25/09/2021 - 22:16

يزبك: "ندفع اليوم ثمن اهتزاز القيادات ومسيرة تقهقرها بعد هبة أكتوبر"

يرى العديد من الباحثين الفلسطينيين أن إسرائيل عمدت، بعد هبة القدس والأقصى، إلى تفكيك المشروع السياسي الجامع والجماعي للفلسطينيين في الداخل، بطريقتين الأولى بواسطة تجريم العمل السياسي، وملاحقة

يزبك:

ضريحا الشهيدان عماد غنايم ووليد أبو صالح في سخنين (أرشيف عرب 48)

يرى العديد من الباحثين الفلسطينيين أن إسرائيل عمدت، بعد هبة القدس والأقصى، إلى تفكيك المشروع السياسي الجامع والجماعي للفلسطينيين في الداخل، بطريقتين الأولى بواسطة تجريم العمل السياسي، وملاحقة حركات وقيادات سياسية تشدّد في خطابها على تنظيم الجماهير الفلسطينية، وهو ما تبدى خلال العقد الأول بعد الانتفاضة، بحملة حثيثة وكثيفة في ملاحقة حركات وقيادات سياسية، وناشطين سياسيين، وانتهى بحظر الحركة الإسلامية (الشمالية) وإخراجها عن القانون وقمع وملاحقة قيادات التجمع الوطني وأبناء البلد.

أمّا الطريقة الثانية فتتمثّل في دمج الفلسطينيين كأفراد في المجتمع الإسرائيلي، من خلال دمج العرب كأفراد في الاقتصاد الإسرائيلي، دون تمكينهم من بناء اقتصاد عربي في أي مستوى كان، بمعنى استعمال الأدوات الاقتصادية الليبرالية لتفكيك المجتمع إلى أفراد، حتى لو كانوا أفرادا ناجحين ولكن بشرط أن لا يمتلكون أي مشروع جماعي.

بالمقابل طغت، برأي هؤلاء، لدى قياداتنا سياسات التمثيل على حساب سياسات التنظيم، بمعنى تمثيل المجتمع العربي في مؤسسات الدولة بدلا من تنظيم المجتمع وبناء مؤسساته، وهي توجهات توضحت منذ عام 2015 مع تأسيس القائمة المشتركة التي شكلت منعطفا في صالح سياسات التمثيل أمام سياسات التنظيم وبالتالي الدفع نحو أسرلة المجتمع والدفع باتجاه الاندماج في اللعبة الإسرائيلية.

عشية الذكرى الـ21 لهبة القدس والأقصى (أكتوبر 2000) حاولنا إلقاء المزيد من الضوء على هذه القضايا والتطورات، من خلال هذا الحوار مع أستاذ التاريخ في جامعة حيفا، بروفيسور محمود يزبك، والذي عايش الحدث من خلال موقعه في لجنة ذوي الشهداء التي لعب فيها دورا محوريا.

بروفيسور محمود يزبك

"عرب 48": بعد 21 سنة من ذروة هذا الحدث العظيم وفي ضوء الواقع السياسي والاجتماعي الذي تتخبط فيه جماهيرنا اليوم، تطرح الكثير من التساؤلات حول العوامل والأسباب التي قادت إلى هذا الانحدار، ولماذا لم ننجح في صيانة معاني الهبة ومنجزاتها؟

يزبك: أولا المدة الزمنية التي انقضت وهي 21 سنة هي فترة صالحة للتأريخ، بمعنى أنه صار هناك إمكانية لعمل بعد تاريخي للحدث، لأنه مر تقريبا جيل كامل خلال 21 عاما، وفي هذه الفترة إذا نظرنا إلى الوراء نجد أن أكتوبر 2000 هو حد فاصل بين صيرورة كانت موجودة وصارت شيئا آخر، بمعنى أنه محطة فاصلة في تاريخ جماهيرنا وشعبنا.

هناك محطتان أساسيتان في مسيرة جماهيرنا في الداخل هما يوم الأرض في آذار 76 وهبة القدس والأقصى في أكتوبر 2000، وكما قلت أكتوبر 2000 كان ذروة مرحلة سياسية بكل ما تعني الكلمة من معنى، لكن للأسف بدأنا بعدها بالهبوط إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.

وأستطيع أن أشهد بصفتي كنت في تلك الفترة في قلب الحدث، بصدق ودون تجني على أحد ودون ذكر أشخاص وأسماء أن القيادات حاولت أن تتخلص بسرعة من تبعات ما حدث في أكتوبر، فهي لم تستوعب ما حدث والمقصود ليس فقط قضية ارتقاء الشهداء وإنما الهبة العظيمة التي شملت البلاد من أعالي الشمال إلى أقصى الجنوب، بمعنى أن كل المجتمع الفلسطيني تحرك في فعالية احتجاجية شاملة استمرت نحو أسبوع كامل، على الرغم من إطلاق النار وارتقاء الشهداء ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين.

نحن لا نحكي عن حدث جرح خلاله بضعة أشخاص بل عن سقوط مئات الجرحى، في مختلف القرى والمدن وعلى مدى أيام واستعملت فيه القوات الإسرائيلية مختلف وحداتها من "يسام" و"يمام" وقناصة، ووسائل قمعها من رصاص حي ومغلف بالمطاط وغاز مسيل للدموع وغيرها، وبالرغم من ذلك لم تنطفئ جذوته، ونحن نعرف كيف انتهى.

"عرب 48": ماذا تقصد عندما تقول إن القيادات حاولت التخلص من تبعات ما حدث في أكتوبر؟

يزبك: أقصد أنها حاولت حذف ما حدث ومحوه، وقد تبدى ذلك مباشرة في ذكرى الأربعين للشهداء، حيث حاولت القيادات تغييب الذكرى وفي أفضل الأحوال تقزيمها.

ونحن نعرف أن أجهزة المخابرات والأمن الإسرائيلية من "شاباك" وغيره جعلت هذه القيادات تتصرف بخوف من خلال الوعيد والتهديد المباشر وغير المباشر لها بعدم إحياء الذكرى وتهميشها، وللأسف فإن هذه القيادات استجابت لهذه التهديدات.

"عرب 48": بعض هذه القيادات أراد التنصل من المسؤولية عما حدث؟

يزبك: نعم، تصرفوا بخوف وأرادوا التنصل من المسؤولية وهذا انعكس على الشارع وعلى الجمهور الواسع، بمعنى أنهم بدلا من أن يواصلوا رسالة التحدي التي أطلقها الشهداء والجرحى والمنتفضين بثوا حالة من الذعر والخوف والإحباط، وهذا ترك أثره على الشارع.

وهكذا كانت المشاركة الجماهيرية في ذكرى الأربعين للشهداء محدودة جدا، وكذلك الذكرى السنوية لاحقا، الأمر الذي حول قضية الشهداء التي ترمز إلى الهبة العظيمة وكأنها قضية شخصية تخص العائلات التي فقدت أبنائها، وهذا الأمر انعكس مباشرة على الجماهير فتقلصت مئات الآلاف التي شاركت في مواكب تشييع الشهداء إلى مئات وربما عشرات في ذكرى الأربعين مباشرة.

هذه الحالة استدعت في حينها التفكير بما حدث وكيف حدث؟ والجواب كان واضحا في ارتباط ذلك بموقف القيادات التي تهربت وتنصلت من المسؤولية، وعوضا عن أن تقود الشارع إلى مرحلة جديدة من النضال لتحقيق الحقوق السياسية وتبني ما حصل نحو انتزاع المزيد من المكاسب، خافت وتراجعت.

هذا حدث بعد 40 يوما فقط وعندما وصلنا إلى الذكرى السنوية الأولى كانت هناك محاولة من قبل القيادات لإلغاء الحدث من الأجندة الجماهيرية بشكل كامل، وكانت المطالبة الأساسية من قبل كل العائلات التي فقدت أبنائها أن يتم بناء أضرحة في مواقع ارتقاء الشهداء وفي أماكن مركزية لتخليد ذكراهم وإحياء هذا الحدث المركزي في تاريخ جماهير شعبنا.

أنا شخصيا تفاجأت من موقف قيادات في قرى ومدن عربية استقبلت المطلب بنوع من الاستغراب.

"عرب 48": تقصد الناصرة طبعا؟

يزبك: نعم، وكما تعرف فقد جرى بعد مماطلة طويلة بناء النصب في موقع هامشي من المدينة وبشكل غير لافت للأنظار، علما أن الرسالة من النصب التذكاري هي أن يكون في مكان تجتمع الناس حوله وحول قضية الشهداء ويذكر بالحدث والهدف العظيم الذي استشهدوا من أجله.

"عرب 48": منذ البداية كانت هناك محاولة لتحويل القضية إلى قضية مدنية، بمعنى انتهاك الدولة لحق مواطنين في التظاهر وإطلاق النار على محتجين، وتغييب البعد الوطني المتمثل بالتلاحم مع قضايا شعبنا في مقاومة الاحتلال وانتهاك حرمة المسجد الأقصى؟

يزبك: صحيح، ولكن يجب التوضيح أنه بالنسبة لنا كعائلات شهداء المطالبة بإقامة لجنة تحقيق رغم عدم ثقتنا بجهاز القضاء الإسرائيلي، كان الهدف منها توفير منبر لعائلات الشهداء ليقولوا مقولتهم ويرووا روايتهم لكي لا تضيع وتطمس كما ضاعت وطمست الرواية الفلسطينية في السابق وأصبحت الرواية الإسرائيلية هي المهيمنة.

لم نتوخ من لجنة التحقيق أن تقوم بإحقاق الحق وإظهار المعاني الحقيقية لهبة أكتوبر، ولكن ابتغينا أن تكون منصة رسمية يستطيع المتحدث الفلسطيني، والد الشهيد وعائلة الشهيد والقيادة الفلسطينية أن تقول روايتها لما حدث في أكتوبر ويتم تسجيل هذه الرواية وهذا ما حصلنا عليه في لجنة أور، علما أن اللجنة في مواضع معينة أقرت بأن الرواية الفلسطينية هي رواية صحيحة والرواية التي أرادت أن تسوقها الشرطة الإسرائيلية هي رواية كاذبة، بمعنى أنه تم قتل هؤلاء الشباب بدم بارد ومن المفترض ألا يقتل أبناء البلد حينما يخرجون للتظاهر.

"عرب 48": وهل توقعتم أن تنصفكم لجنة "أور" وتوصي بمعاقبة المسؤولين؟

يزبك: لم نتوقع أبدا أن توصي لجنة "أور" بعقوبات وكنا متأكدين أن الدولة لن تعاقب أي عنصر قام بقتل عربي، لكن الشيء الأساسي الذي أردناه بالتعلم من تاريخ مواجهة شعبنا مع الحركة الصهيونية، أنه دائما يتم تغييب الرواية الفلسطينية وبمرور الزمن تصبح الرواية الصهيونية هي المهيمنة، فكان الهدف أن يكون مكانا للرواية الفلسطينية حتى داخل البروتوكول الإسرائيلي.

"عرب 48": الوجه الآخر للموضوع يتمثل بالنتائج والاستخلاصات التي وصلت إليها لجنة "أور"، وتوجيه إنذارات لقيادات عربية بعينها والإشارة إلى قوى سياسية "متطرفة" بعينها وما تبعه ذلك من قمع وملاحقة لقيادات التجمع وأبناء البلد وحظر للحركة الاسلامية (الشمالية)؟

يزبك: صحيح، هذه هي النتيجة الثانية التي نريد أن نصل إليها بنظرة إلى الوراء، فالمؤسسة الإسرائيلية فهمت بعد أكتوبر أنه يجب قمع المجتمع الفلسطيني، بطريقة قمع ما تسميها بالقيادات المتطرفة التي كانت في الواجهة وهي التي ضغطت لاستمرار وإحياء الذكرى، لأن هذه القيادات استوعبت معاني هبة أكتوبر ودلالاتها التاريخية.

أما من الناحية الإسرائيلية فقد كان القرار واضحا بمحاربة القيادات الفلسطينية وكبحها ولذلك قمعت الحركة الوطنية وقياداتها وحظرت الحركة الإسلامية (الشمالية)، وهو شيء غير متوقع من دولة تسمي نفسها ديمقراطية، وأعطت المفتاح لحركة أخرى تسمي نفسها إسلامية.. وبقاموسها تدعم الإيجابيين وصولا إلى وضع لم يتوقعه أحد في المشهد الإسرائيلي بأن يصبح حزبا فلسطينيا شريكا في ائتلاف حكومي إسرائيلي يقوم بالاعتداء على شعبه.

أعتقد أن ما آلت إليه الأمور في الانتخابات الأخيرة هو في النهاية إفراز لموقف القيادات ومسيرة تراجعها منذ هبة أكتوبر.

"عرب 48": لقد عملوا على إضعاف تيارات معينة وإلغاء تيارات معينة وهندسة الساحة السياسية بما يؤدي إلى تلك النتيجة؟

يزبك: والنتيجة لا تتمثل فقط بالزحف والمشاركة في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي فقط، بل في تفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل، ونحن نعرف أنه حيث تكون الحركة السياسية قوية وملتحمة بالجماهير وتمتلك أهدافا واضحة ومتماسكة، لا يمكن ضرب المجتمع من الداخل وتفكيكه، لكن ما حدث أن القوى الإسرائيلية نجحت في تفكيك مجتمعنا وشرذمته وما يحصل الآن من عنف مجتمعي مستشري هو نتيجة للتراجع السياسي.

كأقلية قومية تعيش في ظل نظام كولونيالي إسرائيلي ما نراه أمام أعيننا اليوم هو نتيجة حتمية لهذا التراجع، لأنه حينما تضعف الحركة السياسية يتفسخ المجتمع ويتشرذم وتنتشر المظاهر الاجتماعية السلبية، وهذا ما يحصل لدينا وحصل في الكثير من المجتمعات التي كانت تحت الاحتلال وتحت الأنظمة الكولونيالية المختلفة.

بمعنى أن تصرفنا كمجتمع لا يختلف عن تصرف مجتمعات أخرى مرت بمسيرة سياسية مشابهة، ولذلك إذا أردنا تغيير المجتمع يجب علينا تغيير المنظومة السياسية والأهداف السياسية وخلق قيادة قوية ملتحمة بالجماهير، ويبدو أن هذا هو الحل لقضايا العنف والجريمة والتفكك الاجتماعي أيضا وليس طلب الحماية من قامعينا.

بالمحصلة فإن ما حصل في أكتوبر كان أبعد بكثير من أفق القيادات التي لو استوعبته لكان موقعنا اليوم يختلف اختلافا كبيرا، ولكننا للأسف نحصد اليوم نتائج ضعف وتراجع القيادات وتقهقرها.

التعليقات