25/12/2021 - 21:13

"الاستيطان الرعوي" شكل استعماري فريد للسيطرة على الأغوار

يتعرض سكان الأغوار الفلسطينيين في السنوات الأخيرة لمضايقات غير محتملة تستهدف تهجريهم ودفعهم لترك أراضيهم، انسجاما مع المخطط الإسرائيلي بالتخلص من التواجد الفلسطيني في هذه المنطقة، وفي مناطق "ج" عموما بغية ضمها للسيادة الإسرائيلية.

قرية "الميتة" في الأغوار الشمالية (الأناضول)

يتعرض سكان الأغوار الفلسطينيين في السنوات الأخيرة لمضايقات غير محتملة تستهدف تهجريهم ودفعهم لترك أراضيهم، انسجاما مع المخطط الإسرائيلي بالتخلص من التواجد الفلسطيني في هذه المنطقة، وفي مناطق "ج" عموما بغية ضمها للسيادة الإسرائيلية.

ولتحقيق هذا الغرض يجري توظيف نموذج فريد من الاستيطان يسمى بـ"الاستيطان الرعوي"، حيث يسيطر بضعة مستوطنين مع قطعان من الأغنام والأبقار على مساحات واسعة من الأرض ويشكلون تهديدا وجوديا على السكان الفلسطينيين الأصلانيين.

هدى مباركة التي بحثت هذه الظاهرة في إطار دراسة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في جامعة بير زيت، أشارت في ورقة بعنوان "الاستيطان الرعوي - شكل جديد من أشكال الاستيطان الاستعماري في منطقة الأغوار"، نشرت مؤخرا، إلى أن هذا النموذج يختلف عن النماذج الاستيطانية الأخرى بأنه يوظف الثروة الحيوانية في التوسع على الأرض والسعي لإثبات ملكية المستوطنين عليها، بواسطة ثلاث طرق رئيسية هي القانونية عبر سن القوانن وتشريعها، والتاريخية من خلال العودة إلى الماضي، والثقافية عبر محاكاة الفلسطيني الأصلاني.

وتقول، إن المستوطنين يفرضون سيطرتهم على مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين المحيطة بتجمعاتهم السكانية، وفيها يقومون برعي قطعان ماشيتهم منذ عشرات السنين، حيث يفرض المستوطنون طوقا حول التجمعات السكانية الفلسطينية عر إنشاء كتل متراصة من المستوطنات والبؤر الاستيطانية ذات الطابع الرعوي، وذلك لقطع أواصر الوحدة الفلسطينية المادية على الحيز المكاني ومنع التواصل الفلسطيني ولبعثرة التجمعات الفلسطينية.

كما يقوم المستوطنون برعي قطعانهم في جميع المناطق المحيطة ببؤرهم الجديدة، ويفرضون هيمنتهم بوسائل عدة وبحماية قوات الاحتلال لهم وصولا إلى مشاركتهم في الاعتداءات، ويقومون بإفراغ العنف المتأصل فيهم بواسطة الهجمات المتزايدة على الرعاة الفلسطينيين في مناطق الرعي، وعبر رشقهم بالحجارة والتخويف والتصادم المباشر وحمل العصي والأدوات الحادة وتخريب الممتلكات وسرقتها، وذلك لأجل الترهيب وبث الخوف في نفوس الرعاة الفلسطينيين وكل من يخرج معهم من أجل الرعي ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم.

وتلفت الدراسة إلى معاناة رعاة الأغنام الأصلانيّين في منطقة الأغوار الفلسطينية من جراء تصاعد وتيرة اعتداءات المستوطنين عليهم وحدتها، والتي تتخذ أشكالًا عديدة بدءا بالتهديد والملاحقة والاعتداء الجسدي أو الاحتجاز والاعتقال بذرائع مختلفة، مرورا بمداهمة قطعانهم بالتراكتورات بهدف تشتيتها وصولا إلى دهسها أو وضع مواد سامة لها في الأراضي الرعوية.

هدى مباركة

لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع كان هذا الحوار مع الباحثة هدى مباركة.

"عرب 48": يبدو أن هذا الشكل من الاستيطان جاء ليتلاءم مع طبيعة المنطقة من جهة، وما يُخطَطَ لها من جهة ثانية، كونها مستهدفة كجزء من ما يسمى بمناطق "ج"، وفق تقسيمات أوسلو، والتي تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، المرشحة للضم إلى السيادة الإسرائيلية؟

مباركة: حاولت الدراسة أن تركز الضوء على هذا النوع الجديد من الاستيطان الاستعماري وهو "الاستيطان بالرعوي"، حيث قامت بداية بتقديم إطار تحليلي نظري يتعلق بثنائية المستعمر الصهيوني والمستعمر الفلسطيني وعلاقتهما على الأرض، كون هذا الاستعمار يقوم بشكل أساسي في السيطرة على الأرض.

كما توضح الورقة ماهية "الاستيطان الرعوي" والقائمين عليه وكيف يتم محاكاة نمط الحياة الفلسطيني على الأرض، ومحاولة المستوطن الإسرائيلي تقليد هذا النوع من الحياة، وفي الجزء الأخير تتتناول الورقة الأساليب الإجرائية التي يتم بواسطتها السيطرة على الأرض وقمع الفلسطيني للحلول مكانه.

وبالرغم من أن الاستيلاء على الأرض هو العنصر الأساسي في العملية الاستيطانية إلا أن هذا الأسلوب الجديد يختلف عن أساليب الاستيطان الأخرى، الزراعية أو العمرانية وغيرها بمحاكاة أسلوب الحياة الفلسطيني وباستخدام الثروة الحيوانية كوسيلة للسيطرة على الأرض.

المستوطنون بحماية جيش الاحتلال (وفا)

وهو يقوم على السيطرة على أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من المستوطنين، ما يجعله، بشهادة مجالس المستوطنين، أكثر جدوى حيث يتم بسط سيطرة المستوطنين على مساحات واسعة من الأرض دون رادع وبتكاليف أقل.

وينتشر هذا النوع من الاستيطان في الأغوار عموما والشمالية منها بشكل خاص، كما أنه انتقل أيضا إلى مناطق أخرى منها القرى المحيطة بمدينة نابلس، وهو يعتمد استغلال الأرض كوسيلة للسيطرة عليها بما يتلاءم مع طبيعة الأرض ويستهدف الأراضي التي لا تلائم الزراعة وصالحة للرعي.

"عرب 48": من الواضح أن الاستيطان بأشكاله المختلفة يستهدف الإنسان الفلسطيني المقيم على هذه الأرض، يستثمرها من خلال الزراعة والرعي وأشكال الإنتاج الأخرى، وهو يشكل محور صدام يومي بين الفلسطينيين والمستعمرين الذين يسعون للسيطرة على الأرض والحلول محل أصحابها الأصليين، وهذا يحدث في الأغوار أيضا مع هؤلاء المستوطنين؟

مباركة: أكيد، أن كل محاولات الاستيطان قائمة على ردع الفلسطيني، الذي يسعى أينما كان موجودا إلى التشبث بأرضه التي تشكل رمز هويته ومصدر رزقه ومعيشته، بالمقابل يحاول الإسرائيليون تهويد المكان ومحو كل أثر للفلسطيني فيه وإثبات وجودهم من خلال نسج علاقة مفترضة بينهم وبين الأرض.

والإجراءات التي تستخدم ضد الفلسطينيين عموما يجري استخدامها في حالة الاستيطان الرعوي، للتضييق على معيشة الفلسطيني وملاحقته في مصدر رزقه ومكان سكنه، حيث تمنع التجمعات الفلسطينية التي تعتمد في معيشتها على الرعي في الأغوار من إيصال المياه لتجمعاتها ومن تطوير أي بنية تحتية ومن توسيع البركسات، كما يتم التضييق عليها في شراء الأعلاف والتنقل في الأماكن المحيطة بالمضارب التي يتواجدون فيها.

بالمقابل يقوم المستوطن بتسييج مساحات شاسعة من الأرض ويمنع الفلسطينيين من الرعي فيها أو الدخول إليها بادعاء أنها ملكيته الخاصة ويلقى الحماية والرعاية الكاملة من جيش الاحتلال، كما يتم توفير له البنية التحتية من قبل مجالس المستوطنين والجمعيات الاستيطانية الكبرى، التي تدعم هذا النوع من الاستيطان الذي يتم من خلاله السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي وبسط النفوذ على الحيز المكاني.

"عرب 48": ماهي المادة البشرية لهذا الشكل الاستيطاني وعن أي مستوطنين نتحدث؟

مباركة: يتم تنفيذ هذا النوع من الاستيطان من قبل مجموعات ما يسمى "شبيبة التلال"، والملفت أن تجد مستوطنا لا يتجاوز الـ20 عاما معه قطيع أغنام أو أبقار يزيد عن 200 رأس، قادر على فرض سيطرته على المكان لأنه يتمتع برعاية وحماية دوريات الجيش الإسرائيلي التي توفر له كل المساعدة والمساندة الضرورية لذلك.

والأنكى أن المستوطن أو المستوطنين المذكورين لا يقتصر دورهم على فرض السيطرة على الأرض بل يتعداه إلى طرد الفلسطيني منها، من خلال التضييق عليه وعلى سبل معيشته وأماكن رعيه، حيث يقوم هؤلاء بتسييج مساحات شاسعة جدا ويمنعوا الفلسطينيين من الدخول إليها بادعاء أنها ملكهم، كما يقومون بالاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين وقطعانهم، أحيانا من خلال تشتيت القطعان بواسطة "التراكتورونات" أو الكلاب، وأحيانا يقومون بسرقة الماشية أو تسميمها من خلال رش الأعشاب بالمبيدات.

وتتلاقى ممارسات المستوطنين واعتداءاتهم مع ممارسات سلطات الاحتلال وتضييقاتها التي تسلط عليهم إخطارات الهدم وأوامر الترحيل والإخلاء على الفلسطينيين وتمنع عنهم أبسط مقومات الحياة الأساسية مثل الماء والطرقات.

"عرب 48": الهدف يبدو واضحا وهو الترحيل لتقليص أعداد الفلسطينيين في هذه المناطق إلى الحد الأدنى، كي يتسنى ضمها دون أن تؤثر على التوازن الديمغرافي؟

مباركة: من المؤسف أن التواجد الفلسطيني في تلك المناطق ضئيل جدا، وأن الفلسطينيين فيها لا يحظون رغم أساليب التضييق التي تمارس ضدهم، بأي نوع من المساندة ولا توجد سياسات مساندة لدعم صمود الأهل في تلك المناطق.

وخلال مقابلتي مع محافظ طوباس أفاد أن المكان ممكن أن يتحول بالكامل للمستعمر، في ظل هذا التقشف وضمن هذه السياسات المتبعة من قبل الاحتلال بمختلف المستويات، حيث تفرض إسرائيل سيطرتها بكل الأشكال بينما الفلسطيني الأعزل غير قادر على حماية خيمة، وأشار إلى أن الشباب ينزحون ويؤسسون عائلاتهم في طوباس والمناطق القريبة.

ونحن نعرف أن منطقة الأغوار مهمة جدا بالنسبة لإسرائيل باعتبارها منطقة الحدود الشرقية وأن جميع الخطط والسياسات تدعم فكرة ضم هذه المنطقة لإسرائيل، فقد رأينا صفقة القرن التي شرعنت ضم الأغوار ونرى اليوم سياسات جو بايدن المهادنة، وسياسات حكومة بينيت – لبيد الداعمة لجميع المشاريع الاستيطانية ابتداء من القدس وانتهاء بمنطقة الأغوار.

"عرب 48": يبدو أن قضية الترحيل في الأغوار أسهل من سائر المناطق باعتبار أن التواجد الفلسطيني غير ثابت، أي أنه لا يقوم على بيوت حجرية منضوية تحت مخطط تنظيمي على شكل قرية أو مدينة؟

مباركة: هذه التجمعات يسهل نقلها أو هدمها وأوامر الهدم والإخلاء دائما مسلطة فوق رؤوس الأهالي، ونحن نرى كيف يتم الاعتداء عليهم واعتقالهم ومصادرة ممتلكاتهم، ويتسنى ذلك في ظل غياب مقاومة ومساندة حقيقية.

بالمقابل هذا المستوطن جاء ليثبت مكانته وتهويد هذا المكان وادعاء الحكم الديني والأصلانية، من خلال العودة إلى الفكر الصهيوني التوراتي و"الدعوة من الرب"، وهو متزمت ديني يميني متشدد يدعي ملكيته على هذا المكان ويستطيع أن يدعي ما يريد طالما يمتلك القوة.

"عرب 48": وكم يبلغ عدد بؤر الاستيطان الرعوي في منطقة الأغوار؟

مباركة: في السنة الأخيرة 2021 تم استحداث بؤرتين جديدتين ومنذ عام 2016 جرى استحداث 10 بؤر استيطانية تم شرعنة 6 منها، وهذه البؤر أصبحت تسيطر على مساحات واسعة النطاق من منطقة الأغوار وتضيق على الوجود الفلسطيني فيها.

وجدير بالذكر أنه في هذا النوع من الاستيطان يشكل المستوطن رأس حربة ويقوم بالدور الذي لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية القيام به بشكل مباشر، فهو استيطان يبدأ من القاع إلى رأس الهرم وليس العكس، فيما تتكامل الأدوار في الأطباق على الأرض الفلسطينية.


هدى خالد مباركة: باحثة في مجال العلوم السياسية والدراسات الإسرائيلية خريجة جامعة بير زيت وخريجة مركز مسارات ضمن برنامج التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات، ومهتمة بإعداد أوراق الحقائق وتحليل السياسات وتقدير الموقف.

التعليقات