30/12/2023 - 21:45

تضامن الغرب مع الفلسطينيين مشروط بأن يبقوا مهزومين وغارقين في وحل الخسارة والفقدان

عمر: النظرة التي تُنظر إليك من زاوية الضحية الدائمة، والأسوأ من ذلك أن واقع قوة إسرائيل هو الذي يسمح لهم بممارسة هذا التعاطف أو الشفقة، ما يعنى أنه بدون واقع قوة إسرائيل يصبح هؤلاء المثقفون والمفكرون في أزمة...

تضامن الغرب مع الفلسطينيين مشروط بأن يبقوا مهزومين وغارقين في وحل الخسارة والفقدان

صورة للافتة كُتب عليه أوقفوا تسليح إسرائيل (Getty images)

في مقال نشر باللغة الإنجليزية، يُشخص عبد الجواد عمر المحاضر في دائرة الفلسفة بجامعة بيرزيت، التضامن الغربي مع الفلسطينيين بصفتهم ضحايا حتميين، وأنه يشترط بذلك التعاطف معهم طرديا مع عدم قدرتهم على مواجهة الظلم، وبهذا المعنى فإن نجاح آلة القمع الإسرائيلية، على حد قوله، تزود الغرب بالشعور المريح في تمكينهم من التعاطف مع الفلسطينيين.

تغطية متواصل على قناة "عرب 48" في "تيلغرام"

ويعتمد هذا التعاطف، برأيه، على قدرة الفلسطيني في صيانة مظلوميته وهو السيناريو الذي يرسم حدود الانخراط النقدي للمفكرين الغربيين مع الفلسطينيين ومع القضية الفلسطينية، ولذلك نرى رد فعل انفصامي كالذي رأيناه لدى أولئك المفكرين عندما يجرؤ الفلسطيني على تحدي واقعه بشكل فعال، حيث يتحولون، حسيب رأيه، إلى الاستنكار الكامل وحتى تبني الصيغة الإسرائيلية لما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فيصفون التحدي الفلسطيني بأنه بربري وقبلي وغير متحضر ويوقظ اليمين الفاشي.

ويتساءل الكاتب، كيف يقبل العالم عقلانية السياسات الوحشية الإسرائيلية تحت تبرير أن كل حرب ينتج عنها قتل للمدنيين لكنه لا يقبل هذا المنطلق بما يتعلق بالفلسطينيين وعندما يصدر ذلك عن حماس فذلك لأنها بربرية؟

عبد الجواد عمر

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" عبد الجواد عمر حول المنطق الغربي في التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وقضايا الحرب الأخرى.

"عرب 48": كتبت أكثر من مقال ناقشت فيه ما أسميته بالمنطق الانفصامي للمثقفين الغربيين الذي يقصر التضامن مع الفلسطيني على "الشفقة" ويريد أن يحصر ويشترط هذا التضامن ببقائه في خانة الضحية المنكسرة؟

عمر: الفكرة أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مثلت أولا لحظة مفاجأة، حدثت في الوقت الذي كانت تستعد إسرائيل والعالم وحتى العرب وضع القضية الفلسطينية في مؤخرة الأولويات وعلى مختلف المستويات، تأتي لحظة تقلب موازين الوعي وتخلق الكثير من القلق والتوتر.

وهذا القلق هو عامل مهم بالرغم من كل الأطراف التي يمكن الحديث عنها، بما فيها طرف مهم على الأقل من المؤيدين لحقوق الإنسان الفلسطيني ومؤيدين للقضية الفلسطينية ومتداولين بها، ولكن السؤال الذي طرحته في بعض المقالات، هل هم يؤيدونها ضمن شرطية أن يبقى الفلسطيني مهزوما يغرق في وحل الخسارة والفقدان، فقدان فلسطين أو فقدان الواقع المحيط به؟ وتبين أن بعضهم يفكر هكذا لأن تلك اللحظة تعري المواقف وتظهرها على طبيعتها.

إنها النظرة التي تُنظر إليك من زاوية الضحية الدائمة، والأسوأ من ذلك أن واقع قوة إسرائيل هو الذي يسمح لهم بممارسة هذا "التعاطف أو الشفقة"، ما يعني أنه بدون واقع قوة إسرائيل يصبح هؤلاء المثقفون والمفكرون في أزمة لأنهم اعتادوا المشهد من خلال كوننا ضحية فقط.

إنهم لا يستطيعون رؤية المشهد من خلال عدسة أخرى، وهو ما يتضح في رصد التفكير بالمقاومة كمؤسسة اجتماعية أو كسياق وممارسة حياتية لدى الفلسطيني بعلاقتها مع الثقافة والأخلاق والسياسة.

الفكرة الأساسية تتمثل في أن شرطية التضامن مع الفلسطيني هي صيانة قوة إسرائيل وعندما يحدث خلل في هذا التوازن يصبح خللا في ردود الأفعال التي تغدو انفصامية، وهذا ما حصل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مع هؤلاء المثقفين الغربيين الذين هم بالمجمل مؤيدين للفلسطينيين وهو ما يقول لنا شيئا عن "الشفقة"، التي هي في النهاية شعور لا يبتغي تغيير واقع الشخص المشفوق عليه بل ينبع من فوقية معينة.

"عرب 48": هذا المنطق لا يريد كسر التوازن في علاقة القوى القائمة لأنها مريحة لمعاييره الأخلاقية؟

عمر: صحيح، ومن الجدير التنويه كيف جرى تصوير المناورة العسكرية التي قامت بها المقاومة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بأنها مجزرة، بينما هي في الحقيقة عملية عسكرية استهدفت الجدار وفرقة غزة التابعة للجيش الإسرائيلي والدخول لعمق منطقة الجنوب.

وبالتالي هذا لا يعني أنه لم يُقتل مدنيون ولكن تلك هي الأهداف الأساسية للعملية وليس كما جرى تقديمها من قبل إسرائيل وحلفائها بأنها مجزرة استهدفت قتل المدنيين بشكل عشوائي، هذا حتى لو تغاضينا عن فكرة المستوطنات ودور المستوطنات في التجربة الصهيونية والتي لا يمكن فصلها عن دورها الأمني، وفي منع التمدد الديمغرافي الفلسطيني في قطاع غزة.

وبدون شك أن القيام بهذه العملية له علاقة بشكل الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد غزة في الـ16 سنة الأخيرة، والتي تعاظم خلالها التردد في خوض الاشتباك أو المناورة البرية وتعاظمت نزعة ما يمكن تسميتها بالحرب بدون معركة أو إخراج المعركة من الحرب، وهي نزعة تتجلى باستغلال قدرة التفوق الجوي على حساب نوع من التداخل بين القوات في أرض المعركة في غزة، إضافة إلى بناء قدرات دفاعية من قبب حديدية مضادة للصواريخ وغيرها.

وهذا الوضع جعل الفلسطيني في غزة يقف أمام جيش لا يريد خوض مناورات برية، وهو الفلسطيني يعاني في نفس الوقت من وضع سياسي فيه حرمان لحقوقه السياسية وفيه حصار اقتصادي مستمر وغياب أفق سياسي، بالمقابل فإن خصمه مرتاح يختبئ وراء الجدار دون أن يتعاطى معه.

المناورة العسكرية الهجومية للمقاومة تأتي في هذا السياق وفي لحظة سياسية أضحت فيها القضية الفلسطينية لدى العالم والعرب طي النسيان، وأحدثت نوعا من التداخل بين هاتين القوتين، وأرادت تجديد الاشتباك والتطاحن بافتراض أنه سيخرج منه شيء في النهاية.

"عرب 48": ربما هي محاولة لكسر حالة الجمود السياسي؟

عمر: صحيح، وهي ببنيتها وتخطيطها قصدت هذا الهدف الإستراتيجي، فالإسرائيلي كان مرتاحا من المواجهة ولا يريد أن يتنازل عن شيء ويسعى إلى إبقاء الواقع كما هو، في حين أن الفلسطيني يريد تغيير هذا الواقع لأنه واقع احتلال بكل ما ينطوي عليه من غياب حقوق إنسان وحصار لغزة وقضية أسرى وغيرها.

"عرب 48": الإسرائيلي نجح في ترتيبات أوسلو في الضفة وخطة فك الارتباط عن غزة بتكريس الاحتلال وعزل الفلسطيني والابتعاد عن المواجهة المباشرة؟

عمر: صحيح، هناك محاولة لابقاء الناس في غزة تحت الحصار وفي وضع اقتصادي صعب بدون الحديث السياسي، في حين لا يزال نتنياهو يقول حتى اليوم إنه سيمنع قيام دولة فلسطينية.

وإن كان طموح الفلسطيني اليوم ليس دولة بالضرورة، لكن الفكرة أن الإسرائيلي يؤمن فقط بالحل الأمني العسكري، وهو حتى عندما ينسحب من منطقة ما لا يأتي انسحابه بدافع الرغبة بل لأنه لم يعد يستطيع تحمل تكاليف البقاء، كما حدث بخطة فك الارتباط عن غزة حيث باتت مستوطناته هناك بحكم طبيعتها الديمغرافية محاصرة لا يستطيع إمدادها سوى من الجو.

الجيش الإسرائيلي الذي ذاق لسعات المقاومة في 2014 وقبلها تجنب منذ ذلك الحين المواجهة المباشرة معها، وبالتالي فإن المقاومة كانت متعطشة أن تلتحم معه بشكل مباشر لأنها تريد تغيير الواقع السياسي الذي ينطوي على حرمان سياسي واقتصادي، وبالتالي قامت بهذه العملية التي ضربت العصب الأساسي لنظرية الجدار الحديدي.

"عرب 48": إسرائيل وصفت العملية بأنها فعل انتقامي ومجزرة وغيرها من الأوصاف التي لاقت صداها في الغرب ومهدت لحرب الإبادة على غزة التي تحظى بترخيص دولي؟

عمر: بدون شك أن الانتقام كشعور موجود في كل حالات الحرب، ولكن من الواضح أن هكذا عملية لا تقتصر على البعد الشعوري، فهي من ناحية عنصر المفاجأة والمباغتة والفاعلية وحجم القوات التي دخلت وحجم القوات المدافعة، عملية ناجحة في العلم العسكري ولا أبالغ إذا قلت أنها واحدة من أنجح عمليات حركات المقاومة في العصر الحديث.

صحيح أنه قُتل مدنيون ولكن الحديث عن ارتكاب مجزرة يحمل بعدا دعائيا له علاقة بشرعنة الهجوم وتشريع القتل وحرب الإبادة التي يشنها على غزة، وكل الحديث عن قطع رؤوس أطفال وحرق أطفال هدف إلى تجييش المجتمع الإسرائيلي الداخلي ومنح الشرعية لهذه الحرب.

وفي تفاصيل ما حدث في الكيبوتسات والمستوطنات الإسرائيلية، لا بد أولا فهم دور هذه المستوطنات الحدودية ومعرفة أن غالبية سكان تلك المناطق هم جنود احتياط يتقنون استخدام السلاح ويمتلكونه وكانت الكثير من الحالات التي دافعوا بها عن أنفسهم، هذا ناهيك عن أننا نتحدث عن منطقة حرب كانت هناك مصلحة للجيش الإسرائيلي باسترجاعها بالسرعة الممكنة في حين أن مصلحة المقاومة كانت تكمن في البقاء فيها قدر الإمكان.

والآن يتضح أن الصورة كانت أكثر تعقيدا، كما أن ما كشف حتى الآن عن طائرة قتلت بعض الإسرائيليين ودبابة قصفت بيتا وهدمته على رؤوس الخاطفين والمخطوفين هو جزء يسير مما سيتكشف في المستقبل أيضا.

"عرب 48": مؤخرا بدأت تظهر بعض الأصوات الإسرائيلية التي ترى أن عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر التي قامت بها حماس هي ليست مجرد عملية انتقامية، بل هي عملية عقلانية حققت أهدافا سياسية؟

عمر: الفكرة التي حاولت شرحها أن هناك انهيار للجدار الحديدي الذي أريد له أن يتحطم عليه رأس كل عربي يحاول اختراقه بعد أن يضرب به، والثانية فرملة عملية التطبيع مع العالم العربي دون دفع أية أثمان سياسية.

"عرب 48": لكن الحقيقة، أن أحدا لم يتوقع رد الفعل الهستيري وحرب الإبادة التي تجاوزت كل حدود؟

عمر: إن كل مقاومة تذكر المستعمر بهشاشته وبأن قوته محدودة وأن عليه استعادة هيبته المكسورة بسرعة، خاصة عند الحديث عن فرقة كاملة سقطت بين قتيل وجريح وأسير بدون مقاومة جادة وخلال ساعات فقط.

نذكر في تاريخ الصراعات مناورة ناجحة بالمعنى الرمزي في فيتنام هي مناورة "تيت"، لكن الجيش الأميركي قاتل فيها هو وأعوانه بشكل جعلها تستوعب عسكريا، لكن ما حدث مع الجيش الإسرائيلي كان انهيار غير مسبوق لا يبرره حتى الهجوم المفاجئ عندما نتحدث عن جنود مسلحين في مواقعهم، وهذا ربما ما أخرج الإسرائيليين عن طورهم، هذا الأمر يشير إلى هشاشة ليس على مستوى الاستخبارات فقط بل على مستوى الجيش أيضا ولذلك هم يحاولون استعادة كرامتهم العسكرية.

"عرب 48": الإسرائيليون يتحدثون للعالم وكأن تاريخ الصراع ابتدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ولا يمتد إلى نحو 100 عام تعرض خلالها الشعب الفلسطيني لنكبة واحتلال وتهجير وتطهير عرقي وحصار وغيرها من صنوف الاضطهاد بهدف مصادرة حقوقه الوطنية؟

عمر: إذا ما تجاوزنا التاريخ الماضي وتحددنا في السنوات الأخيرة، وبالاستناد إلى فلسفة الأخلاق الغربية التي تضع شروطا لأي عملية عسكرية تستوجب استنفاذ الطرق الدبلوماسية والقانونية أولا، نرى أنه في السنوات العشر الأخيرة هناك غياب تام لأي طريق سياسي حقيقي أمام الفلسطيني، وحتى المتعاون معهم لم يحصل على شيء، كما أن أميركا عطلت السبل القانونية بتهديدها لمحكمة الجنايات الدولية من اتخاذ أي إجراءات ضد إسرائيل وهي تعطل استخدام الأدوات الدولية السلمية كمجلس الأمن أو أي إطار قانوني يمكن للفلسطينيين استخدامه، وبذلك لا تبقي للفلسطينيين أي خيار آخر.


عبد الجواد عمر: محاضر وكاتب، يعمل حاليا كمحاضر في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، وله كتاب يصدر باللغة الإنجليزية قريبا بعنوان "هل يمكن للفلسطيني القيام بعمل الحداد؟".

التعليقات