26/10/2019 - 16:56

د. كركبي - صبّاح: العنف والجريمة وليدا تراكم عقود من التهميش والإقصاء

العنف والجريمة هما وليدة تراكم عقود من التهميش السياسي والإقصاء الاقتصادي | هناك إنجازات واندماج اقتصادي على أساس فردي لا يطال البنية الأساسية للمجتمع | الذين يهلّلون لهذه المنجزات يقيسونها نسبة إلى الماضي وليس إلى المجتمع اليهودي

د. كركبي - صبّاح: العنف والجريمة وليدا تراكم عقود من التهميش والإقصاء

من تظاهرة مجد الكروم ضد العنف الشهر الماضي (أ ب)

د. مها كركبي - صبّاح:

  • العنف والجريمة وليدا تراكم عقود من التهميش السياسي والإقصاء الاقتصادي
  • هناك إنجازات واندماج اقتصادي على أساس فردي لا يطال البنية الأساسية للمجتمع
  • الذين يهلّلون لهذه المنجزات يقيسونها نسبة إلى الماضي وليس إلى المجتمع اليهودي
  • أخفقنا كمجتمع في ثلاث دوائر هي العائلة المؤسسات التربوية والمجالس

في ورقة تقدير موقف تحت عنون "العنف في المجتمع الفلسطيني"، أرجع "مدى الكرمل" - المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقية، استفحال العنف في المجتمع العربي مقابل انحساره وتراجعه في المجتمع اليهودي الإسرائيلي في نفس أنواع الجريمة، إلى عاملين اثنين، الأول يتعلق بالمكانة الهامشية التي يحتلها الفلسطينيون على كافة المستويات داخل إسرائيل، والثاني يتعلق بالإهمال المقصود من قبل الأجهزة القانونية والشرطوية، والذي يجري تبريره بأنه "مهما استثمرت الدولة والشرطة من جهود لمكافحة الجريمة، فلن تأتِ بالنتائج المرجوة، لأن الجريمة موجودة عميقا في ثقافة العرب".

مها كركبي صباح
مها كركبي صباح

ورغم إلقاء اللوم على الشرطة، لا تغفل الورقة الأسباب المجتمعية وأنماط التربية والثقافة، على نحو لا ينفصل عن العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الصعبة، التي يعيشها المجتمع الفلسطيني في الداخل، وترتبط بمكانته السياسية في إسرائيل، والتي تدل على عنف الدولة البنيوي المنعكس في تهميش الفلسطينيين على كافة المستويات، وخاصة سياسات تضييق الحيّز والمكان والتهجير، التي تتخذ أشكالًا وأسماء مختلفة كالتطوير والتجميل، وتهدف إلى تهويد المكان، وتخلق بدورها لدى الأفراد حالات من الإحباط تدفع باتجاه العنف.

ويرى باحثون أنّ ظواهر العنف المجتمعي ازدادت وتبدلت أنماطها في مرحلة الانتقال من المجتمع القروي إلى حالة التمدن المشوه، وذلك لأن صيرورة التمدين أوقعت المجتمع العربي في ما يسمى "المدينة الوسطية"، التي فقدت الكثير من خصائص القرية ولم تكتسب الكثير من خصائص المدينة العصرية.

حول دور التحولات الاجتماعية وأثرها على تفاقم العنف والجريمة حاورنا الباحثة والمحاضرة في موضوع علم الاجتماع في جامعة حيفا، د. مها كركبي- صباح:

عرب 48: يعزو الكثير من الباحثين والمهتمين تفاقم أعمال العنف والجريمة في مجتمعنا إلى التغييرات الاجتماعية "العاصفة" التي يمر بها هذا المجتمع، والتي أسقطت منظومة القيم التقليدية التي كانت تضبطه دون خلق بدائل عصرية حديثة تحل محلها؟

كركبي صباح: لقد تأثر مجتمعنا، مثل غيره من المجتمعات الأخرى في العالم، بمظاهر العولمة والانكشاف على شبكات المعلومات ووسائط التواصل الاجتماعي، وكان لها أثر كبير على الثقافات الوطنية ومنظومات القيم المحلية، كما يجب أن لا ننسى أننا نعيش في دولة تتبنى وتسود فيها القيم والتقاليد الغربية أيضا. ولكن، في المقابل، فإنّ ماهية التغيير الاجتماعي لمجتمعنا ترتبط ارتباطا وثيقا بمكانته السياسية داخل دولة إسرائيل، المبنية على "قومية إثنية"، تعاملت مع الأقلية العربية الفلسطينية التي بقيت بعد عام 1948، على أنها أقليّة مهمّشة، وواصلت تهميشها اقتصاديا اجتماعيا وسياسيا.

بهذا المعنى، لا يمكن فصل الاجتماعي عن الاقتصادي والسياسي، أي أن التغيير الاجتماعي لداخل المجتمع الفلسطيني في الداخل له ظرفية معيّنة تختلف عن المجتمعات الأخرى. فعلى سبيل المثال، لم يشهد مجتمعنا عملية الهجرة التقليدية من الضواحي والريف إلى المراكز المدينيّة، التي تميّز كل المجتمعات الطبيعية. ونتج عن غياب المدينة العربية أنّ التغيرات الاجتماعية الاقتصادية تلك نشأت على أثر القرى الفلسطينية ذاتها، التي تحولت عدديا إلى مدن، بينما بقيت من حيث المناحي الاجتماعية والاقتصادية قرى كبيرة، وبقيت تحمل، شكلًا وجوهرًا، سماتٍ قرويةً أكثر من السمات المدنية.

عرب 48: مدننا هي في الواقع قرى كبيرة تعيش على هامش المدينة اليهودية، التي تشكّل المركز الاقتصادي والسياسي؟

كركبي صباح: ما أردت قوله إنّ التغيير الاجتماعي عندنا هو عملية مركبة ومعقدة كثيرًا، وهذا من شأنه أن يفرز تداعياتٍ، وحتّى توترات اجتماعية كبيرة على مستوى الفرد والجماعة.

الفرد يتطور فكريًا، ويطوّر مبادئ يستمدها من الفكر الغربي الليبرالي بالأساس، نتيجةً للارتفاع بسنوات التعليم والانكشاف للمجتمعات الغربية من خلال شبكات التواصل الاجتماعية، ولكن في داخله هو يعيش في أجواء القرية، الأمر الذي يقود حتمًا إلى تصادم مع واقع يختلف عن التغيير القيمي الذي مر به الفرد على مستوى الفكر. يقع على كاهل المجتمع الدور في محاولة بناء احتياجات اجتماعيّة، ولكنّه لا يستطيع فعل ذلك بسبب التهميش السياسي والإقصاء الاقتصادي الذي يعاني منه.

النكبة قضت على تطور المجتمع الفلسطيني الطبيعي (أ ب)
النكبة قضت على تطور المجتمع الفلسطيني الطبيعي (أ ب)

ففي غياب مؤسسات اجتماعية تتلاءم مع روح التغيير، تجدنا في كثير من الأحيان نلجأ للروابط الاجتماعية التي يبدو، للوهلة الأولى، أننا تخلّينا عنها وأنّها ولّت، وأكبر مثال على ذلك هو انتخابات السلطات المحليّة، التي تعود خلالها العائلية والطائفية إلى اجتياح قرانا ومدننا، وتشكل تأكيدًا لنا أن مجتمعنا لم يتغيّر من الناحية الفكرية، فالمجتمع لم يمتلك القدرة على تطوير بدائل قادرة على أخذ التغيير الاجتماعي إلى مكان آخر، والمنظومة التقليديّة محدّدة، ويصعب اختراقها طالما بقيت متحصّنة في حصنها الجغرافي المتمثل بالقرية، خاصّةً أن اختراقها له أثمان يجب أن تُدفع.

عرب 48: ولكن السنوات الأخيرة، وخاصةً في العقد أو العقدين الأخيرين، شهدا نهضة اقتصادية كبيرة في المجتمع العربي، تمثّلت في ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة معدلات التعليم واندماج العرب في بعض قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي؟

كركبي صباح: مثلنا مثل دول أخرى، ترك الارتفاع في سنوات التعليم لدينا أثرًا على جوانب اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، فالتعليم كان أحد المركبات التي أحدثت بعض التحولات الاقتصاديّة، إلى جانب العولمة والخصخصة ولبرلة الاقتصاد الإسرائيلي.

ارتفاع سنوات التعليم كان له دور كبير في رفع مستوى المعيشة لدى الكثير من العائلات الفلسطينية وفي دخول الفلسطينيين إلى مجالات مهنية لم يدخلوها سابقا، وكانت له تأثيرات اجتماعية كبيرة، أيضًا، خاصة وأنّه كان بمثابة بطاقة دخول للمرأة إلى سوق العمل.

ولكنّ للإقصاء الاقتصادي ثمنا كبيرا جدا، يتمثل في أن الاقتصاد المحلي الفلسطيني ظل مهمشا على مدى السنين، إضافة إلى أن اختراق الاقتصاد الإسرائيلي العام، المبني على أسس إثنية كشراكة في صناعة القرار هو شبه مستحيل، بمعنى أن الإقصاء حالَ، من جهة، دون بناء اقتصاد فلسطيني محلي قوي ومستقل، ومن جهة ثانية، دون اندماج مبادرين ومستثمرين عرب في الاقتصاد الإسرائيلي.

في المحصّلة، فإنّ الاختراقات التي نشهدها في الفترة الأخيرة ونتحدث عنها في الجانب المهني هي نجاحات على أساس فردي وهي نتاج حاجة السوق الإسرائيلي والحراك الاقتصادي لدى مجموعات معينة في المجتمع اليهودي؛ فالتعليم، كما ذكرت، منح فرصا مهنية لفئات معينة والعولمة والخصخصة منحت فرصا اقتصادية لفئات أخرى، وكان نتيجة ذلك توسع الطبقة الوسطى في مجتمعنا.

ولكن يجب أن نذكر أنه لم يجر تطوير اقتصادي محلي متين يستطيع أن ينهض بكل المجتمع العربي الفلسطيني. لذلك، فإنّه مع توسع الطبقة الوسطى ازدادت وتعمقت، في المقابل، نسبة الفقر التي تقف على حدود الـ50% ولا تتزحزح، لغياب خطة علاج شاملة من قبل الدولة للنهوض بالمجتمع الفلسطيني، والاكتفاء بمعالجات عينية.

عرب 48: ماذا تقصدين بالخطة الشاملة؟

كركبي صباح: معروف أن اقتصادنا لم يكن في يوم من الأيام ضمن أولويات الدولة، وقد تعاملت معه ضمن حاجات السوق الإسرائيلي، ولم تتعامل معه كمشروع لتعزيز اقتصاد الأقلية الفلسطينية، وفي هذا الباب يدخل تشغيل قطاع النساء العربيات التي رأت فيه الدولة، إلى جانب قطاع الرجال الحريديين، قطاعين معطّلين يعيقان تطور الاقتصاد الإسرائيلي ويثقلان كاهل الدولة.

أمّا الدمج في سوق العمل على أساس قطاعات ومهن معينة، مثل المهن الطبية والهايتك بعض الشيء، فإنّها تجري على أساس فردي، وتثبت أن اختراق الحاجز الإثني في الاقتصاد الإسرائيلي رهين حاجة هذا الاقتصاد للأيدي العاملة العربية فقط، هذا دون التقليل من الضغوطات الممارسة من قبل المجتمع العربي من أعضاء كنيست ومؤسسات مجتمع مدني وتشكّل نوعا من الخطاب، يتحدّث عن الدمج وعن المساواة وهو خطاب ليبرالي يتجاوب مع الخطاب الليبرالي السائد عالميًا، والذي تتحاشى إسرائيل التصادم معه.

الانتخابات المحلية شاهد على الارتداد إلى العصبيات الأولية (من كفر مندا حيث الشجارات مستمرّة منذ العام الماضي)
الانتخابات المحلية شاهد على الارتداد إلى العصبيات الأولية (من كفر مندا حيث الشجارات مستمرّة منذ انتخابات العام الماضي)

عرب 48: هناك من يعتقد أن تحسنا اقتصاديا طرأ في العقد الأخير، بالذات في فترة حكم نتنياهو التي شهدت تهميشا كبيرا للعرب في المستوى السياسي؟

كركبي صباح: لم يسجل العقد الأخير أي تغيير جوهري من قبل الدولة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في التعامل مع الأقلية الفلسطينية كمجموعة قومية، وكل ما حدث يندرج في نطاق الإنجازات الفردية.

سياسات اليمين عملت، وما زالت، على تفكيك المطالب الجماعية للمجتمع الفلسطيني وتحويلها إلى مطالب وإنجازات فرديّة، وطالما يغيب الخطاب المعلن والعلني الذي يتحدث عن المساواة كحق أساسي، فأنا لا أنفعل من الإنجازات الفردية، وطالما ظل هذا الخطاب غائبًا، فأنا كفلسطينية سأبقى قلقة.

وجدير التنويه بأن من يهللون للإنجازات يقيسون هذه الزيادة نسبة إلى سنين سابقة وهو أمر طبيعي، ولكن بالقياس أو المقارنة مع المواطنين اليهود، فنحن ما زلنا أقل بكل المستويات. وفي كل الأحوال، فإنّ الحراك الاجتماعي الذي يمكن أن نحظى به هو فقط من خلال التعليم، علمًا بأنّ ماهية التغيير الاجتماعي الذي نمر به تفرز، أيضًا، المظاهر السلبيّة مثلما تفرز المظاهر الإيجابية، خاصة في ضوء غياب اقتصاد محلي يستوعب كافة الأيدي العاملة وهو ما يوصلنا إلى هذه المواصيل.

عرب 48: تقصدين أنّ الفقر والبطالة وغياب أطر التعليم، هي تربة خصبة للعنف والجريمة وغيرها من المظاهر السلبية؟

كركبي صباح: نعم. ما نشهده اليوم هو نتيجة عملية تراكمية طويلة الأمد، وهي ناتجة عن إهمال كبير على مدى عقود من قبل السلطة والمجتمع، والحل الجذري يكمن في تغيير توجه الدولة للمواطنين الفلسطينيين والتعامل معهم كمواطنين، بمعنى أن تخلق وتعزز لديهم الشعور بالشراكة، وهذا يُترجم باستعداد الدولة لمعالجة كافة مناحي الحياة وبفتح أبوابها وأبواب المدن الإسرائيلية لأيّة هجرة، ولأي بحث عن أماكن عمل.

وطالما لم يحدث مثل هذا التغيير في المستوى الأيديولوجي الإستراتيجيّ، فإنّ التهميش سيبقى من نصيب الفلسطينيين وتبقى نتائجه تظهر بأشكال مختلفة في كل فترة وأخرى. وبدون شك، فإنّ العنف والجريمة هما إحدى هذه النتائج.

عرب 48: وماذا بشأن الخطة العملية لمكافحة العنف والجريمة؟

كركبي صباح: الخطة في جانبها العملي يجب أن تكون شاملة. بدايةً بالمستوى القانوني والقضائي، حيث تشير المعطيات إلى قصور كبير نسبةً إلى المجتمع اليهودي، وصولًا إلى التغيير في علاقة الشرطة مع المواطنين العرب والتي هي علاقة مركبة، تراكمية، أيضًا، بنيت على نكبات، أحداث صعبة وأليمة شهدتها الأقلية الفلسطينية.

فليس من السهل الطلب من المواطنين العرب تغيير سيكلوجيتهم، والتعامل النفسي مع المؤسسة والشرطة. لذلك، فإنّ تصحيح العلاقة تقع على عاتق تلك المؤسسات وهي مهمة الدولة وليس مهمة المواطن.

عرب 48: وماذا مع مسؤوليتنا ودورنا كمجتمع؟

كركبي صباح: أعتقد أننا أخفقنا، كمجتمع، في ثلاث دوائر هي العائلة والمؤسسات التربوية (المدارس) ومكاتب الرفاه الاجتماعي، وهي مؤسسات يجب تفعيل دورها، رغم الكثير من المعيقات وشحّ الموارد. التغيّرات التي أحدثتها التحولات الاجتماعية على بنية العائلة تسببت بانحلال الروابط التقليدية وضعف السلطة الأبوية دون ترسيخ البديل الذي يكفل البنيان الاجتماعي السليم المبني على قيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وهو أمر يتجلى في العنف ضد النساء وفي نسبة الطلاق الآخذة في الازدياد، وهي من الأثمان التي يدفعها مجتمعنا.

المدرسة، التي تعاني من سياسة التهميش والتمييز وغيرها من المعيقات من قبل الوزارة، التي تحول دون القيام بدورها التربوي إلى جانب دورها التعليمي هي حلقة مهمة في التصدي لهذه المظاهر. بالإضافة طبعا إلى عدم قدرتها، كمؤسسة، على الارتقاء بالعملية التربوية كقيمة إنسانية ووطنية. ضف على ذلك مكاتب الرفاه الاجتماعي التابعة للمجالس المحلية التي تتعامل مع الشرائح الأكثر عرضة لهذه المظاهر، وغني عن البيان أن المجالس المحلية، إذا ما انصلح حالها، تستطيع أن تشكل قيادة محلية مجتمعية ولكن ذلك يتطلب نقلها لتكون جزءًا من الحلّ بدلًا من أن تكون جزءا من المشكلة.


د. مها كركبي صباح: باحثة ومحاضرة في جامعة حيفا وكلية تل أبيب - يافا. تختصّ أبحاثها بالتغيرات الاجتماعية في مبنى العائلة الفلسطينية في إسرائيل ومكانة المرأة الفلسطينية في العائلة، سوق العمل والسياسة.

التعليقات