تاريخ السلاح الجرثوميّ: من الساحات العسكريّة إلى النقاشات الأخلاقيّة

تشكّل القنابل الجرثوميّة، بتاريخها الطويل وقدرتها على إحداث أضرار كارثيّة، معضلة أخلاقيّة معقّدة، فمنذ أصولها القديمة إلى تهديد الإرهاب البيولوجيّ الحديث

تاريخ السلاح الجرثوميّ: من الساحات العسكريّة إلى النقاشات الأخلاقيّة

(Getty)

ظلّ مفهوم القنابل الجرثوميّة، المعروف أيضًا باسم الأسلحة البيولوجيّة أو الأسلحة البيولوجيّة، يطارد البشريّة لعدّة قرون، حيث تستخدم أدوات الحرب الخبيثة هذه الكائنات الحيّة الدقيقة المسبّبة للأمراض، مثل البكتيريا والفيروسات والسموم، كأسلحة للإعاقة في الحروب والمعارك، وعلى مرّ التاريخ، تمّ استخدام القنابل الجرثوميّة وتطويرها وإدانتها.

وتشكّل القنابل الجرثوميّة، بتاريخها الطويل وقدرتها على إحداث أضرار كارثيّة، معضلة أخلاقيّة معقّدة، فمنذ أصولها القديمة إلى تهديد الإرهاب البيولوجيّ الحديث، شكّلت هذه الأسلحة تحدّيًا للمجتمعات والحكومات للتعامل مع قضايا الحظر والمسؤوليّة والاستعداد.

ويرجع استخدام القنابل الجرثوميّة إلى العصور القديمة، حيث أدركت الحضارات المبكّرة إمكانيّة استخدام الكائنات الدقيقة كشكل من أشكال الحرب البيولوجيّة، ويعتقد أنّ الحيثيّين، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، استخدموا هذا التكتيك أثناء حصار مدينة كركميش، وبالمثل، في القرن الثامن عشر، أفادت التقارير أنّ القوّات البريطانيّة وزّعت بطّانيّات مصابة بالجدريّ على السكّان الأمريكيّين الأصليّين خلال الحرب الفرنسيّة والهنديّة، وتظهر هذه الأمثلة إدراكًا مبكّرًا للقوّة التدميريّة للجراثيم كأداة للحرب.

وأحدثت أهوال الحرب العالميّة الأولى تحوّلًا كبيرًا في استخدام القنابل الجرثوميّة وتطويرها، حيث خلال هذه الفترة، استكشفت عدّة دول إمكانات الأسلحة البيولوجيّة، بما في ذلك استخدام عوامل مثل الجمرة الخبيثة والطاعون، وكانت الحالة الأكثر شهرة هي الوحدة اليابانيّة 731، الّتي أجرت تجارب مروّعة على البشر في سعيها لتطوير أسلحة بيولوجيّة، ومع ذلك، فإنّ بروتوكول جنيف لعام 1925، على الرغم من العيوب في البداية في آليّات تنفيذه، كان بمثابة المحاولة الأولى في العالم للحدّ من استخدام الأسلحة البيولوجيّة والكيميائيّة، وفي حين أنّها حظرت استخدام القنابل الجرثوميّة في الحرب، إلّا أنّها لم تمنع صراحة البحث والتطوير فيها.

وشهدت حقبة الحرب الباردة تصعيدًا كبيرًا في تطوير الأسلحة البيولوجيّة، حيث استثمرت القوّتان، الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتيّ، بكثافة في أبحاث الأسلحة البيولوجيّة، وكان "برنامج الأسلحة البيولوجيّة" التابع للولايات المتّحدة و"التحضير البيولوجيّ" التابع للاتّحاد السوفييتيّ عبارة عن جهود مترامية الأطراف وسرّيّة تهدف إلى تطوير وتخزين القنابل الجرثوميّة، حيث ركّزت الأبحاث على العوامل شديدة العدوى مثل الجمرة الخبيثة والجدريّ والتولاريميا، ووقد ساهمت الطبيعة السرّيّة لهذه البرامج وغياب الرقابة الدوليّة في تسريع أبحاث الأسلحة البيولوجيّة، كما تراجعت المخاوف الأخلاقيّة إلى مرتبة متأخّرة أمام مصالح الأمن القوميّ، وأصبح تطوير القنابل الجرثوميّة المتزايدة القوّة أولويّة، كما خلقت فترة الحرب الباردة مناخًا خطيرًا بدا فيه الاستخدام المحتمل للقنابل الجرثوميّة بمثابة احتمال مرعب.

وكانت اتّفاقيّة الأسلحة البيولوجيّة، الّتي تمّ تبنّيها في عام 1972، بمثابة خطوة حاسمة في تنظيم القنابل الجرثوميّة، حيث هدفت هذه المعاهدة الدوليّة إلى حظر تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجيّة ووسائل إيصالها، وخلافًا لسابقتها، بروتوكول جنيف، كانت اتّفاقيّة الأسلحة البيولوجيّة ملزمة قانونًا، ومع ذلك، فقد واجهت تحدّيات كبيرة من حيث التحقّق والإنفاذ.

وكان أحد أوجه القصور الرئيسيّة في اتّفاقيّة الأسلحة البيولوجيّة هو الافتقار إلى آليّة قويّة للتحقّق، وعلى عكس اتّفاقيّات الحدّ من الأسلحة النوويّة، الّتي تتضمّن عمليّات تفتيش ومراقبة صارمة، تعتمد اتّفاقيّة الأسلحة البيولوجيّة بشكل كبير على التقارير الذاتيّة والثقة بين الدول الأعضاء، وهذا القيد يجعل من الصعب تقييم الامتثال بشكل فعّال، كما استمرّت الادّعاءات بوجود برامج أسلحة بيولوجيّة سرّيّة.

وفي العقود الأخيرة، اتّخذ تهديد القنابل الجرثوميّة بعدًا جديدًا مع ظهور جهات فاعلة من غير الدول وجماعات إرهابيّة، وقد أثارت سهولة الوصول إلى المعلومات والموادّ، إلى جانب التقدّم في مجال التكنولوجيا الحيويّة، مخاوف بشأن احتمال وقوع هجمات إرهابيّة بيولوجيّة على نطاق صغير، كما أنّ استخدام القنابل الجرثوميّة من قبل جماعات خارجة على القانون يمثّل معضلة أخلاقيّة لأنّه يطمس الخطوط الفاصلة بين الحرب التقليديّة والأعمال الإرهابيّة، ممّا يشكّل تحدّيات فريدة للأمن القوميّ والصحّة العامّة.

كما أدّت التطوّرات الحديثة في علوم الحياة إلى نقاش حول الأبحاث ذات الاستخدام المزدوج، وتشير الأبحاث ذات الاستخدام المزدوج إلى الدراسات العلميّة الّتي كان لها تطبيقات مفيدة وربّما ضارّة، وفي حين أنّ هذه الدراسات يمكن أن تعزّز فهمنا للمرض وتطوير التدابير المضادّة، إلّا أنّها تنطوي أيضًا على إمكانيّة إساءة استخدامها لتطوير القنابل الجرثوميّة، كما أنّ إيجاد التوازن بين الحرّيّة العلميّة والأمن القوميّ يشكّل تحدّيًا أخلاقيًّا معقّدًا.

اقرأ/ي أيضًا | موسكو: كييف تتستّر على آثار برنامج "أسلحة بيولوجيّة" مموّل أميركيًّا
وتدور إحدى المناقشات الأخلاقيّة المركزيّة المتعلّقة بالقنابل الجرثوميّة حول التوتّر بين الحظر والاستعداد، حيث ويطالب البعض بفرض حظر كامل على أبحاث القنابل الجرثوميّة وتخزينها، مشدّدين على العواقب الكارثيّة لاستخدامها، كما يؤكّد باحثون أنّ الاستعداد أمر ضروريّ، نظرًا لتهديد الإرهاب البيولوجيّ القائم، ويدعوون إلى مواصلة البحث في اللقاحات والعلاجات للتخفيف من الضرر الناجم عن القنابل الجرثوميّة، كما أنّ مسألة المسؤوليّة الأخلاقيّة هي جانب أخلاقيّ حاسم آخر، حيث تتصارع الحكومات والعلماء المشاركون في أبحاث القنابل الجرثوميّة مع التزامهم الأخلاقيّ بمنع إساءة استخدام اكتشافاتهم، ويشير مبدأ "مسؤوليّة الاستخدام المزدوج" إلى أنّه ينبغي للعلماء أن يدرسوا بنشاط الضرر المحتمل الّذي يمكن أن تسبّبه أبحاثهم وأن يتّخذوا الخطوات اللازمة للتخفيف من تلك المخاطر، وهذا يثير تساؤلات حول دور العلماء ومسؤوليّة المؤسّسات في تنظيم الأبحاث الّتي يحتمل أن تكون خطرة والإشراف عليها.

ويمتدّ النقاش الأخلاقيّ أيضًا إلى التوازن بين الأمن القوميّ والخصوصيّة الفرديّة، وفي سعيها لمنع الإرهاب البيولوجيّ، قد تلجأ الحكومات إلى تدابير المراقبة الّتي تنتهك الحرّيّات المدنيّة، كما أنّ إيجاد التوازن الصحيح بين التدابير الأمنيّة والحقوق الفرديّة يظلّ قضيّة أخلاقيّة مثيرة للجدل.

التعليقات