17/10/2020 - 22:02

الباحث صالح لطفي: القضية الفلسطينية حية ببقائنا في الـ48

التطبيع العربي مع الصهيونية وإسرائيل بدأ مع اتفاقية فيصل- وايزمان ولن ينتهي مع بن زايد | إسرائيل تعاملت معنا في أكتوبر عبر فوّهة البندقية لأنها اعتبرت القضية وجودية | الكانتونات الحزبية والتمويل من وراء البحار والجريمة المنظمة تضرب مجتمعنا

الباحث صالح لطفي: القضية الفلسطينية حية ببقائنا في الـ48

أثناء توقيع اتفاق أوسلو (أ ب)

صالح لطفي:

  • التطبيع العربي مع الصهيونية وإسرائيل بدأ مع اتفاقية فيصل- وايزمان ولن ينتهي مع بن زايد
  • إسرائيل تعاملت معنا في أكتوبر عبر فوّهة البندقية لأنها اعتبرت القضية وجودية
  • الكانتونات الحزبية والتمويل من وراء البحار والجريمة المنظمة نوائب تضرب مجتمعنا
  • لسنا مقطوعين من شجرة بل نحن جزء من شعب وأمة تمتلك موارد مادية ومعنوية هائلة

إخراج الحركة الإسلامية الشمالية عن القانون وإغلاق المؤسسات الثقافية والتربوية والاجتماعية التابعة لها جاء تطبيقا حرفيا لاستنتاجات "لجنة أور" التي أشارت بالاسم إلى ما سمّته بالجناح الراديكالي للحركة الإسلامية وإلى "التجمع الوطني الديمقراطي" إلى جانب تيار الهوية الفلسطينية ("أبناء البلد") كمسؤولين عن أحداث أكتوبر هبة (القدس والأقصى).

وقد أحدث إخراج الحركة الإسلامية عن القانون بهذا الشكل التعسفي، إلى جانب محاصرة "التجمع" و"أبناء البلد" وملاحقة كوادرهما وقياداتهما هزّة في ساحة الداخل خلخلت أساساتها السياسية وأصابت توازناتها الطبيعية وتماسكها الداخلي، وهي التي صمدت أمام بواكير مرحلة أوسلو وتمكّنت من الحفاظ على كيانيتها الذاتية رغم عواصفها، فكان من "الضروري" تقويضها وترويضها وإلحاقها بركبه.

لطفي صالح
لطفي صالح

الأستاذ صالح لطفي، الذي كان باحثا ومديرًا لمركز الدراسات المعاصرة، وهو واحد من 16 مركزا ومؤسسة أخرجت عن القانون بذريعة تبعيتهم للحركة الإسلامية "المحظورة"، تناول في الحوار الذي أجريناه معه بمناسبة عشرينيّة الانتفاضة وهبة الداخل ومرور ربع قرن على اتفاق أوسلو، محطات هذه المرحلة ومقتضياتها، وصولا إلى ما أفضت إليه من مأزق فلسطيني شامل.

عرب 48: أوسلو عُرِضَ كإنجاز أثمرته الانتفاضة الأولى التي عمّدت بدماء وتضحيات آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والأسرى، وسرعان ما انقلب إلى "نقمة" ولا نريد أن نقول "كارثة" ومأزقا أدخلنا أنفسنا فيه ولا نعرف سبيلا للخروج منه؟

لطفي: باعتقادي أن اتفاقية أوسلو كانت بمثابة حبل إنقاذ، أو هكذا ظنّت حركة "فتح"، التي قادت منظمة التحرير الفلسطينية. حبل إنقاذ لها بعد خسارتها في لبنان عام 1982 وتدهور المشروع الفلسطيني الذي بدأ مسار انزلاقه بما سمي بالنقاط العشر عام 1974، ودخولها في مأزق الانتفاضة الأولى التي، كما يبدو من تجلياتها في المرحلة المبكرة، جلبت قيادة محلية أكثر إدراكا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأكثر إدراكا لكيفية توجيع وإيلام المؤسسة الإسرائيلية والوصول بها إلى نتائج عبر تحويل الانتفاضة من عمل مقاوم إلى عمل سياسي تتحصل مكاسبه نتيجة المقاومة، بحيث تتم المزاوجة بين المقاومة والمكاسب السياسية وفقا للطريقة الفيتنامية في الثورة التي قادها الفيتكونغ.

أنا من الذين يزعمون أن دخول منظمة التحرير على خط الانتفاضة في ثمانينيّات القرن الماضي ومطلع التسعينات، بدءًا من مؤتمر مدريد ثم أوسلو بمفاوضاتها السرية، أجهض المشروع الفلسطيني برمته ودفن مبكّرا آمال الفلسطينيين بالتحرر وحول القضية الفلسطينية من قضية وطنية إلى قضية "أعمال ورجال أعمال" ومصالح مادية واقتصادية، وهو ما تجلّى بشكل كبير جدا بعد اتفاقية باريس الاقتصادية، التي نجمت عن أوسلو ودخول ما أسميه برأس المال الفلسطيني الفاسد.

هذا ما ندفع ثمنه الآن كفلسطينيين. والانشقاق الذي حصل عام 2008 بين حركتيّ "فتح" و"حماس" وسلطة أوسلو في رام الله وسلطة "حماس" في غزة، هو تداعٍ طبيعي جدا لما تخلّت عنه منظومة أوسلو.

المأزق الذي دخلت فيه سلطة أوسلو في رام الله، ودخلت فيه، أيضا، سلطة "حماس" في قطاع غزة، هو أيضا نتيجة طبيعية جدًّا للتداعيات التي تخلّقت في ظل أوسلو، من ارتفاع معدلات الاستيطان الديموغرافي في الضفة الغربية وإفقار الشعب الفلسطيني وتحويله من شعب مقاوم بعد الانتفاضة الثانية إلى شعب يطارد ويلاحق من قبل مجموعة دايتون التي هي من تقود الآن المشروع الفلسطيني وفي مقدمتها وعلى رأسها محمود عباس، والذي يتحمّل المسؤولية الأولى والأخيرة عمّا يحدث الآن مع الفلسطينيين عموما.

تشييع شهداء هبة القدس والأقصى (أرشيف "عدالة")
تشييع شهداء هبة القدس والأقصى (أرشيف "عدالة")

تداعيات ما بعد أوسلو وتداعيات الانتفاضة الثانية تحديدًا تركت بصماتها بشكل كبير جدا على مجمل الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني وفي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والشتات، ونحن الآن نقطف الثمرة الأخيرة، باعتقادي، في هذا المشروع وفي سياقات كما يقول العرب "ربّ ضارة نافعة"، لعل ما يحصل الآن على المستوى الإقليمي والعربي تجاه القضية الفلسطينية، يعيد ما أسميه الوعي بالذات في موضوع القضية الفلسطينية من جديد، ويعيدنا إلى المربع الأول لندرك كفلسطينيين أنّه "ما حك جلدك غير ظفرك".

عرب 48: ما نسميها مرحلة أوسلو والتي تدخل الانتفاضة الثانية في نطاقها الزمني، كان لها تداعيات مباشرة على ساحة الداخل الفلسطيني، تمثّلت أساسا في الهبة التي رافقت الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى، وفي إخراج الحركة الإسلامية ومؤسساتها عن القانون لاحقا ومحاصرة القوى الوطنية الأخرى في محاولة لاحتواء هذه الساحة ووضعها في تلم أوسلو؟

لطفي: لا شك أنّ الموضوع الفلسطيني برمته ترك أثره على الداخل الفلسطيني، وأنا أيضًا من الذين يزعمون أنّ القضية الفلسطينية حيّة بوجودنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني في الـ48، أو تحت الوجود الإسرائيلي.

نحن مجموعة فقدت قياداتها مبكّرا وراهنت المؤسسة الإسرائيلية على أسرلتها، ولسنوات طويلة اعتقدت القيادات الفلسطينية في الشتات والقيادات العربية خارج حدود فلسطين التاريخية، التي ابتدعتها بريطانيا، أنّنا أصبحنا يهودًا عربًا أو عربًا يهودًا، فإذا هم يفاجأون بأنّنا نحن من نملك ناصية العمل الوطني والعمل الإسلامي في المشروع الفلسطيني برمته.

مبكّرا - في ستينيّات القرن الماضي - تم التواصل من قبل مجموعات من الداخل الفلسطيني مع حركة "فتح"، يوم كانت حركة ثورية. ومبكّرا تم التواصل مع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، يوم كانت تقود مشروعا وطنيا بمنطق يساري. ومبكّرا تم التواصل مع الإسلاميين من إخوان مسلمين ومن غيرهم، في مسألة التواصل والامتداد الوطني الديني الشرعي.

ونحن، بالمناسبة، كفلسطينيين بفضلنا وفقط بفضلنا بعد فضل الله، أخرجنا موضوع القدس وفي جوهره المسجد الأقصى المبارك من دائرة الثنائية الإسرائيلية الفلسطينية والإسرائيلية الأردنية إلى العالمية وحوّلناه إلى موضوع دولي. والآن، بسبب تخاذل سلطة أوسلو وبسبب تخاذل الأردن، يعود - أو هناك محاولات لإعادة - موضوع القدس والأقصى المبارك إلى المربع الضيق جدا، مربع إسرائيل والعرب.

عرب 48: تقصد في ظل التطبيع الخليجي العربي الذي يشكّل اتفاق الإمارات والبحرين أحد بوادره؟

لطفي: أنا أقول إنّ التطبيع العربي الإسرائيلي كان قائما منذ اللحظات الأولى وتجسّد في اتفاقية الملك فيصل الأول مع حايم وايزمان، رئيس الوكالة اليهودية في لندن عام 1919 وهو نتاج اتفاقية سايكس بيكو.

الملك فيصل، الذي اعتبر نفسه خليفة العرب والمسلمين، أقر في هذه الاتفاقية بالحق الصهيوني على أرض فلسطين وبحقهم في التعبّد في محيط المسجد الأقصى المبارك، وفي ساحاته الشريفة وفي حائط البراق وتم التعامل مع هذا الموضوع على مدار سنوات.

وكما هو معروف، فإنّ الأردن هي نتاج بريطاني ودول الخليج نتاج بريطاني ومنطقتنا هي خلاصات احتلال بريطاني استعماري للمنطقة ما يزال قائما بتبادل الأدوار مع الولايات المتحدة الأميركيّة.

عرب 48: كما هو معروف، فإنّ نشاط الحركة الإسلامية في موضوع المسجد الأقصى كان سببا مركزيا في إخراج الحركة عن القانون؟

لطفي: طبعا، هو ليس فقط أحد أسباب إخراج الحركة عن القانون، بل هو أحد الأسباب الموضوعية لحالة الترهل السياسي التي فرضتها المؤسسة على قوانا السياسية في الداخل الفلسطيني.

زيارة أضرحة الشهداء (عرب ٤٨)
زيارة أضرحة الشهداء (عرب ٤٨)

تماهي القوى السياسية في الداخل الفلسطيني مع موضوع المسجد الأقصى المبارك كموضوع ديني وطني، كان بالنسبة لإسرائيل خطًّا أحمر، لأن إسرائيل تفكّر تجاه المسجد الأقصى بالضبط بهذا "المنطق الوطني" و"المنطق الديني الإسرائيلي اليهودي.

عرب 48: موضوع المسجد الأقصى كان سببا لاندلاع هبة القدس والأقصى التي ألهبت الداخل الفلسطيني، خلال الأيام الأولى لانطلاق انتفاضة الأقصى احتجاجا على انتهاك شارون للحرم القدسي الشريف؟

لطفي: منذ الانتفاضة والهبة عام 2000، اتخذت إسرائيل ضدّنا ثلاث خطوات، اسميها التفكيك والاستحواذ والإغراق، خطوة الإغراق بُدِء بها مباشرة بعد هبة القدس والأقصى عام 2000، بعد أن تنبّهت أن البارومتر الوطني - البارومتر الديني في الداخل الفلسطيني في ارتفاع مستمر، ولذلك كان الصدام صداما عنيفا، الحل كان دمويا وهدف إلى إيصال رسالة للقيادة وللأهل في الداخل الفلسطيني بأن الحل في مثل هذه المسائل ليس على طاولة المفاوضات بل هو عبر فوّهة البندقيّة، لأن المسألة بالنسبة لهم مسألة وجودية.

هذا الأمر غاب عن معظم القيادات إلا ما ندر في تلك اللحظ التاريخية الفارقة، ولو أنّ قيادات الداخل الفلسطيني أدركت تلك اللحظة واستمرت في خلق حالة زخم نضالي لتغيرت أوضاعنا.

مواجهتنا عبر فوهة البندقية تعني بالنسبة لهم أنّك كفلسطيني في مناطق 48 – انتزعت أرضك واغتصبت هويتك واغتصبت سيرتك - أن تعود وتتسلّح ثانية، في ما أسميّه الوطن والوطنية والدين والقيم هذا شيء خطير، لأنه ينسف الأسس التي يقومون عليها.

الخطوة الثانية هي مسالة الإغراق - أو ما أسمّيه المثقّف الخائن أو الفردية - التي بدأت إسرائيل تستغل من خلالها ما تسمى النيولبرالية في سياستها عموما وتجاه الداخل الفلسطيني، وظهور المثقف الذي يتعاطف مع اللهم إنّي أسألك نفسي، وآخر شيء يفكر به هو العم الوطني والهمّ المجتمعي والهمّ العام.

المثقف الذي يريد أن يحقّق مكاسب ذاتية، لا تأتي في هذه الدولة بالمجان، حتى لو كنت تحمل شهادة دكتوراه ودرجة بروفيسور، لا بد أن تقدّم خدمات أو تتنازل عن أمور كثيرة، فالوطني يجب أن يتنازل عن وطنيته والإسلامي يجب أن يتنازل عن إسلاميته وهكذا.

هذه المجموعة تحولت بعد عام 2010 إلى حالة أو موديل لدى الأجيال الشابة، فلان يملك ما يملك من أدوات وأموال وتأثير. ودخل في هذا السياق ما أسمّيه الابتزاز السياسي، ومن عجائب الأمور في داخلنا الفلسطيني أننا لا نتنبه إلى أنّنا نخضع لاحتلال، فالمؤسسة الإسرائيلية لا تتعامل معنا كمواطنين درجة ثانية أو ثالثة أو رابعة.

عرب 48: ربّما هنا مكمن الخلاف في التباين بين تعريف الواقع السياسي الذي نعيش في نطاقه؟

من يصادر أرضك ويحتلها حتى لو أعطاك البطاقة الزرقاء، ولا يعطيك حقوقك إلا بعد أن تجاهد جهادا كبيرا لتحصل على بعضها فهذا احتلال، وأن تتحوّل منابر الكنيست إلى منابر مطلبية وأن يتحول الشأن المطلبي إلى شأن وطني، تلك هي الثمار التي رجت أن تقطفها المؤسسة الإسرائيلية وبدأت بقطافها بعد عام 2010 بشكل كبير ومتواتر.

الموضوع الأخير ضمن هذه الخطوة هو أنّ إسرائيل عملت على تفكيك مجتمعنا بثلاث وسائل وهي: الجريمة المنظمة والإغراق بالديون وخلق كانتونات حزبية، فلا يوجد لدينا أحزاب في الداخل إلا ما ندر، وأنا لا أريد أن أتعرّض لأجسام معينة، لكن، حقيقةً، لا توجد لدينا كتل سياسية ناهضة وفاعلة يمكن أن تنهض بمجتمعنا، وظيفة الحزب أن يخلق حالة سياسية تفاعلية في داخل المجتمع تنهض بها في سياق البرامج. فالسياق السياسي في الداخل الفلسطيني بعيد كل البعد عن هذا التصور وأنا لا أفرّق بين يمين ويسار ومتدين وغير متدين.

عرب 48: ماذا تقصد بالكانتونات السياسية؟

لطفي: الكانتون السياسي في الداخل الفلسطيني الآن هو عبارة عن قائد معيّن أو زعيم معيّن أو رجل مؤثر معيّن يكوّن مجموعة سياسية يسمّيها حزبا. رجل يملك من المال ما يملك، يتواصل خلف البحار لينفّذ برامج تخدم الخارج وتخدم الداخل وقد يكون وسيطا في قضايا في غاية الخطورة تخص الشعب الفلسطيني. وهو، من جهة، يعبّئ حقيبته ويعبّئ جيوب الحاشية التي تحيط به وبفضل الماء الوافر يصبح له صيت وسمعة، خاصّة في ظل وسائط التواصل الاجتماعي والميديا والثورة المعلوماتية، وفي هذه الحال تضيع الحقيقة ويصبح الرجل زعيما وطنيا، وللأسف هذا هو الحال عند معظم الأحزاب.

الوسيلة الثانية هي الجريمة والعنف في المجتمع الفلسطيني، وأنا من الذين يعتقدون أنّ أسبابه هي أسباب حكومية مباشرة، صحيح أنّ عندنا تراجعا في منظومة القيم المجتمعية نتيجة مؤثرات كثيرة، منها ما يتعلق بالوضعية الإسرائيلية ومنها ما يتعلق بالوضعيّة العامّة التي نعيش، ولكن في ظل تراجع منظومة القيم في سياقها الوطني وسياقها السياسي وسياقها الشرعي الديني والأخلاقي ظهرت عندنا فجوات وفراغ لم تقم بتعبئته القوى السياسية فقامت بتعبئته جماعات الجريمة المنظمة.

وللأسف، تتصدّر الجريمة المنظمة اليوم المشهد المجتمعي وهي تقوم بعملية مزدوجة، من ناحية تقوم بالإصلاح وتفرض إصلاحا يتم تنفيذه ويسري في الوقت الذي تمارس دورها الذي أوكلته لها المؤسسة، وهذا خلق عندنا أجيالا بدأت تنظر إلى هذه المجموعات على أنّها المثال الذي يحتذى به، ربح سريع من جهة واحترام من جهة ثانية.

النقطة الأخيرة التي نتعرض لها كفلسطينيين هي ظهور مجموعات من أبنائنا في الداخل الفلسطيني تعيش حالة من التناقض في الهوية، بمعنى أنّ مجتمعنا على مفترق طرق، إمّا أنّ يؤوب إلى رشده ويستوعب الدرس الذي مرّ به، أو أن ينسلخ ويصبح حالة تشبه حالة الهنود الحمر، ولكن ليس إبادة بشرية بل إبادة قيمية.

عرب 48: من الواضح أنّ ضرب العامل الذاتي والمقصود القيادات والأحزاب السياسية التي تشكّل العمود الفقري لأي مجتمع يجعله عرضة للمؤثرات الخارجية فيصبح كالريشة في مهب الريح؟

لطفي: الضّعف الذي تحدثت عنه ينعكس ويضعف الهوية الجمعية الذاتية لأبناء الداخل الفلسطيني الذين يتعرضون لثلاثة مؤثرات: المؤثّر الإسرائيلي؛ والمؤثر الخارجي الذي يأتي من الاتحاد الأوروبي ومن غيره، وفق أجندات معينة يريد فرضها على الأقليات وعلى الشعوب المغلوبة على أمرها في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما نجده الآن بكثرة في ما أسماه زميلنا عبد الحكيم مفيد رحمه الله، الصناديق الداعمة من خلف البحار.

والمؤثر الثالث هو تراجع دور السلطات المحلية العربية بشكل كبير جدًا حيث تراجع دورها من مؤسسة وطنية إلى شركة تابعة لوزارة الداخلية.

عرب 48: ما العمل في ضوء هذه صورة الوضع القاتمة تلك؟

لطفي: أنا لست ممن ييئِسون وأتعلّم من الشعوب المقهورة والتي حاول الاستعمار أن يستعبدها، فرانس فانون في كتابه العظيم "معذبو الأرض" يتحدث بشكل واضح وصريح عن أنّ الشعوب المقهورة إذا أرادت أن تخرج من نير الاستعمار أمامها مفرزتان، مفرزة تتعلّق بالذات وفي العودة إلى الذات الجمعية الوطنية وإلى هويتنا الفلسطينية، إلى عروبتنا، إلى إسلامنا.

والأمر الثاني إدراك العدو الذي أمامك، تفكيكه ومعرفته نفسيا وأخلاقيا واجتماعيا، ولكن ما يحدث معنا أنّ إسرائيل هي التي تفكك فينا وهي التي ترصدنا وتقرأنا وأنا، باعتقادي، أن نصل إلى مرحلة نقرأ فيها الآخر قراءة موضوعية ندخل إلى عقله ونمتلك من الوعي، ومن المحددات التي يمكن أن نحمي أنفسنا من الذوبان مع الآخر الإسرائيلي عندئذ نتقدم خطوة إلى الإمام.

مستقبلنا مرهون بنا وليس مرهونا بالمؤسسة الإسرائيلية، بن غوريون راهن أنّنا سنتحول إلى حطّابين وسقاة ورعاة غنم وبناة في حضارته الجديدة، ولم يكن رهانه رهانا رابحا بالكامل فقد ظهر في الداخل الفلسطيني من ناوَأ هذا المخرز بالعقل وبالصبر وبالعمل.

مطلوب منا التركيز على الجيل الناشء واستثمار الثورة المعلوماتية التي يمتلك ناصيتها الآن لصالح مشروعنا الوطني الفلسطيني عموما ولصالح مشروعنا الوطني الخاص بنا في الثبات على هذه الأرض.

والأمر الثاني المطلوب من الأطر السياسية ومن خلال لجنة المتابعة أن تأخذ دورها الأخلاقي ودورها السياسي والمجتمعي وتحدد ما تريد بالضبط. نحن مشكلتنا أنّ هناك مجموعة بيننا ما زالت تؤمن بعد 72 عاما أنّه يمكن العيش تحت سقف المساواة، وهم لا يستطيعون الخروج من هذه الدائرة، نحن نستطيع كفلسطينيين أن نخرج من هذه الدائرة يوم أن نستلهم تجارب الآخرين من أقليات في العالم، منها من هو أقل منّا عددًا استطاعت أن تفرض وجودها.

نحن نعلم أنّ الوجود الإسرائيلي هو وجود عقدي أيديولوجي سياسي صليبي ماسوني مدعوم من أطراف دولية وإقليمية وعربية، لكن في المقابل نحن لسنا مقطوعين من شجرة نحن جزء من شعب فلسطيني وجزء من أمّة عربية ونمتلك مجموعة هائلة من الإمكانيات الثقافية والتربوية والمادية والمعنوية التي يمكن من خلالها أن نواجه الواقع الذي نعيش.

ولا زلت أقول إنّ هبة القدس والأقصى شكّلت نقطة تحول ومفرقا تاريخيا، يمكن العودة إلى هذه النقطة لاستلهام التجربة منها واستشهاد 13 شابا من أبناء الداخل الفلسطيني لقضية محددة، هو يعبر بشكل كبير جدا عن الروح الثورية الكامنة في هذا الجيل الناشئ والذي يمكن المحافظة عليها وتثويرها.


صالح لطفي إغبارية: باحث ومحلل سياسي مستقل، شغل سابقا باحثا في مركز الدراسات المعاصرة ورئيسا له خلال الأعوام 2012 - 2015.

التعليقات