إسرائيل والقوانين الدولية: إزدواجية ساطعة‬/ المحامية سمر خميس

إسرائيل والقوانين الدولية: إزدواجية ساطعة‬/ المحامية سمر خميس
تداعيات كثيرة وليست بجديدة خطرت في بالي مع الاطلاع على آخر اقتراحات وزير القضاء الإسرائيلي، دانيئيل فرديمان، يطرح فيها الوزير مسودة لتعديل قانون أساس: " كرامة الإنسان وحريته "، والذي تهدف لتقويض مساحة التحكيم حول قضايا التجنس، الدخول إلى إسرائيل وحول قانون العودة.

ليس بالغريب أن نصحو على مثل تلك المسودة؛ في تأتي لتنضمّ إلى جوقة القلقين على التوزيعة القومية والجغرافية لسكّان إسرائيل والحريصين على تخليد الأكثرية المطلقة ليهودية الدولة- عدديًا وجوهريًا. وليس بالمفاجئ أن تأتي مثل هذه المُسوّدة قبيل الذكرى السّتين للنكبة، وإن سُألتُ لأجبتُ بأنها نكبة تتجسّد أولا وأخيرًا باللاجئين الفلسطينيين الذين استطاعوا، من منفاهم، المحافظة على استمرارية وحياتية ما يُنعت بالقومية الفلسطينية؛ قومية بالمفهوم القانوني التاريخي التُي تُنسب إلى العضوية في مجموعة عينية، تكون مبنية على الهوية الذاتية .

وفي حالة الفلسطينيين، فهم يطمحون لتسييسها، أي لممارستها بالسيادة، والبعض قد يدّعي استعادة السيادة على أرض فلسطين. لن أدخل في حيثيات الفروقات بين وجهتيْ النظر هاتين، فالاثنتان قد تكونان صحيحتين من منظار القانون الدولي، بل اكتفي بالجزم أنّ الشعب الفلسطيني، على غرار شعوب أخرى جراء الحرب العالمية الثانية ونشوء الأمم المتحدة، لم يتمتع بحق تقرير مصيره. وهنا لا بدّ من التشديد على أنّ هذا الحق لا يُنتزع من مجموعة، لا سيما المُلقبين بعرب 48، لكونهم حاصلين على جنسية (وليس القومية) الدولة الجديدة، فقط؛ فقد تختلف أشكال تجسيد حق تقرير المصير وفقا للظروف، إلا أنّ هذا لا يفند الادعاء بأنّ الشعب الفلسطيني -أينما كان- حُرم من هذا الحق.

وعودة لاقتراح الوزير فريدمان: ففيما يستند الوزير، أيضًا، على معايير دولية في كلّ ما يخصّ الدولة السيدة في السيطرة على حدودها، بما في ذلك القول الفصل في من يستحق الدخول والبقاء والتجنس فيها، للحفاظ على النسيج القومي الحالي، لا بدّ من الإدلاء ببعض التحفظات الجوهرية على مثل هذا الاقتراح من منظور قانوني سياسي.

ملاحظة 1: لا شكّ في أنّ النظام العام الدولي كان وما زال متمسكا بمبدأ السلامة الاقليمية (territorial integrity) والوحدة السياسية (political unity)، لا سيما في عهد العولمة الحاضر، واللذين يؤلفان معًا مبدأ السيادة الدولية (sovereignty) والمعرف بحصرية سلطان الدولة على قضائها حتى إقصاء أيّ تدخّل خارجيّ.وبقدر صحة المعطى أعلاه، أضحى المجتمع الدولي واعيًا لحاجة وضرورة التعاون الدولي وإبرام الاتفاقيات، لا سيما الوثائق الحقوقية، خصوصًا مع بزوغ مبادئ ومعايير جديدة موافق عليها عالميا كحقّ تقرير المصير للشعوب من جهة، وريادة مجال حقوق الانسان في القانون الدولي، من جهة أخرى.
وهي اتفاقيات تدلّ من دون أدنى شكّ على أنّ الدول تنازلت عن حقها في أن تُترك لشأنها، بل حددت, بموافقتها, صلاحياتها وأصبحت معرضة لتدخل ومساءلة دولييْن.

وفيما يتعلق بقوانين الهجرة والتجنس في دولة معينة، فإنّ الجنسية (nationality) من منظار القانون الدولي هي حالة كون الفرد خاضعًا لدولة معينة، وبالتالي فهي تفتقر للدلالة الإثنية، بينما في حالة إسرائيل الكلّ على علم بأنّ هنالك نظاميْن مختلفيْن جوهريًا لاكتساب الجنسية الاسرائيلية :الأول لليهود والآخر لغير اليهود. وفي حين يمنح قانون العودة لأيّ يهوديّ -كونه يهوديًّا- الحق في الإقامة داخل حدود دولة إسرائيل والحصول على الجنسية الإسرائيلية، وفقا لمبدأ علاقة الدم– jus sanguinis، فإنّ قانون المواطنة في إسرائيل منح الفلسطينيين فيها، الجنسية بداية، بناءً على وجودهم في ضمن حدود الدولة بعيد نشوئها، ولاحقا لنسلهم، وفقا لمبدأ علاقة الدم.

(مع ذلك، من الهامّ التذكير من جهة بوجود عشرات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل معدومي المكانة القانونية، وذلك "لعدم" وجود اثباتات لوجودهم في فلسطين قبيل نشوء إسرائيل وإثباتات لبقائهم داخل حدود الدولة بعد نشوئها، وهو الوضع الذي منحهم تسمية: "حاضرين- غائبين". كما يجدر التنويه من جهة أخرى (كاستمرارية لسياسات التمييز بما يتعلق بالتجنس الاسرائيلي) إلى أنه ووفقا لأحد بنود الدستور المقترح على يد المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، والذي يمنح غير اليهودي إمكانية توريث الجنسية الإسرائيلية لنسله، فقط، في حالة وُلد المُورِّث في إسرائيل، هذا عدا عن تبني هذا الدستور المقترح، وبالكامل، لقانون العودة, بكلمات أخرى: يمكن لمواطنين إسرائيليين (من غير اليهود) يقطنون خارج حدود إسرائيل التمتع بتوريث الجنسية مرة واحدة، بينما في حال وُلد الجيل الجديد خارج اسرائيل وبقي هناك، فلن يتمكن من توريث جنسيته لنسله، وعليه فهذه محاولة جديدة لخلق لاجئين جدد (stateless people).

إذًا، تكتسب الجنسية الإسرائيلية دلالات مختلفة من مجرّد كون الفرد خاضعًا لـ أو مواطنًا في دولة إسرائيل، والأنكى من ذلك أنّ الهوية الإثنية/الدينية هي المقياس الأوّلي للحصول على الجنسية الإسرائيلية.

ومن المسلم به أنّ حق الدولة في تحديد من هو مواطن/ليس بالمواطن، هو عنصر أساسي من عناصر السّيادة. ومع ذلك، فإنّ المسألة تقع على حدود الاختصاص الحصريّ للدولة. وبالرغم من عدم وجود التزامات ومعاهدات من شأنها أن تنظم اكتساب الجنسية عن طريق القانون الدوليّ، فإنّ الدول -وفي عصر توسّع ميدان حقوق الانسان- مُخولة اتخاذ قرار بشأن هذه المسألة إلى الحدّ الذي يتوافق والتزامات حقوق الإنسان العالمية.

فعلى سبيل المثال، في أحد البحوث التي أجريت في كلية "هارفارد" للقانون والمتعلقة بالجنسية، أُقرّ أنّ القانون الذي يُجنّس كلّ الأشخاص المقيمين خارج نطاق الدولة المعينة ولكن في حدود 500 ميل من حدودها، أو القانون الذي يُجنّس جميع الأشخاص في العالم المنتمين لعقد ديني سياسي او عرقي معين- من شأن هذيْن القانونين تجاوز الحدود التي يرسمها القانون الدولي.
كيف سيعلل فريدمان، إذًا، توافق قانون العودة مع القانون الدوليّ الذي يحاول هو الاستناد عليه لدعم اقتراحه؟

ملاحظة 2: المشكلة تكتسب حدة أكبر حين نقارن قانون العودة بنظام التجنس المعطى للعرب، حيث تستحضر هذه المقارنة بعدًا آخر لا بدّ من النظر اليه، وهو توافق هذا القانون والمبدأ الرائد في مجال حقوق الإنسان الدولي، وهو المساواة وحظر التمييز، المنصوص عليه في مختلف الاتفاقيات الدولية، لا سيما تلك التي تُعدّ دولة إسرائيل طرفا فيها.

وكما أسلفت سابقا، فإنّ نظام التجنس في إسرائيل يحمل طابعًا قوميًّا، حيث أنّ هناك نظامًا خاصًا باليهود وآخر لغير اليهود- هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، عدا عن التقييدات في قانون المواطنة الاسرائيلي لإمكانية التجنس لغير اليهود، فإنّ قانون الدخول إلى إسرائيل وقانون المواطنة )مؤقت( يحظران على أيّ مواطن/مواطنة إسرائيلي/ه تقديم طلب للمّ الشمل مع مقيم/ه فلسطيني/ه من المناطق المحتلة، مع استثناءات معينة.

وفي حين يُميّز الأول بين حق مواطني الدولة في كيفية حمل الجنسية الإسرائيلية ونطاقها، بحيث يقسَّم المستفيدون من الحقّ بحسب انتماءاتهم العرقية والدينية ووفقا لها يوسع/يضيق نطاق الحق في الجنسية، فإنّ الثاني يتعامل مع جميع مواطني الدولة بشكل متساو ويمنعهم جميعًامن إمكانية لمّ الشمل مع فلسطينيين من المناطق المحتلة. الإثنان على حدٍّ سواء يتناقضان مع المعاير والمبادئ والقوانين الدولية.

فالأوّل يميّز ضد مجموعات متساوية داخل حدود الدولة (كونهم جميعًا مواطنين) على أساس عرقيّ، وبالتالي عنصريّ، بحيث يوفر للمجموعة اليهودية معاملة مفضلة في كل ما يتعلق بالجنسية، في حين أنّ الهدف المعلن من تلك المعاملة هو جمع يهود الشتات في دولة إسرائيل والمحافظة على الأغلبية اليهودية العظمى في الدولة.

أما الثاني، ورغم كونه ساريَ المفعول بشكل مُتساو على جميع المواطنين، إلا أنّ الأغلبية العظمى ممّن يمارسون الحقّ في لمّ شمل الأسرة مع طرف من المناطق المحتلة هم هم العرب مواطني دولة إسرائيل، وعليه فإنّ الأضرار الكامنة في القانون تؤثر بشكل ساحق عليهم، وليس على اليهود الإسرائيليين.
وهكذا، فإنّ التمييز في معاملة مجموعات (مواطنين) متساوية، يتوخى مباشرة من نتائج القانون التي تؤثر سلبًا وحصريًا على المواطنين العرب. فكيف يتماشى هذا التمييز مع القانون الدولي؟

ما يتوجّب فحصه، وفقا للقانون الدوليّ، هو ما إذا كان التمييز يسعى إلى هدف مشروع وما إذا كانت الوسائل المستخدمة معقولة، في سبيل تحقيق الهدف المنشود. وبناءً على تصريح الدولة أمام المحكمة العليا،إثر الالتماس المقدم من هيئات حقوقية المُطالبة بإبطال هذا المنع، فإنّ الهدف من وراء هذا المسّ هو المحافظة على الأمن الوطنيّ. وحول صحّة ومصداقية هذا الهدف سبق وتحدث الكثيرون، لا سيّما مؤسسات حقوقية محلية وعالمية مستندة على تصريحات وزارية إسرائيلية، بأنّ الهدف الأساسي هو السيطرة على ديمغرافية الدولة والحفاظ على النسيج العرقي الآنيّ.
مرة أخرى، نحن بصدد ذات النفسية الإستعمارية التي تحيط بقانون العودة، حيث يمتاز العرق اليهوديّ من خلالها بحقوق مُفضّلة، ويعاني الآخر، غير اليهوديّ، كونه ينتمي إلى العرق العربي، مسًّا بحقوقه الأساسية وذلك لأهداف من غير الممكن أن تتماشى والمعايير والقوانين الدولية.

ملاحظة 3: هنا سأتطرّق ثانية إلى الإزدواجية في الاعتماد على القانون الدوليّ لدعم اقتراحات وقوانين إسرائيلية، ومن جهة أخرى التنصّل من احترام المعاهدات والإلتزامات الدولية، أثناء وضع مختلف التشريعات والسياسات العامة الإسرائيلية، ولكنني سإفعل ذلك هذه المرة من وجهة نظر تاريخية- قانونية.

فحين يدّعي الوزير أنه يحقّ لدولة إسرائيل السيطرة على حدودها والسيطرة على النسيج القومي، وبالتالي تقويض إمكانية الاعتراف والتفاوض حول حق اللاجئين الفلسطينيين بالعوده إلى ديارهم، فلا بدّ من مساءلة ظروف قيام دولة إسرائيل، قانونيًا. ولهذا وجهان: الأول، وجود كيان فلسطينيّ آنذاك شكّل وحدة سياسية منظمة تحمل ميزات وهوية سياسية ثقافية اجتماعية جمعية واضحة، الأمر الذي يُفند الادّعاء بأنّ الأرض كانت خالية terra nullius، ممّا يمنح هذه الوحدة السياسية حقها في إدارة شوؤنها كشعب مستقل، كما ورد في اتفاقية "سايكس بيكو" في العام 1922، وما عُرف لاحقا بحق تقرير المصير؛ والثاني، استعمال القوه كوسيلة أولى لتجريد أرض فلسطين من سكانها الأصلانيين وتقويض الوحدة السياسية الفلسطينية، وبالتالي الحيلولة دون تحقيق السيادة الفلسطينية جراء انسحاب القوات الأجنبية وانتهاء الانتداب البريطاني.

المُميّز حقا هو حدوث ذلك بعد سنوات قليلة من قيام الأمم المتحدة ونصّ الميثاق بموافقة الدول المجتمعة ، الذي شكّل سابقة في تاريخ المجتمع الدولي، حيث نصّ على حظر استعمال القوه في العلاقات الدولية، إلا في حالة الدفاع عن النفس، وذلك فقط باستيفاء شروط صارمة.

والمثير أكثر، أنّ تلك الدول المجتمعة وجدت نفسها، عقب قيام دولة إسرائيل، داعمة لاستقلال مجموعة عنيفة ولحقها في تقرير مصيرها، بينما تعاملت مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين وأفراد وليس كقضية جماعية لشعب حُرم من الحقّ في تقرير مصيره.

على المساءلة ألا تكون عن طريق السّلب، بمعنى مَحو الماضي وعدم الاعتراف بالكيان اليهوديّ الموجود اليوم على جزء من أرض فلسطين التاريخية؛ فالظروف تغيّرت والمجموعة الأولى تحوّلت إلى شعب إسرائيلي يحمل حقوقًا دولية معترفٌ بها، بل على العكس: على المساءلة أن تكون عن طريق الإيجاب.

وعند النظر في وضعية الأقلية الأصلانية الفلسطينية، فعلى الحلّ أن يكون من منظار نظرية الحقوق المصلحة– العلاجية (remedial rights theory )، وهي نظرية وصلت ذروتها في العام 2007 مع اعتماد الاعلان عن السكان الاصلانين من الجمعية العامة للأمم المتحدة. حيث ناقشت الجمعية العامة الإعلان من منطلق تصحيح المظالم التاريخية واعتراف السكان الأصلانيين من حيث المبدأ كأصحاب حقّ بالمطالبة بحقّ تقرير المصير، وإن كان ذلك في أضيق طريقة، مثل مظاهر الاستقلال أو الحكم الذاتي.

يضرب الوزير فريدمان في اقتراحه لتعديل قانون اساس: كرامة الإنسان وحريته ، القانون والمعايير الدولية، عرض الحائط، حين يُجرّد الفلسطينيين في إسرائيل، مُجدّدًا، من حقوقهم الجمعية المعترف بها كأقليه أصلانية، ومن حقوقهم الفردية، من جهة أخرى، لا سيّما بناء الأسرة والتواصل الثقافي مع باقي أبناء الشعب الفلسطيني.

التعليقات