"نياندرتال": لغز الإنسان الأوّل

أكّدت الاكتشافات اللاحقة لبقايا إنسان نياندرتال في أوروبا وآسيا وجود هذا النوع البشريّ المتميّز، وتمّ تسمية إنسان نياندرتال على اسم وادي نياندر حيث تمّ العثور على أوّل هيكل عظميّ

مجسّم إنسان نياندرتال(Getty)

أعلن باحثون في معهد "ماكس لانك" عن قيامهم ببناء الجينومات البكتيريّة غير المعروفة سابقًا، من أسنان متكلّسة من بقايا إنسان النياندرتال، حيث استطاع العلماء من خلال ذلك، بناء منصّة للتكنولوجيا الحيويّة للبكتيريا القديمة، والتي استطاعوا من خلالها إعادة تكوين البكتيريا الحيّة في المختبرات.

وتمّ التعرف على ميكروبات يصل عمرها إلى أكثرم من 100 ألف عام، في لوحة الأسنان لإنسان نياندرتال، والذي يفتح نافذة على الماضي البعيد لفهمه واستكشافه، بالإضافة إلى إمكانيّة توفير فرص جديدة لاكتشاف بعض الأدوية الحديثة، حيث أجريت هذه الدراسة على 12 إنسان نياندرتال، و34 هيكلًا عظميًّا بشريًّا، يعود تاريخها إلى حوالي 30 ألف سنت مضت، بالإضافة إلى هياكل عظميّة بشريّة معاصرة.

وإنسان نياندرتال هو نوع منقرض من البشر عاش في أوروبا وأجزاء من آسيا منذ حوالي 400000 إلى 40000 عام، ويعتبر أقرب الأقارب التطوّريّين للإنسان الحديث، كما يقدّم لمحة فريدة عن ماضينا التطوّريّ. في السنوات الأخيرة، ألقت الاكتشافات الجديدة والتطوّرات التكنولوجيّة مزيدًا من الضوء على إنسان نياندرتال وطريقة حياتهم، وتمّ اكتشاف أوّل هيكل عظميّ لإنسان نياندرتال في عام 1856 في وادي نياندر بالقرب من دوسلدورف بألمانيا، وتمّ الاكتشاف من قبل مجموعة من العمّال الّذين كانوا ينقبون في كهف، حيث كان يعتقد في البداية أنّ الهيكل العظميّ هو هيكل إنسان حديث، ولكن عند الفحص الدقيق، تمّ تحديده ليكون شيئًا مختلفًا، إذ كانت الجمجمة ممدودة، وجبهة منخفضة ومنحدرة، وكانت العظام أثقل وسمكًا من عظام البشر المعاصرين.

جماجم نياندرتال (Getty)

وأكّدت الاكتشافات اللاحقة لبقايا إنسان نياندرتال في أوروبا وآسيا وجود هذا النوع البشريّ المتميّز، وتمّ تسمية إنسان نياندرتال على اسم وادي نياندر حيث تمّ العثور على أوّل هيكل عظميّ، وتمّ تكييف الخصائص الفيزيائيّة لإنسان نياندرتال للعيش في المناخات الباردة، مع بنية ممتلئة وأطراف قصيرة ساعدت في الحفاظ على حرارة الجسم، حيث كان لديهم أنف كبير وواسع وحافّة جبين بارزة تمنحهم مظهرًا مميّزًا للوجه، وكان متوسّط ​​ارتفاع ذكر إنسان نياندرتال أطول من الأنثى، كما كانت أدمغتهم أكبر قليلًا من أدمغة البشر المعاصرين، لكنّ جماجمهم كانت ممدودة وجبهة سفليّة مائلة.

ويعتبر علماء أنّ أسلوب حياة وثقافة إنسان نياندرتال تعتمد على الصيد وجمع الثمار والعيش في مجموعات صغيرة، حيث كانوا في المقام الأوّل من الحيوانات آكلة اللحوم، ويصطادون الحيوانات الكبيرة مثل البيسون والماموث ووحيد القرن الصوفيّ، كما أكلوا حيوانات أصغر مثل الغزلان والخنازير البرّيّة، وجمعوا التوت والجوز والنباتات الأخرى، وعاش إنسان نياندرتال في كهوف أو هياكل بسيطة مصنوعة من الأغصان وجلود الحيوانات. استخدموا الأدوات الحجريّة، الّتي صنعوها عن طريق التقطيع في الصخور لإنشاء حوافّ حادّة للقطع والكشط. كما استخدموا أدوات العظام المصنوعة من عظام الحيوانات الّتي اصطادوها. تمّ استخدام هذه الأدوات في مجموعة متنوّعة من المهامّ، بما في ذلك ذبح الحيوانات وقطع الأخشاب وكشط الجلود.

مجسّم إنسان نياندرتال (Getty)

وأظهرت الدراسات الحديثة أنّ إنسان نياندرتال لم يكن بدائيًّا كما كان يعتقد سابقًا، إذ كان لديهم بنيّة اجتماعيّة معقّدة، وكانوا يعتنون بمرضاهم ومصابيهم، وربّما كان لديهم شكل من أشكال اللغة، حيث يتّضح هذا من خلال اكتشاف القبور، ممّا يشير إلى أنّ إنسان نياندرتال كان يدفن الموتى بالزهور وغيرها من القرابين، كما قاموا بصنع أشياء زخرفيّة من الأصداف والعظام، ممّا يدلّ على وجود حسّ فنيّ وإبداعيّ.

وأظهرت الدراسات الجينيّة أنّ إنسان نياندرتال والإنسان الحديث قد تزاوج منذ حوالي 50000 إلى 60.000 سنة، على الأرجح في الشرق الأوسط، ونتيجة لذلك، يحمل البشر المعاصرون من أصول أوروبّيّة وآسيويّة كمّيّة صغيرة من الحمض النوويّ لإنسان نياندرتال، وقد يكون هذا التهجين بحسب دراسات، قد وفّر للإنسان الحديث بعض الصفات التكيّفيّة، مثل تحسين المناعة ضدّ الأمراض.

وأظهرت الأبحاث الحديثة أنّ التزاوج بين إنسان نياندرتال والإنسان الحديث لم يكن حدثًا لمرّة واحدة، ولكن من المحتمل أنّه حدث عدّة مرّات، ويتّضح هذا من خلال حقيقة أنّ البشر المعاصرين من أصل غير أفريقيّ يحملون الحمض النوويّ لإنسان نياندرتال بكمّيّات مختلفة. ولا يزال سبب انقراض إنسان نياندرتال محلّ نقاش بين الباحثين، حيث تشير بعض النظريّات إلى أنّ التنافس مع البشر المعاصرين على الموارد أدّى إلى زوالهم، بينما يقترح آخرون أنّ تغيّر المناخ أو المرض قد يكون له دور في ذلك. وإحدى النظريّات هي أنّ البشر المعاصرين تفوّقوا على البشر البدائيّين في المنافسة على الموارد، ممّا أدّى إلى انقراضهم، ومع هجرة البشر المعاصرين إلى أوروبا وآسيا، ربّما يكونون قد عطّلوا طريقة حياة الإنسان البدائيّ، ممّا تسبّب في انخفاض عدد سكّانهم، كما تقول نظريّة أخرى إنّ البشر المعاصرين ربّما يكونون أكثر تكيّفًا مع المناخ المتغيّر خلال هذه الفترة، ممّا يمنحهم ميزة على إنسان نياندرتال.

وبحسب الدراسة، فيعدّ تغيّر المناخ عاملًا محتملًا آخر في انقراض إنسان نياندرتال، خلال العصر الجليديّ الأخير، والّذي استمرّ من حوالي 115000 إلى 11700 عام، إذ كان المناخ أكثر برودة وجفافًا ممّا هو عليه اليوم، وكان من شأن هذا أن يضع ضغطًا إضافيًّا على إنسان نياندرتال، الّذي تكيّف بالفعل على العيش في المناخات الباردة، وربّما أدّى وصول الإنسان الحديث إلى تفاقم هذا التوتّر، ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى انقراض إنسان نياندرتال.

التعليقات