24/07/2021 - 21:00

طبيب من الجليل يروي حكاية الوجع الفلسطيني

وقد أشرت في المذكرات التي كنت أرفعها إلى المسؤولين أن مجرد الفصل بين اليهود والعرب في السكن وصب الجهد في تطوير القطاع اليهودي فقط هو غير صحي، ولكن لا حياة لمن تنادي، فكتبت أول مذكرة وثاني مذكرة وبعدها جاء يوم

طبيب من الجليل يروي حكاية الوجع الفلسطيني

مستشفى الدكتور حمزة (تحول اسمه إلى"رمبام" اليوم)..

في كتابه "الوجع الدفين: حكايات طبيب من الريف عن الحياة في الجليل"، الذي صدرت ترجمته مؤخرا بالعربية، يقول الطبيب حاتم كناعنة: "اتّخذتُ من الكتابة والتسجيل الصوتي خلال مسيرتي المهنية شكلًا من أشكال العلاج النفسي/ الدعم المعنوي الذي رأيت فيه متنفّسًا في التعامل مع الوجود الفصامي الذي أعيشه كفلسطيني ومواطن في إسرائيل في آنٍ معًا. فمن المؤكد أن النظر إليك رسميًا على أنك أحد أفراد أقليّة يُعتبر محض وجودها على أنه سرطان و‘تهديد وجوديّ‘ للدولة التي أنت مواطنها، ومبعث ندم على عدم قيام مؤسسيها بعملية تطهير عرقية كاملة وشاملة ضد المجموعة العرقية التي أنت منها، ليس بالأمر الذي من شأنه أن يخلق لديك توازنًا نفسيا. تخيّل كم سيكون الوضع أسوأ حين تُلقى على عاتقك مسؤولية مهمة في المؤسسة ذاتها التي تنظر إليك بهذا المنظار بينما تكون أنت أحد مركباتها الفاعلة".

ويتابع قائلا "اليوم، وبعد تقاعدي، فإني أعود إلى مذكّرات سجّلتها عبر نصف قرن من الزمان وقد وضعتُ نصب عينيّ أن أقوم بمهمة سرد حكاية قريتي (والتي قد أصبحت مؤخرا مدينة مع غياب أدني المؤهلات لذلك سوى عدد سكانها ونسبة الجامعيين بينهم) للعالم أجمع، على أمل كسر جدار الصمت والعزلة المفروضين على المجتمع الفلسطيني في إسرائيل".

وفي إشارة إلى توالي الحكاية التي يسعى إلى نقلها للعالم بلغته من خلال سيرته الذاتية يقول "كنت في كتابي الأول الذي صدر بعنوان ‘طبيب من الجليل: حياة ونضال فلسطينيّ في إسرائيل‘ (مطبعة بلوتو، 2008)، قد ركّزت على جهودي في مجال الصحة العامة والمجتمع المدنيّ".

ويقول د. كناعنة لـ"عرب 48": وقد لاقى الكتاب القبول، ليس كوثيقة تحتوي على مصادر معلوماتيّة فحسب، إنما كمساهمة أدبية أيضًا. كتابي الثاني "الوجع الدفين: حكايات طبيب من الريف عن الحياة في الجليل"، والذي هو بين يديك الآن، هو عبارة عن محاولة أدبية تميل أكثر إلى السرد وتستمد فصولها من عملي السريريّ كأول طبيب من السكان الأصليين في قريتي".

ويتألف الكتاب، مثلما يقول "من سلسلة من اللوحات على شكل قصص قصيرة تُحيك صورة غنية للحياة في الصحة وفي المرض، داخل مجتمع ريفيّ فلسطينيّ نموذجيّ في إسرائيل. وقد أتى بأسلوب روائيّ شخصيّ أكثر ممّا في كتابي الأول".

وهو يُظهر من خلال مجموعة أبطاله الذين يكادون أن يكونوا من صنع الخيال، صورة بانورامية شاملة لمجتمعه "كما رأيته في السنوات التي عشتها ومارست الطبّ فيه. وهي تركز على قريتي ومسقط رأسي، عرّابة، وعلى ما علق في دوامات الذاكرة المغربلة التي تمتد لتشمل، إنما بشكل منفصل، المناطق المحيطة بها في الجليل".

الدكتور حاتم كناعنة

حول الكتاب والسيرة المكللة بالجهد والعطاء لواحد من أبرز رواد العمل التطوعي والفعل المجتمعي، والذي ما زالت بصماته ظاهرة في هذا الحقل وفي عموم عملية البعث المتجدد لشعبنا بعد النكبة، كان هذا الحوار مع الطبيب حاتم كناعنة.

"عرب 48": "الوجع الدفين" كما نفهم من المقدمة هو الإحساس بالظلم وبكبريائنا الجريحة الذي يرافقنا (الفلسطينيون)، بسبب حرمان المجتمع الدوليّ لنا من حقنا العادل ومواصلة تجاهل مطالبنا، والذي جعلنا مهووسون بعدالة قضيتنا وأولويتها التي تفوق كل مظلومية أخرى في العالم، وهي قاعدة لا تشذُّ أنت عنها، كما تقول، وهي التي دفعتك لمواصلة مسيرتك بعد التقاعد كراوٍ فلسطينيّ تحاول إيصال الحقيقة من وجهة نظر أهلها إلى ما تيسر لك من العالم؟

كناعنة: صحيح وقد نشرت في هذا السياق كتابي الأول باللغة الإنجليزية عام 2008 وكان عبارة عن سيرة ذاتية يحكي عن موضوع العمل الجماهيري في مجال الصحة العامة من خلال تأسيسي أنا وزملاء آخرون لمؤسسة "جمعية الجليل" في شفاعمرو والتي ما زالت قائمة وتعمل اليوم بقيادة شباب من كادرنا الأكاديمي.

في حين أن الكتاب الثاني "الوجع الدفين" الذي ترجم مؤخرا إلى العربية وموجود في بعض المكتبات، هو عبارة عن قصص ألفتها من ذاكرتي عن المرضى الذين كانوا يزورون عيادتي، اختلقت فيها شخصيات أو دمجت عدة شخصيات أو عدة حكايات في شخصية أو حكاية واحدة لكنها بالمحصلة حكايات واقعية تعكس حالنا في تلك الفترة.

"عرب 48": سيرتك الذاتية لافتة بحد ذاتها، الخروج للدراسة في أرقى الجامعات الأميركية "هارفارد"، في الستينيات وفي ظروف الحكم العسكري وتداعياته الاقتصادية والسياسية على جماهيرنا؟

كناعنة: خرجت في 1960 ومكثت في الولايات المتحدة عشر سنوات وعدت عام 1970 مع شهادة ورخصة طب وزوجة وسيارة، بمعنى أنني جاهز لكل الطوارئ، حتى أن السيارة كانت من النوع التي يمكن استخدامها سيارة إسعاف أيضًا، لأنه لم يكن في قرانا سيارات إسعاف في حينه، حتى أن السير العمومي كان محدودا ويقتصر على سيارة باص تمر من القرية صباحا وتعود مساء، ناهيك عن عدم وجود أطباء في منطقتنا إذ كان أقرب طبيب علينا في الرامة وشفاعمرو، وفي طمرة نهاية الأسبوع فقط.

في تلك الفترة بدأت أنا والدكتور جميل الياس من سخنين، رحمه الله، وكنا نقدم هذه الخدمة لما يقل عن 50 ألف نفر.

"عرب 48": يجدر التنويه إلى أن هذا الواقع خلفته تداعيات النكبة، لأن المدن الفلسطينية على غرار حيفا ويافا واللد والرملة كانت قبل تدميرها تعج بالمثقفين والأطباء والمهندسين، وكما نعرف فإن الدكتور جورج حبش، على سبيل المثال كان قد أنهى دراسة الطب في جامعة بيروت عام 1948؟

كناعنة: نعم كان لدينا مثقفين وأطباء ولكن دعنا نقول، بتواضع، أننا كنا في تعداد العالم الثالث، رغم أن الفلسطينيين كانوا وما زالوا من ذوي أعلى مستوى ثقافي في مجال التعليم العالي في العالم العربي.

من عيادة الطبيب حمزة مصطفى

ولكن في الـ48 تم إجلاء 85% من سكان المنطقة التي باتت تعرف بإسرائيل، ونزحت قياداتنا، ليس فقط السياسية، بل الاجتماعية والعلمية أيضا، وبقينا نحن الذين بقينا بالأساس فلاحين، ليس بيننا قيادة متطورة وليس بيننا أكاديميين بالأعداد المطلوبة، فقد بدأنا مجددا من نقطة الصفر.

"عرب 48": أنت كنت بهذا المعنى، من الأوائل في المرحلة الثانية، مرحلة البناء ما بعد النكبة؟

كناعنة: هكذا شاءت الظروف، في موضوع الطب بالذات والمهن المطلوبة الثلاث، في حينه، الطب والهندسة والمحاماة، كان الفضل في ازدياد الأعداد للمنح الدراسية التي كان يوفرها الاتحاد السوفييتي وسائر الدول الاشتراكية بواسطة الحزب الشيوعي، بغض النظر عن الأهداف السياسية التي كانت تقف من ورائها، وهي تنمية كادر مهني من العاملين المنتمين للحزب الشيوعي، وهذا أمر لا أجادل فيه، ولكن له فضل كبير على أول من بدأوا في حقل الطب والحقول الأخرى.

"عرب 48": ولكنك اخترت الطرف الآخر، وقبل أن نسأل كيف وصلت إلى أميركا يتبادر سؤال عن عملك بعد إنهاء الثانوية، والذي قد يسلط الضوء على حال أحد الحقول الهامة في تلك الفترة وهو حقل التعليم؟

كناعنة: نعم بعد أن أنهيت الثانوية عملت لبعض الوقت في حقل التعليم، فقد كان هناك نقص شديد في المعلمين، فكما ذكرنا أن كل المثقفين خرجوا أو أُخرجوا عبر الحدود خلال النكبة، ولذلك فإن كل من أنهى الثانوية بنجاح كان يعين معلمًا بشكل فوري وأنا كنت من هؤلاء.

في البداية بعثني المفتش حنا الخازن - أبو وصفي لافتتاح مدرسة في قرية وادي الحمام، فخرجت باكرا في شاحنة كانت تقل عمالا من عرابة وانتظرت على باب مختار القرية حتى طلوع الشمس وعندما استفاق اعتذر مني قائلا، لقد عدلنا عن الموضوع، بعدها اشتغلت بشكل متقطع ثم عينوني في سخنين حيث عملت سنه كاملة وبعدها غادرت إلى الولايات المتحدة.

"عرب 48": كيف تيسر لك الخروج إلى الولايات المتحدة في تلك الظروف؟

كناعنة: خلال دراستي في الثانوية في الناصرة سمعت عن منحة "الروتاري" فتقدمت لها، وهناك في لجنة القبول تعرفت للمرة الأولى على الدكتور سامي جرايسي رحمه الله، الذي أصبح لاحقًا صديقًا عزيزًا، فأخذني جانبا وقال لي إن جمعية الروتاري في مدينة أطلنطا في أميركا خصصت المنحة لشاب مسيحي من الناصرة وليس لشاب مسلم من عرابة.

ولكن فضل منحة "الروتاري" أنها أهدتني إلى الطريق، بعدها تعرفت بالصدفة خلال جلوسي في محل "السوفنير" الكائن في شارع الكازانوفا في الناصرة، والتابع لصديقي فيصل محمد علي رحمه الله، شقيق المرحوم الشاعر طه محمد علي، وقد كنت استبدله أحيانًا في المحل ريثما يخرج مع السياح لبعض الوقت نحو كنيسة البشارة، تعرفت على رجل وزوجته أميركيين، وتراسلنا بعد مغادرتهما للبلاد وشاءت الأقدار أن يكونا الميسرين لخروجي للولايات المتحدة حيث وقعا أوراقي وكفلاني لدى الجامعة كما كان متبعا في حينه.

وغادرت إلى الولايات المتحدة وفي جيبي 500 دولار، بعد أن باع والدي آخر قطعة أرض يملكها في البطوف، وعندما عدت واستقرت أموري الاقتصادية كان أول شيء فعلته هو شراء قطعة أرض بنفس المساحة، ما زلت أملكها وأتذوق منها حلاوة بطيخ البطوف.

"عرب 48": عندما عدت من أمريكا فتحت عيادة خاصة أم عملت في أحد المستشفيات؟

كناعنة: عندما رجعت بعثت برسالة إلى وزارة الصحة في القدس، وهو العنوان الوحيد الذي كنت أملكه، أعربت فيها عن رغبتي بالتخصص في طب الأطفال، ويبدو أن الوزارة قامت بتعميم الرسالة على المستشفيات الحكومية والمكاتب اللوائية، وبعد فترة تلقيت رسالة من مسؤولة مكتب وزارة الصحة في عكا، وكانت هي الأخرى خريجة "هارفارد" واقترحت علي عوضا عن التخصص في طب الأطفال العمل إلى جانبها بتخصصي في مجال الصحة العامة في لواء عكا، وبعد تعييني بسنتين ترقت وأصبحت مسؤولة عن كل الشمال وأخذت أنا مكانها كطبيب قضاء عكا في وزارة الصحة.

"عرب 48": في حينه كانت هناك حاجة لأطباء عرب؟

كناعنة: كل عيادات الأم والطفل في القرى الفلسطينية في منطقة عكا كان يخدمها طبيب هولندي مسن اسمه كاهانسيوس بنصف وظيفة، بينما كانت هذه العيادات تعتمد كليا على الممرضات، في وقت لم يكن في عرابة وسخنين ودير حنا أي ممرضة سوى واحدة من الناصرة متزوجة في سخنين ولاحقا تزوجت ممرضة أخرى من الناصرة في عرابة.

من المهم التنويه إلى أنه عرض علي عند تعييني؛ بيت في عكا ومسدس، فرفضت الأمرين وقلت لهم لدي مكان أسكن فيه بين أهلي في عرابة ولست بحاجة لحماية.

"عرب 48": من الجدير التذكير أن الحديث يدور هنا عن سنوات السبعين، أي بعد عشرين سنة على إقامة إسرائيل؟

كناعنة: نعم، إلى هذا الحد كان النقص والإهمال ما زال يكتنف مجتمعنا، في مجال الطب العلاجي حيث لم يكن هناك عيادات وصناديق مرضى بتاتا في معظم القرى العربية، وفي مجال الطب الوقائي بالفقر الذي كانت تعاني منه محطات الأمومة والطفولة في الأطباء والممرضات.

هذا ناهيك عن الأوضاع البيئية حيث كان الأطفال يسيرون في شوارع تقني فيها مجاري المياه العادمة بغياب مشاريع الصرف الصحي، فالذين أوصلوا القرى العربية بشبكات مياه الشرب، وهي مبادرات محلية مباركة تشكلت في إطار جمعيات تعاونية، غاب عنهم أو لم تكن في أولوياتهم شبكات تصريف المياه بعد استعمالها.

"عرب 48": وطبعا تلك المجاري كانت سببا للكثير من الأمراض؟

كناعنة: صحيح فالأمراض الشائعة كانت نزلات البرد في الشتاء بسبب ظروف السكن والإسهال والتقيؤ في الصيف والناتجة عن الظروف البيئية المذكورة، وكما نعرف فقد انتشر في تلك الفترة مرض شلل الأطفال "البوليو".

وقد أشرت في المذكرات التي كنت أرفعها إلى المسؤولين أن مجرد الفصل بين اليهود والعرب في السكن وصب الجهد في تطوير القطاع اليهودي فقط هو غير صحي، ولكن لا حياة لمن تنادي، فكتبت أول مذكرة وثاني مذكرة وبعدها جاء يوم الأرض فقدمت استقالتي وقلت لن أواصل العمل في جهاز يتعامل بهذا الشكل مع أهلي وعدت إلى أميركا.

بعد سنتين رجعت إلى نفس مكان العمل ولكن مع برنامج جديد في ذهني يتمثل باقامة جسم منفرد عن وزارة الصحة وصناديق المرضى، تكون مهمته الاعتناء بالوضع الصحي في المجتمع العربي، فأسست عام 1981 أنا والدكتور أنور عوض والدكتور شكري عطالله ودكتورة من مستشفى الإنجليزي اسمها رونا مكاي "جمعية الجليل" التي ما زالت تعمل حتى اليوم على أساس مهني يصب في مصلحة المجتمع العربي.

"عرب 48": وهل تلقيتم أي دعم من المؤسسات الإسرائيلية؟

كناعنة: لم نتلق أي أغورة، لقد كان تمويل الجمعية أساسا من الخارج، بإرشاد صديقي المرحوم الدكتور سامي جرايسي، ومن الجدير التذكير أن أهم مشروع قطري أقمناه هو تمويل تخطيط المجاري في القرى العربية، والذي شكل أساسا للمجالس العربية التي لم تكن قادرة على تمويل هذا المشروع، للحصول على تمويل من وزارة الداخلية لمد شبكات المجاري وتنفيذ مشاريع الصرف الصحي.

هذا المشروع الذي موّلته جمعية "الجليل" بدعم من الخارج كان بنظري أهم مشروع لصالح الوضع الصحي في قرانا، والذي بعده وخلال عشر سنوات بدأت كل القرى العربية ببناء شبكات المجاري والصرف الصحي.

التعليقات