12/12/2020 - 21:31

د. محمد أبو سمرة: الإسلامية الجنوبية وضعتنا في خانة "فقه الأقليات"

محمّد أبو سمرة: هذا النهج يُشرعِن التعامل معنا كرعايا سلطان يقبض ويبسط وفقًا لدرجة استكانتنا لسلطته | أزمة المشتركة تجسيد لأزمة مكوناتها وتراجع الفعل السياسي لصالح الشخص الكاريزما | بالنسبة لعباس، لا نعرف الكثير عن مواقفه في القضايا الوطنية والسياسية

د. محمد أبو سمرة: الإسلامية الجنوبية وضعتنا في خانة

عباس ورئيس الكنيست (إعلام الكنيست)

د. محمّد أبو سمرة:

  • هذا النهج يُشرعِن التعامل معنا كرعايا سلطان يقبض ويبسط وفقًا لدرجة استكانتنا لسلطته
  • أزمة المشتركة تجسيد لأزمة مكوناتها وتراجع الفعل السياسي لصالح الشخص الكاريزما
  • بالنسبة لعباس، لا نعرف الكثير عن مواقفه في القضايا الوطنية والسياسية العامة

أرجع د. محمد أبو سمرة "تكتيكات" النائب عن "القائمة الموحّدة"، د. منصور عباس، الأخيرة إلى استناد الحركة الإسلامية الجنوبية، التي يمثّلها، إلى "فقه الأقليّات" الذي تطوّر منذ الربع الأخير من القرن الماضي، ويعنى بمعالجة واقع الجاليات المسلمة في الدول الغربية والمواءمة بين متطلبات الشريعة وبين قوانين هذه الدول وثقافاتها المختلفة، وبالقضايا العينية للفرد والجماعة، مثل موضوع المشاركة السياسية، والاحتكام إلى المحاكم المدنية، وقروض الإسكان، والعلاقات والمجاملات الاجتماعية مع غير المسلمين، وغيرها.

وأشار د. أبو سمرة في منشور كتبه على فيسبوك إلى "اعتراض أصواتٍ كثيرة على تصنيف حالتنا الفلسطينية في البلاد في خانة ’فقه الأقليات’؛ فنحن لسنا نتاج حالة هجرة، ولا حالة أقلية دينية تشارك الأكثرية هويتها الوطنية، ولغتها، وتجربتها التاريخية. فالفلسطينيون في إسرائيل هم نتيجة عملية استعمارية عنيفة، سلبتهم وطنهم، وهجَّرت معظم أبناء جلدتهم، ودمرت قراهم ومدنهم؛ وتحولوا في سياق هذه النكبة إلى أقلية قومية في دولة إثنية".

د. محمد أبو سمرة
د. محمد أبو سمرة

كذلك، فإنّ الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني هي فريدة بجمعها بين همّين: الديني والوطني، والهم الفلسطيني المحلي والهم الفلسطيني العام، على مركباته الثلاثة: العودة، والاستقلال، والمساواة. ولكن منذ تسعينيات القرن الماضي، سعت الحركة بقيادة الشيخ عبد الله نمر درويش أكثر فأكثر لتطوير ممارسات "فقه الأقليات"، على الأقلّ في صيغته السياسية، وتحسين العلاقة مع السلطة ومؤسساتها الرسمية، بحسب أبو سمرة.

وينبع ذلك، وفق أبو سمرة، "من الاعتقاد بأنّ الفلسطينيين يشكّلون أقلية مستضعفة في هذه الدولة، وهم مختلفون في ظرفهم عن بقية أبناء جلدتهم، وأنه لا بدّ من تخفيف حدة نهج تحدي السلطة والاختلاف معها واعتبار العمل البرلماني الإطار السياسي الأساس لتحصيل الحقوق المدنية. ووضع معيارين لحدود المناورة السياسية: عدم تجاوز قانون البلاد، وعدم تجاوز أحكام الشرع".

ويتجسّد ذلك في حالة عبّاس في دعوته القائلة "إنّ السياسة هي فن الممكن، وعلى من يدخل هذه الحلبة الانخراط في اللعبة حتى النهاية؛ تدفع في اتجاه تجاوز ما يُعَدُّ خطوطًا حمراء؛ وإلى التخلي عن أوراق مهمة للاستمرار في اللعبة، التي يُحدِّد مساحتها وقوانينها السلطة الإسرائيلية".

ويدعو تجديده الثاني، وفق ما يقول أبو سمرة، إلى "وجوب الامتناع عن تعكير أجواء التواصل مع السلطة، وربما التناغم مع ممثليها، وذلك لتحصيل بعض المكاسب في الميزانيات ومحاربة الجريمة. ومديحه الشرطة، وما تمنع من جرائم، هو أحد الأمثلة على مثل هذا التناغم. فالتناغم مع القامع، ومهادنته، واستنجاده، والاستكانة لقواعد لعبته ولخطابه، من جهة، والتنازل عن المقاومة، وثقافتها وأدواتها".

ويستند ذلك إلى أنّ حكم نتنياهو واليمين الصهيوني هو واقعٌ، وسوف يستمر طويلًا، وعليه، مطلوب تطوير مهارات سياسية مناسبة للتعامل معه، والابتعاد عن لغة الصدام والمواجهة، وفتح قنوات تواصل، بعيدة عن ضوضاء الإعلام ومنابره، بحسب أبو سمرة.

ويخلص الباحث إلى القول "هذا النهج يعزّز ويُشرعِن التعامل معنا كرعايا سلطان يقبض ويبسط وفقًا لدرجة استكانتنا، وتناغمنا مع سلطته! وبالمقابل، يهمّش النضال الجوهري ضد الطبيعة العنصرية للدولة اليهودية، وما ينتج عنها من تمييز في القوانين والمؤسسات، وغيرها من القضايا. والأتعس، أنه يجعل من المَقْمُوع، من حيث لا يدري، جنديًا من جنود القمع!".

حول هذا الموضوع وارتباطه بالقائمة المشتركة والانتخابات الإسرائيلية المنتظرة، كان هذا الحوار مع الباحث في الفكر العربي المعاصر، د. محمد أبو سمرة:

عرب ٤٨: أشرت إلى وجود إشكالية في تصنيف فلسطينيي الداخل في خانة "فقه الأقليّات"، وهو القاعدة النظرية التي استندت إليها الحركة الإسلامية الجنوبية في الذهاب للكنيست عمومًا، إضافة إلى دعوة عباس إلى الانخراط في اللعبة السياسية حتى النهاية، وتجاوُزِ خطوطٍ حمراء، والتخلي عن أوراق مهمة للاستمرار في اللعبة؟

أبو سمرة: في الحقيقة لا أرغب في الدخول في الموضوع الفقهي؛ لأنني لا أمتلك الأدوات الأكاديمية في هذا المجال؛ ولكن يمكن القول إنّ في التعامل مع المشتركة خطرين: الأول هو الذي أشار إليه الدكتور منصور عباس نفسه عندما قال: يجب ألّا نكون في جيبة أحد؛ وهو يعكس تخوُّفًا شرعيًّا وعامًّا بأن تتحول المشتركة بعلاقتها مع معسكر ما من الأحزاب الإسرائيلية إلى حالة شبيهة، من الناحية البنيوية، بالقوائم العربية التي شكّلها حزب "ماباي"، والعمل لاحقًا، وكانت تدور في فلكه.

وتمرُّد الدكتور منصور عباس، وخروجه من قبضة هذه الأحزاب، هو خطوة محمودة؛ ولكن في الوقت ذاته لا يمكن تجاهل ما تحويه من مخاطر – وهذا هو الخطر الثاني– ويتجسّد في تكتيكات الدكتور عباس نفسه؛ فنسمع من الذين يعرفونه أنه صاحب نوايا حسنة، ويسعى لتحقيق الخير لمجتمعنا، ولا يمكننا إلا الموافقة. ولكن النوايا الحسنة، وحسن المعشر، وغيرها من الصفات الحميدة، غير كافية في مجال العمل السياسي والوطني، لما في هذا المجال من مطبّات، وبخاصة أن نهجه غير مؤطر بحدود وثوابت وطنية واضحة المعالم تحفظ أصحابها من الانزلاق.

والنص الذي نشرته يهدف إلى التّحذير، لا غير، من هذا الانزلاق إذا أراد عباس - ومعه الحركة الإسلامية الجنوبية - الاستمرار في هذا النهج. وبخاصة أننا نتحدث عن تيار له قاعدة جماهيرية واسعة في مجتمعنا؛ وتداعيات انزلاق حركة قومية أو دينية (أكانت إسلامية، أو مسيحية)، لو وقع، أخطر بكثير من انحرافات فرد ما من بعض القيادات السياسية، حيث "الفرد هو الحزب، والحزب هو الفرد"، أو حتى من انحرافات ملك، أو أمير، أو حاكم عسكري، إذا نظرنا إلى جائحة تطبيع الأنظمة الفاشلة في العالم العربي، والتي لا تختلف في دناءة خامتها الأخلاقية عن الخامة الصهيونية.

وبالنسبة لعباس، لا نعرف الكثير عن مواقفه في القضايا الوطنية والسياسية العامة؛ فالرجل مقلّ جدًا في هذا المجال، ولا نعرف ما هو الضابط الذي يحتكم إليه. وفي حالات معينة كانت تعابيره غير موفقة مثل "تسليم الهويات"، و"مديح الشرطة" على ما تمنع من جرائم، كل هذا يدفعنا إلى التوجّس، ولكن هذا توجس يلازمه أمل أن نكون من الخاطئين في قراءتنا السياسية؛ ومع ذلك، فمناقشة الموضوع شرعية وواجبة!

عرب ٤٨: في ضوء تحركات منصور عباس الأخيرة من جهة ومحاولات تشكيل حزب يهودي - عربي من جهة أخرى والذي يعكس الفشل في تحقيق شعاراتها هل يمكن القول إنّ القائمة المشتركة وصلت إلى طريق مسدود؟

أبو سمرة: لنقولها بشكل واضح: لقد تشكّلت القائمة المشتركة في سياق سياسي محدّد، وهو الخوف من فشل حزب أو أكثر من الأحزاب العربية في تجاوز نسبة الحسم، الأمر الذي سيؤدي إلى تضييع الكثير من الأصوات العربية. كما اختزلت مركبات المشتركة هدفها السياسي في إسقاط حكم نتنياهو. وواضح أن هذه أهداف آنية وقصيرة المدى، ورغم النجاح في تجاوز نسبة الحسم، والحصول على عدد ممتاز من المقاعد، إلا أنها فشلت، وبقية الأحزاب الإسرائيلية على أشكالها وتوجهاتها، في إسقاط حكم نتنياهو. وفي ضوء هذا الفشل والتوتّر بين مكوناتها، نلحظ ارتفاع الكثير من الأصوات المطالبة بتفكيكها، وتبديلها، وكأنها انتهت من مهمتها السياسية والوطنية.

القائمة المشتركة فشلت في تحقيق أهداف انطلاقتها (أ ب)
القائمة المشتركة فشلت في تحقيق أهداف انطلاقتها (أ ب)

ولكن لهذا التوجه إشكالات عدة: الأول: أنه يتجاهل رغبة الجماهير العربية في الداخل التي عبرت عن تشوّق إلى وحدة العمل العربي؛ ويتجسد ذلك في التجنُّد الذي لحظناه في أجواء الانتخابات، وشاركت فيها جميع فئات المجتمع على خلفياتهم المتنوعة، من المثقف، والناشط، والعامل، وحتى المرأة المسنة التي تدعو إلى التكاتف والوحدة. يجب ألّا نتخلّى عن هذه الوحدة بعفوية وبخفة يدّ (وما أكثر خفة أيدينا السياسية!)؛ لأنها سوف تُعزّز الإحباط في مجتمعنا، (وعوامل الإحباط كثيرة وكثيرة)، وربما تُستغل من قبل بعض الوصوليين في مجتمعنا، الذين سيقولون: جرّبنا الوحدة، وجرّبنا العمل المشترك، وجرّبنا المشتركة، وهاكم النتيجة: فشل على فشل. وعليه سيطلبون الدعم لمشاريعهم، بحجة أنّ كلًّا يبحث عن خلاصه الذاتي والفئوي.

الثاني: للحقيقة أن الأزمة غير محصورة في المشتركة، وإنما هي تجسيد لأزمةِ مكوناتها من الأحزاب. نلحظ تراجعًا في "الفعل السياسي" لدى هذه الأحزاب، يشمل التثقيف السياسي وبناء الكوادر والنوادي، وبخاصّة الأطر المناسبة لتأهيل الجيل القادم من الناشطين ومن القيادة الحزبية. فتعزيز مثل هذا العمل سوف يثري وينشط "الفعل السياسي"، ويثري خطابنا المدني والوطني ويخلصه من ركوده وتمحوره حول الشخص والكاريزما أو انعدامها، بمعزل عن القضايا السياسية الجوهرية.

عرب ٤٨: خطورة جمع الناس حول شعار مركزي على غرار إسقاط نتنياهو كما فعلت المشتركة التي حولته إلى مبرر وجودها يجعلها تفقد هذا المبرر في حال فشل هذا الشعار كما حدث؟

أبو سمرة: وأوافق أنّ إسقاط نتنياهو وموضوع الحسم هما الدافعان العينيان لتشكيل المشتركة، ولكن هذا لا يحتّم أن تكون أهداف بداياتها المتواضعة هي سقف تطلعاتها، فالأفضل أن تدرس مركّبات المشتركة القضايا الوطنية والمدنية، وإمكانيات تطوير آليات العمل المشترك على القضايا المُجمَع عليها، مثل القضايا الوطنية المتعلقة بحق العودة، والدولة الفلسطينية المستقلة والمساواة وتعرية البنية العنصرية للدولة اليهودية؛ وكذلك الأمر في القضايا المدنية، مثل: الميزانيات، والتعليم، والجريمة، وفي المقابل، لا بدّ من إعطاء مساحة من الحرية لكل حزب في قضايا خلافية واحترام مثل هذا الاختلاف؛ لماذا نحترم الاختلاف مع الأحزاب الإسرائيلية، ولا طاقة لنا عليه حين يتعلق الأمر بقضايانا وتوجهاتنا الداخلية؟

وأعتقد أنه لا تنقص المشتركة قضايا مدنية ووطنية للنضال؛ والذي ينقصها، للأسف، هو الإرادة والعزم على الفعل السياسي. لا أعرف، مثلًا، لماذا تكتفي المشتركة بالتصويت البرلماني ضد معاهدات التطبيع مع الإمارات والبحرين، ولم تبادر لبلورة موقف جماهيري ملتزم من مثل هذا التطور؛ لماذا لم يناقش التطبيع، ولم تتخذ ضده قرارات ترفض، مثلًا، التواصل مع ممثلي هذه الدول؛ فلا يعقل أن يصوت مندوبو المشتركة ضد التطبيع في الكنيست، وفي الوقت ذاته، يجلس الكثير من "عرب إسرائيل" على حقائبهم ينتظرون ساعة إقلاع الطائرات الإسرائيلية والخليجية إلى دبي!! للأسف، كنا نتوقع سماع موقف حاسم يجسّد إرادة جمعية في هذا الموضوع، ولو كان بشكل "فتاوى": (إسلامية، ومسيحية، وشيوعية، وتجمعيّة) تحرّم مثل هذه الزيارات، أو ترفض أيَّ نوع من التواصل مع هذه الأنظمة، التي تدوس بفعلها هذا أقدس المحظورات والحقوق الفلسطينية!

وعلى سيرة الإرادة الجمعية، لا معنى للتحدث عن حقوق جمعية، ونهمل، في الوقت ذاته، بلورة مقومات إرادة سياسية جمعية تميزنا. والمشتركة، في ظرفنا الحالي، وفي واقع الشرذمة العربية والفلسطينية، تعزّز هويتنا وتطلعاتنا الجمعية، وفشلها سوف يصب في خانة الإحباط والتأسرل.

عرب ٤٨: كأنك تدعو إلى إعادة بناء المشتركة على أساس إستراتيجية جديدة وبرنامج عمل شامل قادر على مواجهة التحديات أو القضايا التي تواجه جماهيرنا عوضًا عن المسارعة في إصدار شهادة وفاة بحقها؟

أبو سمرة: ربما يستنتج البعض أنّ هذا الوضع يؤكد وصول المشتركة إلى باب مسدود؛ ولكن لا يعقل كلما واجهنا صعوبة في حياتنا السياسية، وفي النضال الوطني والمدني، ندعو إلى العودة إلى المربع الأول، وإلى تفكيك المشتركة ووأدها! وخطاب الهدم وإعادة البناء من جديد، تحوَّل في الأونة الأخيرة إلى موضة عامة، تشمل نداءات لحل السلطة الوطنية؛ وأخرى لإعادة بناء منظمة التحرير؛ ومن قبلها راجت دعوات لإعادة هيكلة وإعادة إحياء اليسار الفلسطيني والعربي، بالإضافة إلى إحياء الناصرية، وربما القومية العربية برمتها؛ وإذا كانت القضية قضية هرج ومرج سياسي لا نستغرب أن نسمع من يدعو إلى إعادة إنتاج المشكلة الفلسطينية من جديد.

بقيت معارضة التطبيع في الكنيست (أ ب)
بقيت معارضة التطبيع في الكنيست (أ ب)

وهذه الدعوات أقرب إلى الثرثرة الوطنية منها إلى الفعل السياسي الهادف، ويصدر معظمها عن أكاديميين من خلال كتابة منشور أو مشاركة في ندوة زوم، وهذا بمعزل عن النشاط السياسي والجماهيري المثابر.

فالمتتبّع، مثلًا، لتاريخ منظمة التحرير يعرف أنها أُنشِئت من قبل شخصيات تقليدية في العمل السياسي، وسيطرت عليها فصائل الثورة في مرحلة لاحقة؛ بعد أن أثبتت شرعيتها الوطنية من خلال ممارسة العمل الثوري، ومع سيطرتها هذه عملت على إعادة تحديد أهداف المشروع الوطني؛ وأساليب العمل الفلسطيني؛ وحتى إعادة صياغة الميثاق الوطني.

وفي الحقيقة، علينا التخلي عن وهم "إعادة الإنتاج من جديد" لأيِّ ظاهرة كانت، سياسية أو دينية أو ثقافية وغيرها. فلا توجد عودة إلى نقطة الصفر والبدء من جديد؛ وهذا يذكرني بمقولة لأحد الحكماء، تقول، بما معناه، في اللحظة التي انتظمت المياه في نهر، لا يمكن أن تعود إلى منابعها الأصلية وهندسة النهر من جديد ليتماشى مع رغباتنا وميولنا؛ وعلينا الانطلاق من النهر ذاته. نستطيع أن نعدّل، ونحسّن، وربما نغيّر في مجرى النهر، في مناطق معينة، أو نبني سدًّا يتحكم بمجرى مياهه، ولكن لا يمكن إعادة بناء النهر من جديد.

وصحيح أن مياه القائمة المشتركة قليلة، ولم تنتظم بعد في نهر طويل، ومع ذلك، أعتقد أنه من الأفضل أن نستمر مع ما بنت المشتركة من مجرى ونطوّره، عسى أن يصبح، يومًا ما نهرًا دائم الجريان يخدم احتياجاتنا. هذا أفضل من العودة الوهمية إلى البداية، وبخاصة أن تفكيك المشتركة لا يعني أبدًا - كما يعتقد البعض - إنشاء ما هو أفضل منها.

عرب ٤٨: لم لا؟ هناك من تحدث عن قطب يهودي - عربي واسع وقادر على التأثير في المعادلة الانتخابية المشتركة، وهناك مبادرات لإقامة قائمة عربية - يهودية تضم جنرالات متقاعدين وأعضاء كنيست سابقين من أحزاب صهيونية وغير صهيونية؟

أبو سمرة: المشكلة ليست في الموافقة أو التحفظ على القائمة العربية - اليهودية؛ فأحد أهداف العمل السياسي العربي هو التأثير في مواقف الشارع الإسرائيلي؛ ومن لا يهتم بهذا التأثير أو لا يسعى إليه عليه اعتزال العمل السياسي، أو على الأقل اعتزال العمل البرلماني. المهم ما هو برنامج مثل هذه القائمة؟ وما هي تطلعاتها؟ فعلينا الانتظار؛ لنتأكد من هويتها.

ومع كل هذا الحذر "الدبلوماسي"، لا بدّ من التوجس، بخاصة في ضوء هوية بعض المشاركين في هذه القائمة وخلفيتهم السياسية والمهنية؛ لنترك الجانب اليهودي، أعتقد علينا الحذر من المتأسرلين من المثقفين والأكاديميين العرب؛ فبعد أن شبعوا واتخموا من "لعق حذاء السلطة"، بلغة راشد حسين، يظهرون على غير ميعاد في الهزيع الأخير من عمرهم السياسي؛ ليتحدّثوا باسم الجماهير العربية والقضية الفلسطينية والمساواة وغيرها.

فلا اعتراض على إمكانية صحوة الفرد من سكرة التأسرل؛ فهذا طبيعي، والإنسان بطبعه كائن متكون وقابل لتغيير مواقفه وتوجهاته، ولكن لا بأس أن يعتكف التائب والمخطئ، قليلًا أو كثيرًا، حتى يمارس طقس التطهر، ولا ينتقل مباشرة من التأسرل إلى الخطاب الوطني، بلا أيّ ترويض. ومبدأ: "خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام"، فيه إشكال في حالتنا، ولا يزال شعبنا يدفع ثمنه، لاعتماده في حالات معينة، كما حدث مع السلطة الوطنية؛ عدا ذلك فالحديث مرسل، وفيه الكثير من الإبهام، ويشترط "إنْ تفقهوا". كما إنّ حالتنا الفلسطينية أحوج لمن يتحلى، إن جاز التعبير، بالتقوى الوطنية، منه إلى حاجتنا لمن يعاني جموح الصدارة، وبخاصة إذا كان الشخص بلا هوية سياسية، ولا يعرف إلى مفهوم الالتزام وثقافته سبيلًا.


د. محمد ابو سمرة: باحث في الفكر العربي المعاصر ومحاضر في كلية دافيد بلين.

التعليقات