أم تحرير تنتظر تحرير زوجها الأسير

وعن السعادة المفقودة والأمل القادم تقول ام تحرير: "تكتمل سعادتي بتحرير أبي تحرير وبزواج بناتي وابني، واستكمال تعليمهم جميعًا، وحينها، ربما يتسنى لي أن أتابع تعليمي أنا أيضًا، إن أعطاني الله العمر المديد".

أم تحرير تنتظر تحرير زوجها الأسير

سجنُ زوجها ينتهي بعد خمسِ سنوات، أما سِجنها هي وأبناءها فأصعبُ مِن الحكم الإداري بكثير...عنَ حياتها، ماضيها ومستقبله وشوقها الكبير للقاءِ زوجها ودفعِ بناتها وابنها في طريق العلمِ والنجاح، تحدثنا آمنة منصور المرأة الصلبةٌ كالحديد والرقيقةُ كالورد.

 
التقيتُها في بيتها في جت المثلث، انتظرتني قربِ بيتِ حماها، قادتني إلى بيتها، طريقٍ ترابيٍ متعرّج، ومِن الناحيتين ألواحٌ خشبية، عُلقت عليها بعضُ القماشات الثقيلة، وبألوانٍ مختلفة، وفي نهاية الطريق مركبةٌ قديمة مُعطلة، تحجِبُ بيتها عنِ بيتِ دارِ عمِها (حماها)... "إنه جدار الفصل العنصري"، ضحكتْ، لكنني لم أفهم لحظتها.
 
 حكت لي عن عائلتها المكوّنة من ثلاث صبايا هن تحرير (متزوجة) وأماني وراية، كلهن أنهيت التعليم الثانوية ويتابعن تعليمهن، أما الابن الأصغر فاسمه باسل، عمره 14 عامًا، ويومَ سُجِن زوجها الأسير محمد خلف، كان عمره سبعُ سنوات. 
 
"رغم الصعوبات..تدبرنا أمورنا"
"كان زوجي المعيل الوحيد، وحينَ تركنا، تكومت علينا الديون، وساء الوضع الاقتصادي، جمعتُ أبنائي، وقللتُ لهن بالحرف الواحد: "مِن اليوم فصاعدًا، فسنتعامل بطريقة أخرى، ليس لدينا الأموال الكافية، وعلينا أن نقتصد بمصاريفنا قدر المستطاع"، "أقمتُ حضانة منزلية"، وبدعمِ أبناء الحلال وهم كثر وبينهم جمعية يوسف الصديق، التي ساهمت في تمويل مصاريف المحامين، باختصار تدبرنا أمرنا، بصورة ليست سهلة، وقدمنا استئنافًا للحكم الصادر، لكنّ النتيجة واحدة، 12 عامًا مِن السجنِ أمضى مِنها حتى اليوم 7 سنوات".
 
ليلة القبض على محمد
تقول أم تحرير: الحكم الصادر بحقِ زوجي مُجحف، وجاء بعد إصرار النيابة على سجنه، لأنّ أفكاره، كما ادعت، "تؤدي إلى تحريض"، وتهمته كانت تشغيل عامل فلسطيني من طولكرم في سنوات الـ 2000، وانضمام الأخير إلى تنظيم سياسي، فاتُهم محمد بحيازة الأسلحة وتجارتها والاتصال بعدو وتجارة بموادٍ يُصنّع منها "مواد متفجرة"، برغم أن لا دليل يُدين زوجي.
 
اختاروا ليلة في شهر ايلول 2005، اقتحموا المنزل، وفتشوه بطريقة همجية في الساعة الواحدة والنصف ليلاً، دخلوا إلى مكان عمله المنجرة، باحثين عن شيءٍ غير موجود أصلاً، أرادوا أن يوقظي ابني الصغير، باسل، يومها كان عمره سبعُ سنواتٍ وخشيتُ عليه أن يصيبه شيء إن وجد هذه المجموعة من المسلحين فوق رأسه، قواتٌ خاصة هائلة تحرسها الكلاب دخلت البيت، بعضهم طوقّ البيت من الخارج، بعضهم صعد إلى سطح المنزل، ومنعوا الجيران مِن النظر عبر الشبابيك، وقادوه إلى سجنه الحالي في الجلبواع.
 
"حُبٌ بالمراسلة"!
تحدثني ام تحرير - وهو لقبٌ تفضله على أم باسل - لأنّها وزوجها تعاهدا على تسمية ابنهما أو ابنتهما "تحرير"، ليتفاءلا بها خيرًا أن تكون البداية لتحرير الوطنِ.
 
تقول ام تحرير: "تزوجنا في العام 1980، كانت معرفتي بمحمد خلف، من خلال شقيقيْ محمد ويوسف منصور، كان زوجي وشقيقي يوسف في سجنِ الرملة معًا، وحين نُقل شقيقي إلى سجنٍ آخر، اختارني كي أنقل له رسائله إلى محمد خلف عبر البريد، فكنتُ أبعث له برسائل إلى سجنه، ويُرسل لي ردودًا إلى عنواني البريدي، ولما لم يستطع شقيقي كتابة الرسائل طلب مني كتابة المضمون بخطي، ففعلت، وصرتُ أكتُبُ لَهُ رسائل مِن شقيقي وأضيف إليها أفكاري وآرائي، تطورت العلاقة المكتوبة بيننا، وفي إحدى رسائله شعرتُ أنه يلمِحُ لشيءٍ أبعد مِن أفكارٍ ومناقشات سياسية، فتوقفتُ عن الكتابة".
 
حين خرجَ مِن سجنه، عام 1976، التقينا وتعارفنا، وفي العام 1980، تزوجنا، كان عمري يومها 26 عامًا، سكنّا في قرية جت، حيثُ لم يكن التأقلم هناك سهلاً، لكنني في النهاية اخترتُ زوجي وأسرتي، متجاوزةً صعوبة العيشِ وتغيير العادات والتقاليد، وعزائي الوحيد أنّ زوجي يحبني ويرعاني.
 
"شقيقةُ الأبطال"
"لعلّ ما زاد مِن حُب زوجي لي، هو معرفته بشقيقايْ محمد ويوسف، فمحمد سُجن (4 سنوات)، بتهمة الانضمام إلى فتح، أما يوسف فقد اتُهم بإلقاء قنبلة على باص، وقد صدر أولُ حكمٍ في إسرائيل بحقه بالإعدام، يومها كان وقعُ النبأ مخيفًا، وكأنما في بيتنا جنازة وأمضى 15 عاما بدأها في العام 1971، ثم خرج بصفقة التبادل "لأحمد جبريل"، وهي الصفقة المُربحة يومها، بعكس صفقة شاليط، التي يسهُل القولُ عنها "خيرٌ مِن لا شيء".
 
لقاء قصير في السجن!
وتتابع ام تحرير: "أزورُ زوجي مرةً كل أسبوعين، وفي العادة ترافقني ابنتي بسيارتها، وإذا ما تأخرنا عن الموعد لخمسِ دقائق، يطولُ انتظارُنا، في عزِ البردِ أو الحرِ، نعودُ إلى البيتِ منهكين، ويُسمح لنا بالحديث مدة ساعة إلا رُبع فقط".
 
"أحدثه عن أحوالنا عن البلدةِ وأهلها، عن الراحلين، وعن الأصدقاء وعن تفاصيلنا الصغيرة، أحاول أن أركّز على الأخبار السارة حتى يشعُر أنه معنا يغمرنا بفرحه وانبساطه، نحكي الكثير، نعبر عن شوقنا جميعًا إليه، عن مشاعرنا الدفينة، عن احتياجنا لوجوده".
 
"لا تقف علاقتنا عند حدود الزيارة، بل يبرق الينا برسائله، لكلٍ فردٍ في بيتنا رسالة، فلي رسالة خاصة وشعرٌ مكتوبٌ خصيصًا لي، وكذا لبناتي وابني باسل، وبذلك نحافظ على ديمومة التواصل، ونكسر الحاجز الإسرائيلي بيننا وبينه".
 
"وحين نعود مِن زيارته إلى بيتنا نعيشُ معاناة أخرى، وحصارًا آخر فُرض علينا قسرًا، أدخل إلى بيتي، أقف في مواجهة صورته: "أقول له الله يسامحك يا أبا باسل، رحت وخليتني للمشاكل مع أهلك"، "تركتني مع أناس يفعلون ما لم يفعله المستوطنون؟!، تركتني لمجتمعٍ لا يرحم امرأة وحيدة.. لمجتمعٍ يُحارب المرأة ويستضعفها".
 
"ام تحرير"... امرأة حُرّة الإرادة!
تعترف ام تحرير أنها تُحارب لوحدها في مجتمعٍ مغلق، لكنها سعيدة لأنها قوية، وأنها خلال فترةٍ طويلة من حياتها عملت الكثير مِن أجلها هي ومِن أجلِ عائلتها، فهي قادرة على مواصلة العمل وإعالة أبنائها، حتى لو كلفها ذلك ساعاتٍ طوال من السهرِ والتعب، في سبيلهم.
 
لا تتوقف ام تحرير عن كلامها: "لا أحب نظرة التعاطف والشفقة في عيون الناس، وفي بداية سجن زوجي كانَ بعض المعارف والأصدقاء وصديقات بناتي يخافون زيارتنا، أما اليوم فالحال تغيّر، ولدي صديقات لا يفارقنني، ومعارفهن لا يتركنهن".
 
وتضيف: "لا أذكُر أنّ حياتي كانت يومًا سهلة منذ سُجن أشقائي، وحين أنهيتُ الصف الثاني عشر عملتُ في الفلاحة، لنتجاوز محنتنا العائلية، وحين تزوجت عملت في مصنع للصوف في هرتسليا، وتعلمت الرسم المعماري، وحين أنهيت التعليم عملتُ في فحص الملابس، ثم افتتحتُ دكانًا للهدايا، وانتسبتُ للجامعة المفتوحة ثم تركتها بعد سنتين، لأترك المجال مفتوحًا أمام بناتي. وعلمتُ دورات في الشطرنج في المثلث".
 
تتابع: "أحيانًا أبكي بصمتٍ، تؤخذني الأفكار وتعيدني، ثم أسكت عن البكاء كي لا يشعر أبنائي أنني ضعيفة".
 
غضب الابن
"الأمرُ ليسَ سهلاً بالنسبة لابني باسل، فقد حُرمَ من رؤيته وهو بعدُ صغير، وحين يزورُ والده، أشعرُ أنّ في عينيه غضبٌ يستعر، ولو استطاع كسر زجاج النافذة لفعل، يذهب إلى والده بشوقٍ ويعود إلى البيتِ كسيرًا، كعصفورٍ جريح".
 
السعادة المفقود والأمل
وعن السعادة المفقودة والأمل القادم تقول ام تحرير: "تكتمل سعادتي بتحرير أبي تحرير وبزواج بناتي وابني، واستكمال تعليمهم جميعًا، وحينها، ربما يتسنى لي أن أتابع تعليمي أنا أيضًا، إن أعطاني الله العمر المديد".
 
"أما عن السعادة الحالية فإنني لا أشعر بها، إنها مزيجٌ مِن انتظار الغائب والفرحةِ بوجود أبنائي حولي، لكنني أرى خارج بيتي مجتمعٌ عربيٌ ذاهبٌ إلى الهلاك، بفعلِ العنف والإجرام".
 
"وظلم ذوي القربى أشدُ مضاضةً"
كان السؤال حول "جدار الفصل العنصري" الذي حكت لي عنه في بداية لقاءنا يتردّد في ذهني فسألتها عنه "بعد سجن زوجي اكتشفتُ أنّ زوجة الأسير أو الأرملة أو المطلقة، تُصبح فريسة سهلة، بيد عائلة زوجها، كي يسيطروا على بيتها، ويحرموها مِن حقها وحق أبنائها بالحياة، وهكذا حصل معي بالفعل، توجهتُ لكثيرين كي يقفوا إلى جانبي، ولم أجد في القانونِ بندًا يحميني، ولا بصيص أملٍ خاصةً أنّ المنزل ليسَ باسمِ زوجي، كنتُ أبحث عمّن يُناصرني بعد 30 عامًا عشتهم في المنزل، لي الحق بالعيشِ الحُرِ الكريم، في بيتي مع أبنائي، فرغم مساندة أسلافي لكنْ للأسف لا تزال القضية في المحكمة، بانتظار القرار".
 
"أغضبَ زوجي أنني لم أحدثه عما يجري بهذا الخصوص، لكنه حين علم أرسل إلى والده رسالة يطالبه بإنصافنا، لكنّ ذلك لم يؤثِر".
 
"وهذا السياج الخارجي الذي قلتُ لكِ "جدار الفصل العنصري"، هو سياجٌ فرضوه علي، حتى المستوطنين لا يفعلون ما فعلوه! لكنني في النهاية عرفتُ أنّ الله معي، وأنني سأنتصر بإصراري على الصمود لحماية اسم زوجي ودعم أبنائي. هذه المعاناة، ليست ببسيطة، لكنني قوية، وبناتي واعياتٍ لِما يجري، ونشعرُ معًا بالوحدة والصمودِ في وجه ِ الظلم، كائنٌ مَن كان"!
 
قبل نهاية اللقاء سألتها، وهل مِن لحظات ندم؟، فأجابت دون تردّد "لم ولن نندم يومًا، نحنُ نُعطي مِن أجلِ غيرنا، أنا فخورة وأعتزُ بزوجي محمد، ولولا القلم والكلمة الحرة ولولا الرجال القابعون في السجنِ لما ظّلت فلسطين صامدة، لولاهم لضاعَ الوطن، هؤلاء السجناء منحونا الحرية".

التعليقات