ويربط الرجل، بين ملاحقتهم ورغبة السلطات في تشييد مشاريع ومنتجعات سياحية، عوضا عن ورشهم، الواقعة على ضفتي النهر.

وبالنسبة إلى أحمد مصطفى، أحد العمال لدى ورشة بشير، فإن ما يحزّ في نفسه "ترك مهنة أحبها، وورثها عن أجداده".

ويعتقد مصطفى أن ملاحقة السلطات التي تعطل العمل في كثير من الأحيان، هي التي قد "تقضي" على حرفتهم، وليس منافسة الطوب الإسمنتي.

وسواء قضت المطاردة الحكومية على "الكماين" أم لا، فإن أبرز معالم الخرطوم ستقف شاهدة على أثر الطوب الأحمر في بنية العاصمة، مثل القصر الجمهوري، الذي شيد عام 1832.

التعليقات