29/08/2020 - 23:31

دانيال - كسبري: الفلسطيني لم يخسر... بل يفوز بصموده اليومي على أرضه

*القضية ليست "بقاء" فقط بل هي مواجهة يومية فردية وجماعية لمحاولات الاقتلاع *اتفاق التطبيع مع الإمارات جرس إنذار للقيادة الفلسطينية بأن عليها إفساح الطريق للجيل الجديد *السلطة تحولت إلى أداة سيطرة على الشعب الفلسطيني يشترط تحييدها للخروج من ملعب أوسلو

دانيال - كسبري: الفلسطيني لم يخسر... بل يفوز بصموده اليومي على أرضه

طفل فلسطيني في مواجهة مع جنود الاحتلال في باب الزاوية بالخليل، السبت (أ ب أ)

د. كارول دانيال - كسبري:

  • القضية ليست "بقاء" فقط بل هي مواجهة يومية فردية وجماعية لمحاولات الاقتلاع
  • اتفاق التطبيع مع الإمارات جرس إنذار للقيادة الفلسطينية بأن عليها إفساح الطريق للجيل الجديد
  • السلطة تحولت إلى أداة سيطرة على الشعب الفلسطيني يشترط تحييدها للخروج من ملعب أوسلو

تعقيبًا على معاهدة التحالف الإماراتي الإسرائيلي والتطبيع الرسمي للعلاقات الثنائية، كتبت د. كارول دانيال - كسبري في معهد الشرق الأوسط، أن الشعب الفلسطيني لم يخسر حقا وهو، بعكس ما يقوله الكثير من المحللين، يفوز في الواقع كل يوم بالبقاء على أرضه وصموده فيها.

واختارت الباحثة في المعهد والمحاضرة في جامعة جورج ميسون الأميركية، "إبراهيم تخلى عن الفلسطينيين"، عنوانا لمقالها في إشارة إلى المفارقة التي تنطوي عليها تسمية "اتفاق إبراهيم" التي أطلقت على المعاهدة، رغم أنها تشكل التفافا على الحق الفلسطيني.

وكتبت أن الشعب الفلسطيني الذي تجاوز العديد من الحروب والأزمات سيكون بمقدوره تجاوز هذا المحنة أيضًا، متمنية أن تكون بمثابة نذير للقيادة الحالية للتنحي جانبًا وإفساح المجال للجيل القادم الذي يعكس رغبات الملايين من الفلسطينيين وسعيهم إلى الحرية وتقرير المصير، وختمت بالقول: إذا كان البيت الأبيض وحلفائه العرب ربما تخلوا عن القيادة الحالية، فإن الفلسطينيين لم يتخلوا عن مطالبهم بالحرية والعدالة.

حول موضوع المقال وموضوع بحثها للدكتوراه الذي تناول القضية الفلسطينية أيضا، أجرينا هذا الحوار مع د. كارول دانيال - كسبري، الباحثة في معهد الشرق الأوسط والمحاضرة في جامعة ميسون الأميركية.

"عرب 48": عندما تكتبين أن "الشعب الفلسطيني لم يخسر بل هو يفوز في الواقع كل يوم بالبقاء على أرضه"، على ماذا تستندين؟

د. كارول دانيال - كسبري

دانيال - كسبري: اعتمد على بحث الدكتوراه الذي تناولت من خلاله المقاومة الفردية اليومية للفلسطينيين في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وشمل 60 حالة فردية هي نموذج مصغر لآلاف وربما مئات آلاف حالات المقاومة التي يخوضها الفلسطينيون يوميًا في مواجهة الاحتلال والاستيطان ومحاولات الاقتلاع، وينتصرون فيها بالبقاء والصمود على أرضهم عبر استخدام "تكتيكات" مقاومة متنوعة.

لقد أحصيت خلال البحث 150 "تكتيك" مقاومة أو أساليب مواجهة استعملها هؤلاء الفلسطينيون في حربهم اليومية من أجل وجودهم على أرضهم، أمام محاولات الاقتلاع التي مورست ضدهم على مدى سنوات طويلة، ومن الجدير الإشارة إلى أنني تمكنت من العثور على 60 حالة استعملتها لغرض البحث خلال بضعة أشهر فقط، ما يعني وجود مئات وربما آلاف الحالات الفردية التي تشكل بمجموعها النضال الجماعي للشعب الفلسطيني في وجه أغرب وأبشع استعمار استيطاني عرفه التاريخ البشري.

أنا أتحدث على سبيل المثال عن فلاح في منطقة بيت لحم، أحاطوا أرضه بالمستوطنات ("غوش عتصيون") من الجهات الأربع وبقي صامدا فيها يزرعها ويفلحها رغم تهديدات الجيش والمستوطنين وإرهابهم ومحاولاتهم المتواصلة والرهيبة لاقتلاعه.

على مدى 25 عامًا تعرض هذا الفلاح الفلسطيني لشتى أصناف الترهيب والترغيب، لدفعه إلى مغادرة أرضه، أو التوقف عن فلاحتها ليتسنى لهم السيطرة عليها، وهي محاولات شملت اعتداءات وحرق مزروعات و"زيارات ليلية" من أفراد الجيش والمستوطنين، لم تفلح جميعها في اقتلاعه وصمد وفاز بالبقاء في أرضه.

"عرب 48": كأنك تقولين إن مجرد البقاء الفلسطيني هو فوز وانتصار وأن الفلسطينيين بارعون في "النجاة" واستمرار العيش؟

دانيال - كسبري: ليس ذلك ما أقصده في تشخيص الحالة الفلسطينية، إنه ليس البقاء السلبي، فالفلسطيني يعيش مواجهة يومية وصراع محتدم ودائم على وجوده وبقائه، ليس كجماعة فقط بل كفرد أيضًا، وهو يخوض هذا الصراع وحيدا كلٌ بطريقته وتبعًا لظروفه الخاصة... ويفوز.

خذ مثلا حالة العجوز الفلسطينية من قرية بورين، والتي فقدت زوجها وهي تحاول أن تحمي بيتها الذي كان هدفا للمستوطنين. منزلها يشكل "عقبة" أمام زحف المستوطنة الواقعة على رأس الجبل في التمدد والسيطرة على المزيد من أراضي بورين، وهو يشكل بهذا المعنى خط دفاع عن أراضي البلدة كلها ولذلك سميت هذه العجوز الفلسطينية "حامية بورين".

"حامية بورين": أوقفت بصمودها الزحف الاستيطاني

لقد حاول المستوطنون اقتلاعها من بيتها بكل الطرق، حرقوا أرضها وسمموا ماشيتها وحولوا حياتها إلى جحيم، لكنهم لم يستطيعوا كسر إرادتها ودفعها إلى الرحيل عن بيتها، فظلت صامدة وفازت بالبقاء في أرضها إلى أن وافتها المنية قبل بضعة أشهر، ولكن أولادها ما زالوا في البيت.

"عرب 48": قد يقول قائل إنها حالات أو بطولات فردية، رغم ما تنطوي عليه من فوز أو نجاحات، ولكن في المقابل هناك مئات الحالات من الإخفاق والخسارة والانكفاء، ناهيك عن التراجع في المستوى السياسي العام، والذي يشكل اتفاق التطبيع مع الإمارات أحد مؤشراته...

دانيال - كسبري: عندما نواجه أنا وأنت، بشكل فردي، فهذا يعني أن الجميع يخوض هذه المواجهة، ولكن إسرائيل غير معنية بأن يرى بعضنا بعضًا ولذلك تعتمد معنا أسلوب التجزئة والتذرير، فقد قسمتنا إلى مناطق 48 و67 وشتات، ثم ضفة وغزة وقدس، ثم جاء أوسلو ليقسم الضفة إلى مناطق "أ" و "ب" و "جـ"، حتى صار مخيما عايدة والدهيشة الواقعين على طرفي بيت لحم، على سبيل المثال، دون رابط بينهما، وهي تعمل بالإضافة لذلك على تفكيك الجماعة إلى أفراد منعزلين عن بعضهم البعض.

إسرائيل لا تريد أن يرى الواحد منا قصة الآخر، والمواجهة اليومية التي يخوضها من أجل البقاء في أرضه ووطنه، ومن هنا تنبع أهمية تسليط الضوء على هذه التجارب الفردية وإيجاد الخيط الناظم لها في معركة صمود الفلسطيني على أرضه وفوزه بالبقاء.

والفلسطيني الفرد قادر على الصمود ليس لأنه يحظى بدعم أحد، هو داعم لنفسه، وهو يغير إستراتيجيات جيش الاحتلال ودولة الاحتلال، و ما أسميتها في بحث الدكتوراه بإستراتيجيات القوة أو طرق السيطرة التي تحاول إسرائيل استخدامها، وكيف أن كل واحد من "التكتيكات" التي يتبعها الفلسطينيون في نضالهم الفردي اليومي يؤثر على ديناميكية القوة، فتلك المرأة الفلسطينية من بورين والتي أرادوا انتزاع أرضها وسلخها عن محيطها تغلبت على هذه القوة، وقالت لهم مهما فعلتم لن أتزحزح، وفشلوا في اقتلاعها والسيطرة على أرضها.

وغني عن القول إن "تكتيكات" المواجهة التي طورها الفلسطيني لا تقتصر على الأرض، بل تشمل أيضا الهوية والانتماء والتاريخ والحضارة والرموز التي تحاول إسرائيل طمسها واستلابها.

"عرب 48": برأيك ومن خلال مقابلاتك مع هؤلاء الناس، ما هو سر صمود الفلسطيني؟

دانيال - كسبري: المشترك بين جميع الحالات أن جميعهم يؤمنون بعدالة قضيتهم وكلهم يؤمنون بقدر الله، بمعنى أن اجتماع عدالة القضية مع قدرة الخالق تفضي إلى حتمية الانتصار، بعضهم قال إنه لولا عدالة القضية لضاعت منذ وعد بلفور أو نكبة 1948، خاصة وأن الفلسطينيين يواجهون استعمارًا فريدًا من نوعه ولم يواجهه أي شعب آخر، استعمار بوجه ديني واستيطاني واستعماري في ذات الوقت.

وبرأيي أن هذا الذكاء الذي طوره الفلسطينيون منذ عام 1948 وحتى اليوم، في استخدام واستحداث تكتيكات مواجهة ومقاومة يومية فردية وجماعية، هو الذي حال دون اقتلاعهم بل ورسخ وجودهم في أرضهم.

الفلسطيني - كما أسلفت - ليس لديه شعورًا بأنه يخسر، هو يخسر قيادته أو قيادته تخسر سياسيا هذا شيء آخر، ولكن المزاج الشعبي هو أنه طالما هو على أرضه فهو رابح وعدوه هو الخاسر، لأنه يعي أن الهدف الأخير هو اقتلاعه.

هذا علمًا بأن صمود الفلسطينيين هو ليس مجرد "بقاء"، فمعركة الحاج الذي حارب سنوات في المحاكم الإسرائيلية والهيئات الدولية للحصول على مفتاح لبوابة في الجدار العازل الذي يفصل بيته عن أرضه ويعزله عن سائر بيوت القرية بعد أن صار الجدار يحيطه من ثلاث جهات، هي ليست معركة "بقاء" بالمفهوم السلبي بل هي مواجهة بين أن تكون أو لا تكون.

هذا الحاج هاني عامر من قرية مسحة قضاء سلفيت، الذي أطلق على بيته "دولة عامر" واجه من خلال المحاكم وهيئات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، وحصل في النهاية على ما أراد وهو بوابة صغيرة في الجدار كانوا يفتحوها له في البداية لمدة ساعة والمفاتيح بأيديهم، والآن أصبح المفتاح بيده يدخل ويخرج متى أراد هو.

"دولة عامر": المقاومة والمواجهة من خلال المحاكم

هذا الفلسطيني الذي تنتصب الكاميرات حول بيته من جميع الجهات وخلفه مستوطنة، يقذفه مستوطنوها بأي شيء وبكل شيء ويطلقون على بيته النار، نثر بذور الصبار فنمت وكبرت وغطت بيته وحمته من عيون المستوطنين وشرورهم.

هذه بعض "التكيكات" التي استحدثها الفلسطيني وأتحدث عنها في بحثي وهي على بساطتها وبدائيتها، شكلت عوامل صمود في المعركة المستمرة على الأرض، الحديث هنا يدور عن مقاومة مستمرة في أن تجعل أرضك خضراء كل الوقت، لأن المستوطنين يراقبونها بواسطة "الكاميرات الطائرة" وفي حال تخلفت عن حراثتها وزراعتها برهة من الوقت من الممكن أن يسيطرون عليها باستصدار قرار من المحكمة بأنها أرض متروكة وأملاك غائبين.

"عرب 48": إذا أنت تنظرين لاتفاق التطبيع مع الإمارات من هذا المنظار، وترين أنه ربما يؤثر على خطط القيادة الفلسطينية ولكنه لا يؤثر على المعركة الجارية على الأرض؟

دانيال - كسبري: صحيح لأنه ليس قيادة الإمارات وغيرها من الدول العربية التي تصطف في طابور التطبيع هي فقط البعيدة عن شعبها وتطلعاته، بل القيادة الفلسطينية، بشقيها في الضفة وغزة أيضا، والتي آثرت مصلحتها بالبقاء بسلطة غير موجودة على مصلحة شعبها.

الاتفاق هو جرس إنذار لهذه القيادة بانتهاء تاريخ صلاحيتها وأن عليها إفساح المجال للجيل الجديد من الفلسطينيين لاستلام رسن القيادة، وذلك عبر انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني تشمل تجمعاته المختلفة.

لقد تحولت، السلطة الفلسطينية، وهو أمر مؤسف، إلى أداة سيطرة إسرائيلية على الشعب الفلسطيني، بمعنى أن السلطة تحولت إلى عقبة أمام تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني عوضًا عن أن تكون أداة لتحقيق هذه الأهداف، وبات تحييدها والعودة إلى إطار منظمة التحرير شرطا للتقدم نحو تلك الأهداف.


*د. كارول دانيال - كسبري: حاصلة على شهادة الدكتوراه في تحليل وحل النزاعات الدولية من معهد كارتر في جامعة جورج ميسون الأميركية وتعمل هناك محاضرة. وباحثة في الشؤون الفلسطينية الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. تخصصت في مواضيع المقاومة وبحثها يركز على آثار "المقاومة اليومية على علاقات القوة في الأراضي الفلسطينية المحتلة". عملت لأكثر من 20 عامًا في تصميم وقيادة البرامج في مجال التخفيف من حدة النزاعات في سياقات سياسية مختلفة منها فلسطين وإسرائيل والأردن والعراق وتركيا وقبرص واليونان والبوسنة.

التعليقات