27/11/2021 - 21:17

سجون الاحتلال: السلطة ومقاومتها

أنا أتحدث عن الحق في التأنيث، وكما هو معروف فإن هناك بعدين للمرأة، حيث يتطور عن البعد البيولوجي مفهوم الجندر أو جنسانية الجسد، بمعنى أن المرأة كامرأة فلسطينية لها أو يرتبط بجسدها تصورات اجتماعية وهذه تشكل الجندر

سجون الاحتلال: السلطة ومقاومتها

من أمام سجن "عوفر" (أ ب)

في إطار ورشة مشتركة نظمتها جامعة بيرزيت وجامعة بيركلي في كاليفورنيا وجامعة جنت في بلجيكا، عُقدت مؤخرا، قدمت طالبة الدكتوراه، نور بدر، ورقة بحثية بعنوان: "هندسة الموت في السجن الإسرائيلي: في سوسيولوجيا السلطة ومقاومتها"، تحدثت فيها عن تجربة المعتقلات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلية.

ويهدف هذا المشروع المشترك بين الجامعات الثلاث إلى تبادل الأفكار التحليلية وخطوط التحقيق المتعلقة بالتقاليد النسوية الاستعمارية والمادية، وإلقاء الضوء على الجوانب المادية للنسوية وبنيتها التحتية والمقاييس المتنوعة ذات التجليات التاريخية: من الأجسام إلى الأراضي، ومن اللحم البشري إلى التربة، ومن البيولوجيا إلى المعادن والأرض، ومن الممتلكات إلى العمل.

وفي ما يتعلق بالمناقشات العابرة للوطنية، يبتغي المشروع فهم "النسويات" الاستعمارية بأوسع معانيها في معالجة ومقاومة التاريخ الجندري المستمر للاستعمار الأبيض الأوروبي في سياقات مختلفة قد تشمل، النسوية الاستعمارية النظرية المعادية للاستعمار، والاستعمار، وما بعد الاستعمار، ومعارف (الجنوب) العالمي.

وتجادل الباحثة الفلسطينية في هذه الورقة السيادة من خلال تجلي ثنائية السلطة على الحيز المتمثل بالجسد، في هذه الحالة، عبر "الحق" الاستعماري في ممارسة أنماط من "الإبادة" الناعمة، غير المرئية، مقابل المقاومة كفعل عمل على إعادة تشكيل الحيز/ الجسد للبقاء والتكيف.

وتطرح أنماط "الإبادة" الناعمة من خلال: "الحق في التأنيث/ الحق في التحديق "العصفورة"/ الحق في ضبط البيولوجيا/ الحق في رحلة "القبر المتنقل". وتطرح بموازة ذلك وسائل المقاومة من خلال ثلاثة أنماط تتمثل بالمقاومة الفجائية/ المقاومة المنظمة/ المقاومة الثورية.

نور بدر

لإلقاء المزيد من الضوء حول موضوع الورقة وتجربة الأسيرات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية، أجرينا هذا الحوار مع طالبة الدكتوراه نور بدر.

"عرب 48": تناول قضية الأسرى الفلسطينيين من خلال بحث أكاديمي، بالتركيز على تجربة المعتقلات الفلسطينيات التي يمتزج فيها بشكل جلي "الوطني" و"الاجتماعي" وتتشابك أشكال الظلم الواقعة على المرأة الفلسطينية، وتبرز بالمقابل مقاومتها العنيدة كجزء من الواقعين في الأسر وكجزء من الشعب الواقع تحت القهر والظلم اليومي للاحتلال ونظام الاستعمار الاستيطاني، تناول هذه القضية محاولة شائكة وفكرة رائدة خاصة وأنها تعرض لتجربة حية في السيطرة على الجسد أو الأجساد (أجساد النساء) الواقعة تحت الاعتقال والتحكم فيها؟

بدر: البحث ينقل ويعالج تجربة الأسيرات الفلسطينيات من خلال صوت الأسيرات أنفسهن، حيث يضم مقابلات شخصية اجريتها مع 13 أسيرة اعتقلن على مدى زمني، شمل ما قبل أوسلو وما بعد أوسلو ومن فصائل مختلفة وأجيال وحالات اجتماعية متنوعة، وهو يتناول عملية هندسة الموت في السجن الإسرائيلي، وأنا أجادل فيه بأن الموت هو ليس توقف أعضاء الجسد عن الحياة والدفن، بل أن الموت يحدث على مستوى الحياة اليومية والإنسان حي، من خلال عملية معاناة ومن خلال سياسات تترك آثارا طويلة الأمد ويبقى الإنسان يعاني منها طويلا، كما يحصل مع الأسيرات قبل أن تؤدي في النهاية إلى الموت الفعلي.

أنا أتحدث أن منظومة السجن هي منظومة مصممة أصلا لعزل هؤلاء الأسيرات وممارسة عملية إبادة بطيئة ضدهن، أما لماذا هؤلاء الأسيرات بالذات فهذا مرتبط بدورهن المقاوم على الأرض، وهذا يعيدنا للسياق بأن فلسطين تخضع لاستعمار استيطاني يستهدف الفلسطيني بعملية إبادة يومية، شكلت ذروتها النكبة الفلسطينية عام 1948، لكنها ما زالت تتوالد بأنماط متعددة.

في عام 1948 كان القتل والتهجير وبعدها صارت المعازل القائمة اليوم، أن تعزل كل مجموعة وأخرى من السكان الفلسطينيين في بنتستونات تلك عملية إبادة وأن يوضع المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين في سجون هو نمط من أنماط الإبادة وما يميز نمط الإبادة ذلك هو أن إسرائيل تمتلك السيادة المطلقة على هذا الحيز.

والسيادة المطلقة تعني حق التصرف وحق التملك في المكان بما تمنحه سلطة السيادة على الحيز والتي تقود بدورها إلى سلطة حق التملك لكل ما يدور في هذا الحيز الذي هو حيز السجن، إن سيطرة السلطة على فضاء السجن كنظام استعماري يعني أن تمارس السلطة على نظام السجن كونك أنت المستعمر وممارستك لهذه السلطة على الحيز يقودك لممارسة سلطة أخرى تنبثق عن الأولى، هي حق التملك والتصرف بهذه الأجساد (أجساد الأسرى والأسيرات) في حياتها اليومية.

من هنا تأتي أهمية السلطة، بمعنى أنني عندما أتحدث عن نظام السجن والنساء اللاتي يتم احتجازهن فيه، دائما يعيدني ذلك إلى السياق، الذي يحكي عنه إيليا زريق بأن التحديات اليومية في حيز معين هو الحيز الاستعماري في حالتنا، بمعنى إذا أردت أن أحلل وجود الأسيرات في المعتقلات الاستعمارية يجب أن يعيدني ذلك إلى سياق الاستعمار الذي يستهدف الأجساد الفلسطينية خارج السجن في عملية إبادة يومية، ويقوم بوضع المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين في حيز السجن ويمارس ضدهم عملية إبادة أسرع.

"عرب 48": ما هي الآليات التي تستخدمها السلطات الإسرائيلية في "عملية الإبادة" تلك وكيف تتم مقاومتها من قبل الأسيرات؟

بدر: العديد من الأبحاث ركزت على الجانب المادي في التعذيب الذي يمارس خلال التحقيق، وأقصد التعذيب الجسدي الذي يستطيع الصليب الأحمر ومنظمات حقوق الإنسان ملامسته ومشاهدة آثاره، لكن التعذيب الذي أتحدث عنه هو عملية الإبادة البطيئة وهي غير مرئية ولا يعاقب عليها، لأن القانون والمنظمات الدولية لا يأخذها بعين الاعتبار.

أنا أتحدث عن الحق في التأنيث، وكما هو معروف فإن هناك بعدين للمرأة، حيث يتطور عن البعد البيولوجي مفهوم الجندر أو جنسانية الجسد، بمعنى أن المرأة كامرأة فلسطينية لها أو يرتبط بجسدها تصورات اجتماعية وهذه تشكل الجندر، فهناك الأنثى وهو المصطلح المعني بالبعدالبيولوجي وهناك التانيث الذي هو الجندر المبني على كونها أنثى.

المعتقلات الفلسطينيات، مثلا، يتم نعتهن بكلمات تقال في الشارع الفلسطيني بلغتهن العربية، شتائم نابية لا يستخدمها نظام السجن من فراغ بل لأنه يدرك أنها مبنية على تصورات مجتمعية في الثقافة المحلية، وهي عادة ما ترتبط بجسد المرأة كجسد له "حرمته" ( بمعنى أنه يجب تغطيته) فيأتي هذا المستعمر الذي يربط نفسه بحضارة الرجل الأبيض، حامل الثقافة وصانعها ويستخدم جنسانية الجسد لإخضاع هذه الأجساد من خلال استعارة التصورات "الشعبية" الشائعة واستخدامها.

فعندما يقول أحد المحققين لمعتقلة سآخذ صورتك وأعيد تصميمها بطريقة ما وأنشرها في بلدك "ليعرفوك على حقيقتك"، فهو يخوفها بسياسات تتعلق بطريقة تصور الجسد في الثقافة المحلية، وبالمحصلة فإن المحققين يبنون على قوة تأثير الضوابط غير الرسمية السائدة في المجتمع والمتمثلة بالأعراف والتقاليد السائدة، وعلى ما يصفه مأمون طربيه، انخفاض قيمة الفرد إزاء جماعته عندما يوصم بالعار.

الحق الثاني الذي أتحدث عنه يرتبط بفكرة "العصافير" وكيف يقوم نظام السجن بزرع جاسوس داخل المعتقل بصفة مقاوم وكيف ينعكس ذلك على الحياة اليومية داخل السجن بفقدان عامل الثقة بين الأسيرات والأسرى، في المكان الذي أنت أحوج ما يكون فيه إلى أهل ثقة وأصدقاء، لكي تفرغ ما عندك من هموم وتفرج عن كربك وتخفف من الضغط النفسي الواقع عليك.

عندما تخاف الأسيرة من أن ما تبوح لزميلتها بمكنوناتها قد تكون "عصفورة" تلتزم الصمت وتصير أكثر انطوائية وانزواء، وهذا هو الهدف من فكرة زرع "العصافير" الذي كما نعرف هو أحد أساليب الخداع التي تطورها إسرائيل في مواجهة الأسرى والأسيرات ومحاولة النيل من صمودهم.

"عرب 48": "العصافير" كما ذكرت هي إحدى وسائل العقاب أو التعذيب النفسي المستعملة ضد الأسيرات والأسرى، والتي لا تقتصر على انتزاع ما فشل المحققون في انتزاعه مباشرة بطرق الخداع فقط، بل تبتعي زرع عدم الثقة والطمأنينة بين الأسرى والأسيرات، وهو أسلوب يندرج ضمن أساليب التعذيب النفسي الذي تتبعه إسرائيل بكثرة مؤخرا؟

بدر: في هذا السياق يقول فوكو أن التحول الذي طرأ في نمط العقاب، من التعذيب الجسدي إلى التعذيب النفسي، هو ليس نتيجة لجهود منظمات حقوق الإنسان الدولية في هذا المضمار، بل هو تقنية جديدة من تقنيات إخضاع الجسد التي طورتها السلطة، ولجوء إسرائيل إلى هذه التقنية لا ينبع من التزامها بحقوق الإنسان بل لتطوير أساليبها التي عندما تفشل تعود إلى التعذيب الجسدي، وهم أحيانا يبدأون بها كما حدث مع الأسير سامر العربيد.

الحق الثالث الذي أتحدث عنه هو الحق في النقل، وكلنا يعرف "البوسطة" التي يتم نقل الأسرى بواسطتها من السجن إلى المحكمة أو من سجن إلى سجن، والتي باتت تعرف بمصطحات الأسرى بـ"القبر المتنقل"، وإذا كانت الفكرة من الانتقال هو الخروج من السجن ومشاهدة السماء والشوارع والبشر، فإن "القبر المتنقل" جاء ليسد كل هذه الآفاق، عبر خلق سجن متنقل هو عبارة عن سيارة مغلقة بدون شبابيك، يجلس فيها المعتقلون مدة تصل أحيانا إلى 20 ساعة في نفس الوضعية، ويعاقبون إذا اقتضى الأمر ذلك أو لم يقتضيه، بتشغيل المكيف على التبريد في البرد وعلى التدفئة في الصيف، كما أن الأسرى يقضون فترة الـ20 ساعة دون أن يتمكنوا من دخول الحمام لأنه غير موجود أصلًا.

الحق الرابع الذي أتحدث عنه هو "ضبط البيولوجيا" وأحكي عن فكرة الأمومة بالدرجة الأولى، والتي تمثل هاجسا للأسيرات، خاصة وإن الفترة المفترضة التي يقضينها في السجن هي الفترة التي يمكن ان يرتبطن وينجبن خلالها، ان كن عزباوات وان يرعين اطفالهن ويرينهن يكبرون امام اعينهن ان كنا متزوجات ولهن اطفال.

فالمجموعة الأولى تحرمها إسرائيل من ممارسة حلم الأمومة عبر الزواج والإنجاب والمجموعة الثانية تحرمها من ممارسة أمومتها عبر تربية ورعاية أطفالهن والتمتع برؤيتهن يكبرون في أحضانهن، هي عملية ضبط لفكرة الأمومة.

"عرب 48": تحدثت عن أساليب مواجهة أو مقاومة من قبل الأسيرات في التعاطي مع هذه الحرب التي تشن ضدهن؟

بدر: هناك ثلاثة أنماط من المقاومة تحدث عنها أصف بيات، المقاومة اللحظية، المقاومة المنظمة والمقاومة الثورية. المقاومة اللحظية هي المرتبطة بحدث مفاجئ مثل الاعتقال وعملية المقاومة تكون حينها في ضبط الصوت، حيث يصبح التزام الصمت خلال التحقيق مقاومة، وغالبية الأسيرات اللاتي تحدثت اليهن التزمنا الصمت، خصوصا في ثنائية سياقات الاضطهاد التي يكون فيها المحقق والمعتقل، الرجل والمأة، المستعمر والمستعمر فإن الصمت هو أقوى سلاح يمكن للمعتقلة استخدامه.

وعلى مستوى الحياة اليومية داخل السجن فإن الصوت الجماعي العالي خلال جلسات القراءة أو في الأغاني الجماعية وحلقات الدبكة والتمارين الرياضية، الصوت الجماعي الذي يحمل نفس المشاعر والأحاسيس هو الصوت القادر على اختراق جدران السجن وإنتاجه هي عملية مزعجة لإدارته لأنه قادر على مغادرة السجن، هو المقاومة.

أما المقاومة الثورية التي أتحدث عنها وأتناولها من خلال الإضراب عن الطعام الذي يصل إلى حد التضحية بالجسد، حيث يصبح الجسد هو أداة المقاومة، وأن الجسد يصبح عدو للأسير يجب كبت رغباته في الأكل والشرب، الجسد يصبح أداة المقاومة، الأسير يتخلى في هذه الحالة عن جسده ويلقى بمسؤوليته على إدارة السجن.

المقاومة الثورية هي أعلى درجات المقاومة لأنها تكتنز في داخلها عذاب كبير، حيث يصير الأسير شخصيتين، هو نفسه وعزته وكرامته مقابل جسده الذي يطالبه بان يبقى حي، وهو يتخلى عن جسده من خلال إلغاء مسؤوليته عنه، وحتى التضحية بهذا الجسد المتمثل بالإضراب حتى الموت أو الانتصار.


*نور محمد بدر، مرشحة دكتوراه في جامعة تونس في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تعمل على أطروحة بعنوان: "الاستعمار في تجسد اليومي: في سوسيولوجيا سيطرة الحكم العسكري الإسرائيلي على الأجساد الفلسطينية ومقاومته".

حاصلة على درجة الماجستير في النوع الاجتماعي والتنمية من جامعة بيرزيت، رسالة الماجستير بعنوان "التهميش المركب: روايات المعتقلات الفلسطينيات عن تجاربهن في الأسر". تهتم بسوسيولوجيا الحياة اليومية للفلسطينيين في ظل الاستعمار الإسرائيلي؛ وتركز على تفكيك القهر الذي يستهدف الأجساد الفلسطينية بعملية إبادة بطيئة في إطار حياتهم اليومية. يصدر لها قريبًا كتاب بعنوان: "هندسة الاضطهاد: سياسات التحكم بالأجساد الصامتة.. النساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي" عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

التعليقات