الإعتقال: قصة عن الآتي الأعظم..

-

الإعتقال: قصة عن الآتي الأعظم..
من وراء „الانفجار الإعلامي” بعد الإعتقال، تجري أحداث قصة، هي عميقة أيضاً، لها ملامح وتفاصيل، وقد تكون بعيدة عن المشهد، لكنّها جزء مركزي منه.

تفاصيل يقف في مركزها المعتقل الملاحق نفسه، لكنّها تجري بعيدة عنه، حيث ينقسم فيها العالم فجأة إلى جزءين: واحد يعيشه المعتقل في غرف التحقيق وزنزانة الاعتقال، وآخر يحياه أهله في عالم مليء بالتخمينات، يختلط فيه التضامن الواسع، مع الخوف من الآتي…

مَن شارك في التظاهرة الاحتجاجية، يوم الإثنين الماضي، واطّلع عن كثب على مجريات قضية اعتقال أمير مخول وعمر سعيد، يدرك بأنّ الجماهير الفلسطينية تعيش أجواء ملاحقة مستمرة.

ومن يحدّق أكثر في كيفية الاعتقال، وأساليب منع النشر، والشبهات التي أزيل حظر النشر عنه، إضافة إلى منع التقاء المعتقلَين بمحاميهما، يشعر بأنّ تصعيداً (جديداً) يحوم في الأفق.

جنان عبده- مخول، زوجة أمير، تعيش، منذ اعتقال زوجها، في فجر السادس من أيار الجاري، ومنعه من لقاء محاميه، حدثاً شخصياً وجماهيرياً في آن.

هي تعرف جيّداً أن ما يجري هو „ملاحقة سياسية، لأنه ليس لدى أمير ما يخفيه”. وتشدّد على أنّ „أمير، بطبيعة الحال، في موقع قيادي. إنه مدير „اتجاه”، (اتحاد الجمعيات العربية الأهلية)، ورئيس لجنة الحريات (المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا). والصوت الذي يطلقه أمير، والذي يكشف عنصرية إسرائيل، يضايقهم”. لكن هذا لا يمنع من أنها تعيش أياماً قاسية بسبب القضية، هكذا حين يقلب حدث تقاليد الحياة المتعارف عليها يوميًا.

ليلة القبض على أمير تركت أثرًا على نفوس من عايشها. قوات أمنية تختار الثالثة صباحًا موعدًا لاقتحام حرمة البيت الذي يسكنه أمير مع عائلته.

تستعيد جنان تلك اللحظات وترى بأنّ ما حدث هو اختطاف: ”الأسلوب الذي اتُّبع لاختطافه في ساعات الفجر بهذا الشكل الإرهابي ومنعه من لقاء محاميه حتى هذه اللحظة، أمر مقلق على الصعيدين الشخصي والجماهيري”.

منذ الاعتقال، تغيّرت الحياة بالنسبة إلى عائلة مخول رأساً على عقب. استجدّت تفاصيل على أهل المنزل وقلبت روتينهم اليومي من برنامج يختارونه إلى آخر يفرض عليهم بفعل الحدث: „أنا بطبيعة الحال مشغولة بالموضوع على نحو مكثّف. القلق دائم، وخصوصاً أنني لا أؤمن بعدالة القضاء الإسرائيلي، وهذا ما يجعل الأمور مقلقة أكثر.”

قد لا يهتم المرء كثيراً بالتفاصيل عند الحدث الجلل، لكنها غالباً ما تكون شديدة الأهمية. ففي اليوم الذي نظمت فيه التظاهرة الاحتجاجية والتضامنية مع مخول وسعيد، صادف عيد مولد هدى (13 عاماً)، ابنة أمير: „سبق أن خططنا بأن نحتفل معاً بالمناسبة. أنا أعرف أن أمير يفكر بها. الأمور محزنة، فما حصل للبنات على وجه الخصوص، نتيجة الاعتقال البشع، علّمهما درساً قاسياً. إنهما غاضبتان وحاقدتان على ما جرى من اعتقال تعسفي وهمجي، ولا يمكن إقناعهما الآن بما هو مغاير” قالت جنان.

تنتقل جنان للحديث عن شخصية زوجها؛ يشارك بكل الأدوار المنزلية. يقضي وقتاً طويلاً وهو يعمل. يحب الكتابة والقراءة، ويكتب عن البعد الإقليمي والعربي للصراع، وهذا أمر يهمّه.

عن بدايات علاقتهما، تكشف أنهما التقيا قبل 20 عاماً، حين كانت جنان ناشطة في جامعة حيفا، بينما كان هو رئيساً للاتحاد القُطري للطلاب الجامعيين. ثمّ تركِّز في حديثها على تاريخ مركزي في نضال أمير: عام 1994، كتبَ عريضة ضد قتل النساء على خلفية ما يسمى بـ „شرف العائلة”. وتلخص بالقول: „إنه انسان يحب محيطه وطبيعته، ومدمن على السياسة وأخبارها. هذا هو أمير.. تحدث عن حالات الإرهاب والاعتقالات والملاحقات السياسية في دولة الاحتلال، ما أدى إلى اعتقاله هو أيضاً في النهاية”.

من يعرف جنان، التي تعمل في مركز أبحاث „مدى الكرمل” في حيفا، يشعر بأنّ قوةً انتابتها رغم صعوبة الحدث، ربما تأتيها من المتضامنين حولها، وربما من عدالة قضيتها التي رأتها أوساط واسعة في الداخل بأنَّها قضيتهم، وربما السببين معًا: „القضية لم تعد شخصية، وكلنا في خطر، ما دام „الشاباك” مسيطراً على الدولة” .
الانتقال من أمير مخول إلى عمر سعيد قد يكون انتقالاً بالمساحات فقط، لكنّ الأجواء التي يعيشها الاثنان قد تبدو متشابهة. فالدكتور عمر شخصية بارزة في العمل السياسي، إذ إنه من مؤسسي حزب „التجمّع الوطني الديموقراطي” الذي لوحق أيضاً مؤسسه عزمي بشارة. وإضافة إلى السياسة، ذاع صيته في مجال الطب البديل وفي الكتابة الصحافية. غالباً ما تكون مقالاته فكرية، وتستقطب قراءً كثيرين.

عمر معتقل منذ 24 نيسان، حين كان متجهاً إلى الأردن، وسُمح له، بعد اسبوعين من الإعتقال، بلقاء محاميه. اعتقال توّج فترة من الملاحقات السياسية بحقه، علماً بأنه خضع للعديد من الإقامات الجبرية.

هو أب لخمسة أبناء، أكبرهم بيسان وعمرها 17 عاماً. زوجته إنعام مربية، وهي أيضاً تعيش منذ فترة حالاً من القلق، وتستعيدها بقولها: „زيارات كثيرة، وتضامن كبير جداً من قبل الأقرباء والأصدقاء ونشطاء حزب التجمّع”. لكنّها، في الوقت نفسه، متفاجئة „من حجم التهم وتضخيمها”، معترفة بأن زوجها „لم يحسب يوماً حساباً لأساليب السلطات”لكنّها وبالنيابة عنه تنفي كل التهم الموجهة إليه”، مطمئنة إلى أنه „صامد وثابت ويلتقي أشخاصاً في إطار عمله فقط”.

ورغم شعورها بالظلم والقهر، إلا أنها ترفع سقف التحدّي: „إذا اعتقدوا أنهم يستطيعون كسر شوكتنا وشوكة عمر، فهم واهمون”.

ثمّ تستعيد إنعام اللحظة التي أزيل فيها حظر النشر عن قضية زوجها، فتصدّرت المسألة كل العناوين على المواقع العبرية والإذاعات والتلفزيون: „هواتفنا لم تصمت. الناس زارونا من كل حدب وصوب. الصحافيون جاؤوا أيضاً. كل هذا ونحن لا نعرف أنّ أمر النشر قد أُزيل. وعلى الفور، وبشكل تلقائي، سافرنا من قريتنا في كفركنّا إلى حيفا للمشاركة في التظاهرة. وهناك اشتدت عزائمنا”.

تحكي إنعام سعيد عن يوم الاعتقال، وعن محاولة الحفاظ على „طبيعية الحياة” وسط حالة غير طبيعية: „أنا مدرِّسة وأحاول أن أواصل عملي كالمعتاد، وأحاول أن يحافظ أولادنا (الخمسة) على حياتهم الطبيعية. ابنتنا (بيسان) تستعد لامتحانات البجروت، وقد انشغلنا أخيراً، عمر وبيسان وأنا، في البحث عن مستقبلها، محاولين مساعدتها على اختيار موضوع تدرسه في الجامعة”.

ثمّ تنتقل سعيد للحديث عن عمر „الإنسان الناجح مهنياً”، واصفةً إياه بأنه „مثقف ومناضل سياسي، أرادوا النيل منه وهو في أوج نجاحه وعطائه في عمله وأبحاثه. إنه باحث في علم الأدوية الطبية، ومنتِج للكثير من هذه الأدوية، وهو ناجح في عمله وبات صيته في هذا المجال عالمياً”.

كلام تسرده لتخلص إلى أنه „لا يستطيع شخص ناجح مثله أن تتلاءم شخصيته مع شبهات التجسس التي يتهمونه بها من دون أن يكون لها أساس”.

التعلم من الماضي قد يحمل حكمة معينة، ومن هذا المنطلق علينا دائمًا إحياء النبرة المتصدية للتصعيد والملاحقة التي لا تشغل فقط الحيّز الفلسطيني عمومًا، إنَّها الصلب في قضية إنسانية أيضًا. آليات كثيرة تأخذ دورًا في هذا الصدد ولكن يتوجب اليوم التشديد على الملاحقة السياسية والمحاكمات التي تشغل القضاء الإسرائيلي، لكن وبنفس الوقت، يتوجب أيضًا ألا ننشغل بالسجالات المرافقة بمقدار انشغالنا بالبحث عن نقاش جوهري يثري الآليات المطروحة ويرتقي بها إلى مستوى التحدي الصريح، وتشخيص القضايا بعيدًا عن الإعتبارات الفئوية وساحات الإنتهازية. ويبدو جليًا، أن ما يجري اليوم يشبه معادلة الأشكال التي اعتدنا عليها في التفكير الكمّي سابقًا، حين يمنحونك شكلاً وراء الآخر، ويتركوا لك مساحةً لتوقع الشكل الآتي. وهنا أيضًا الحال ذاتها، فإذا نظرنا إلى القضايا الماضية، ومنحنا المساحة للتنبؤ بالآتي فإننا حتمًا سنتنبأ بأن قضية عمر أمير ليست الأخيرة، إنَّها "بشرى" عن الآتي الأعظم

التعليقات