التيار القومي الديمقراطي في الداخل/ د. عزمي بشارة

-

التيار القومي الديمقراطي في الداخل/  د. عزمي بشارة
لم يكن لدى التيار القومي العربي تصور لكيفية التعامل مع قضية العرب الذين بقوا في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 وأصبحوا مواطنين في إسرائيل. ولا أظننا نبالغ إذا قلنا أن التوجه إليهم تراوح بين اعتبار العلاقة معهم تطبيعا وبين اعتبارهم بالمجمل أسطورة صمود. أما النهج الذي تنحوه هذه الورقة فيتجنب هذين القطبين.

فنعم، يجب تجنب كل علاقة تطبيع مع إسرائيل ولو كان أدواتها عرب أو حتى أحزاب عربية من الداخل، ولكم من ناحية أخرى يجب إيجاد السبل للتواصل مع التيار القومي في الداخل ودعمه ودعم جهوده في الحفاظ على الهوية العربية والوطنية الفلسطينية، وهذا يعني أساسا دعم جهده في إقامة مؤسسات عربية هذا هدفها، ودعم التواصل مع العالم العربي، والمقصود هو التواصل الذي يصب في هذا الاتجاه.

ونحن نرى أن يكون التواصل مع التيار القومي المنظم في الداخل واعتماد تقييماته للأوضاع المركبة داخل فلسطين بدلا من اعتماد وسائل الإعلام، ومنها "عربية إسرائيلية"، أو اعتماد التصريحات والانطباعات الإعلامية وحدها، فبعض السياسيين العرب في الداخل يتحدث في المحطات الفضائية العربية ما يخالف دوره الحقيقي في الداخل أو ينطق بالعربية بموقف وبالعبرية بموقف آخر.

كما نرى أن من واجب التيار القومي العربي خاصة في أوساط الشعب الفلسطيني وفي البلدان العربية ألا يعمل على توزيع التيار القويم العربي في الداخل لهدف واحد وهو أن يكون لكل شق في الخارج أتباع ومريدون في الداخل، فليست لدى هذا التيار في الداخل رفاهية كهذه، ولا بد من توحده تحت لواء واحد. وحتى في هذه الحالة عليه أن يسبح ضد تيار الأسرلة في الداخل، وضد تيار الأسرلة في الخارج المؤلف من العرب الذين يطلبون من عرب الداخل ويتوقعون منهم أن يتأسرلوا وأن يتحولوا إلى قوة سلام إسرائيلية تدعم التسوية بأي ثمن.

ولذلك وبدل أن اقترح على الأخوة "كيفية التعامل مع عرب الداخل"، أرفق تقييم التيار القومي المنظم والذي أعده الكاتب لقضية عرب الداخل عموما من زاوية نظره في الداخل آملا أن يلقي هذا التقييم الضوء على قضايا كانت ربما شائكة وغير مفهومة بالنسبة للأخوة المشاركين في المؤتمر.

والآلية التي اقترحها في الواقع هي استمرار التواصل بيننا حول هذه الموضوعات من أجل عدم السقوط في تعميمات من نوع تخوين الجميع أو تحويل الجميع إلى أبطال. والحذر مطلوب فهنالك تعددية حزبية عربية في ظل البرلمان الإسرائيلي، وهذه بمعنى ما تعددية إسرائيلية، تعبر عن ذاتها وتتناقش فيما بينها بأدوات إسرائيلية من ضمنها الإعلام الإسرائيلي. وحتى الإعلام "العربي الإسرائيلي" هو في غالبيته ممول من الوزارات والمؤسسات الحكومية الإسرائيلية وأيضا من دعاية الشركات الكبرى في إسرائيل.

والمسألة التي نناقشها تتناول في الواقع إمكاني بناء حركة وطنية فلسطينية وتيار قومي في ظروف المواطنة الإسرائيلية، والإجابة على هذا السؤال ليست سهلة على الإطلاق. اذ لا وجود لبنية طبقية عربية منفصلة عن البنية الطبقية لللمجتمع الإسرائيلي، ولا وجود لاقتصاد عربي مستقل داخل حدود 1948، وكذلك لا وجود لعمل سياسي خارج إطار المواطنة. بهذا المعنى ودون قاعدة اجتماعية طبقية تسندها أو تنتجها تبقى قوة الحركة الوطنية إلى حد بعيد مسألة معنوية وسياسية ذات علاقة مباشرة بالوعي، إذ لا قاعدة اجتماعية مؤسساتية لها. والوعي السياسي يتأثر إلى درجة كبيرة بالأوضاع السياسية على الساحة العربية في العالم العربي. فكلما ازدادت أزمة المشروع القومي العربي، وكلما تفاقمت المسألة الطائفية مثلا، ينعكس ذلك فورا على الوعي القومي في الداخل بشكل ملحوظ.

التيار القومي في الداخل هو قومي لأنه " يؤمن" (أي يعتقد) بوجود أمة عربية ، ولأنه ينحدر ذاتيا من الحركة القومية العربية المتنوره من التيار القومي في بلاد الشام مروراً بالناصرية والذي هدف إلى التحرر من الاستعمار وتركته، ومن نزعته لبناء مجتمع عربي حديث تقوم فيه علاقة مباشرة بين المواطن الفرد وبين الأمة /الدولة دون اعتبار لانتماء هذا المواطن الديني أو الجنسي أو العرقي. ويعي التيار القومي التشوهات التي لحقت بهذه البراعم التنويرية الأولى، كما يعي ان هذه النزعات التنويرية قد طورت نظرياً فردياً وليس حركياً. وقد لحقت بها تشويهات من قبل التيارات القومية ذاتها تحت وطأة ازدياد وتكثيف البعد الأيديولوجى كلما تضاءل البعد الوحدوي القومي في الواقع العربي المعاش وكرد فعل على غيابه. لقد تطور الفكر القومي العربي باتجاهات غير ديمقراطية مبررا ممارسات غير ديمقراطية وديكتاتورية بتطويره لمفهوم أمة عضوية غير تاريخية، وبإهماله المواطنة مفهوما وممارسة.

وغني عن القول ان التيار القومي في الداخل ،وفي ظروف المواطنة الإسرائيلية تحديدا، غير قادر أن يضطلع بدور فعال في الهم الوحدوي العربي. وهو رغم ذلك وخلافاً للقوى السياسية الاخرى في الداخل يؤكد على البعد القومي في القضايا التالية تحديداً:

1) التاكيد على البعد القومي في النضال الفلسطيني في مواجهة مزاج سياسي منتشر في أوساط فلسطينية محدودة يؤكد على العجز العربي.

2) التأكيد على الهوية القومية العربية كهوية مباشرة للفرد العربي في الداخل ايضاً، لا تعبر عن طوائف، لا تحارباً ولا تآخيا.

3) التأكيد والعمل على تواصل العرب في الداخل مع الامة العربية، ليس بهدف "التطبيع" مع إسرائيل، ولا "كجسر سلام"، وإنما لتعزيز وإغناء الهوية العربية في الداخل بعد أعوام طويلة من العزلة، وبما في تبادل الخبرات والآراء من فائدة.

ومع تأكيد التيار القومي في الداخل على ضرورة الاستفادة عربياً من خبرته ومعرفته بإسرائيل لعقلنة وترشيد عملية صنع القرار، إلا انه خلافاً للقوى السياسية الأخرى في الداخل لا يقبل التيار القومي بلعب دور الوسيط بين إسرائيل وبين القوى والأنظمة السياسية العربية، ولا بين القوى السياسية الإسرائيلية والدول العربية. وهنالك قوى سياسية عربية في الداخل حاولت أن تلعب هذا الدور علانية خاصة بين م.ت.ف. وإسرائيل في السابق وبين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية وتحتفظ بعلاقة حميمة مع الدول التي عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل وتتمنى علنا أن تلعبه أيضاً. وهي تحاول من حين لآخر أن تثير الإشاعات عبر دار الإذاعة الإسرائيلية وغيرها من الأدوات أن التيار القومي في الداخل يلعب مثل هذا الدور، ليس لأنها ضد لعب دور الوساطة، بل لأنها تريد أن تؤكد أن التيار القومي لا يختلف عنها، أي كلنا في الهوى سوا.

وليس لدى التيار القومي مانع على الإطلاق من اطلاع الرأي العام الإسرائيلي، ومن ضمنه حتى المسؤولين الإسرائيليين ما دام في البرلمان، على تقيييمه للموقف السياسي في العالم العربي كما يراه، فهو يقوم بذلك علناً ومن على منبر الكنيست على أية حال، ولا أن يطلع المسؤولين العرب والرأي العام العربي على تقييمه للموقف في إسرائيل. فهو يقوم بذلك قولا وكتابة على أية حال. ولكن هذه ليست وساطة ولا هي مهمة التيار القومي. فهو منحاز بشكل واضح للموقف العربي والفلسطيني، وهو ليس حياديا ولا وسيطاً. لا هو يقبل ذلك ولا إسرائيل تقبل به كوسيط، بل انه متهم بالتحريض وبراديكالية الموقف قياساً بمواقف عربية رسمية. ويرى التيار القومي العربي في الداخل أن طموح القوى السياسية العربية في الداخل للعب دور الوسيط هو طموح "دون كيشوتي" أصلاً، فلا وزنهم الإقليمي ولا الدولي يسمح لهم به، ولا يفترض أن يكون هذا دورهم. هنالك من العرب في الداخل من يحاول باستمرار تسويق اليسار الصهيوني فكراً وشخوصاً عن العرب، وعند الفلسطينيين تحديداً، في حين يحارب اليسار الصهيوني التيار القومي في الداخل حرباً لا هوادة فيها، إذ يعتبر نهجه السياسي على المدى البعيد الأكثر خطراً على يهودية الدولة.

ولا يتجلى الخطر برفض التجمع فكرة الاندماج وتأكيده على حقوق عرب الداخل القومية، ولا بمطلب دولة المواطنين الذي يتناقض مع الصهيونية فحسب، بل تتجلى الخطورة أيضا بنظر اليسار الصهيوني في تمسك التيار القومي بثوابت فلسطينية يوهم اليسار الصهيوني ذاته انه بالإمكان إقناع الفلسطينيين بالتخلي عنها.

وتجلى ذلك بشكل واضح بالتحريض الإسرائيلي الشامل على هذا التيار لتمسكه بحق العودة، كما تجلى ذلك عندما رفض التجمع وحده في البرلمان التصويت لصالح مباركة ذهاب باراك إلى كامب-ديفيد، في حين أيدته واحتفت به كل القوى السياسية العربية في البرلمان، وبشكل فوري، بحجة أن السلطة الفلسطينية وافقت على المشاركة، رغم أن السلطة الفلسطينية لم تخف الطابع الاضطراري لمشاركتها، والتطابق بين الاضطرار الفلسطيني والاحتفال به هو ظاهرة أسرلة بامتياز.

لقد حذر التيار القومي ممثلاً بالتجمع الوطني الديمقراطي من كامب-ديفيد دون أن يهاجم السلطة الفلسطينية لأنها وافقت على المشاركة فيه. فقد شاركها مخاوفها منه وعبر عن هذه المخاوف، وصدق عندما شخص الموضوع على انه محاولة لإملاء موقف إسرائيلي، او موقف إسرائيلي معدل أمريكياً، عليها. وبنفس الدرجة حذر هذا التيار من الاحتفاء العربي بفك الارتباط.

يطور التيار القومي في الداخل الفكر القومي باتجاه ديمقراطي، وهي محاولة تبدو أكثر سهولة من أخواتها في الوطن العربي لأنها لا تتحدى نظاماً عربياً، ولأنها تطرح الديمقراطية في سياق وطني هو سياق الصراع مع الصهيونية. وليس من البطولة ولا من الإقدام طرح تناقض الصهيونية مع الديمقراطية على جبهات مثل مطلب المواطنة المتساوية، وفصل الدين عن الدولة وأنظمة الطوارىء وغيرها. ذلك لان الدولة العبرية تتبنى الديمقراطية خطاباً سياسياً ودستورياً رسمياً، ويظهر نضالنا في الداخل تناقضات هذا الخطاب البنيوية مع الصهيونية وعدم مثابرته. وقد احتاج هذا الطرح الديمقراطي المناهض للصهيونية إلى إبداع فكري وليس إلى بطولة بالضرورة، ولكن ممارسته باتت تحتاج إلى جرأة اكبر بعد أن شخصته المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة كخطر، فبات هذا الطرح وممارساته تتعرض إلى حصار سياسي وإعلامي إسرائيلي يجند معه قوى ومؤسسات عربية، كما يتعرض التيار القومي المنظم في التجمع الوطني الديمقراطي إلى ملاحقة بوليسية ومخابراتية، ويتوقع أن تزداد شدة هذه الملاحقة.

ولكن الجمع بين القومية والديمقراطية في إطار تيار قومي عربي يتم في المجتمع العربي كله، وليس فقط في الصراع مع الصهيونية. ولذلك يطرح التجمع قضية تنظيم المجتمع العربي في الداخل على أساس قومي (لا عشائري ولا طائفي) ديمقراطي، أي في مؤسسات ديمقراطية الطابع. ولذلك أيضاً يؤكد التجمع باستمرار على تنشئة كوادره تنشئة ديمقراطية ومتنورة، وعلى مساواة المرأة بالرجل في المجتمع العربي، وعلى حرية التعبير عن الرأي، وعلى الحوار ضمن التعددية الحزبية والإيديولوجية القائمة. ولكن الطرح الديمقراطي لهذا التيار في الداخل يبقى ناقصاً لأنه لا يطرح قضية السلطة. فلا توجد سلطة عربية (دولة) في المجتمع العربي في الداخل. والحديث يدور في نهاية المطاف عن مجتمع لا يحكم ذاته بل تحكمه المؤسسة الصهيونية وتنمج طموحاته السياسية من خلالها. ولا يؤسس هذا لحركة وطنية. والتيار القومي يطرح في أقصى الحالات قضية الحكم الذاتي الثقافي للأقلية العربية، وقضية "دولة المواطنين" هي بوصلة فكرية أكثر مما هي نضال للوصول إلى السلطة أو الانفصال عن هذا الكيان.

هل يستطيع التيار القومي في الداخل الاستعاضة عن ذلك بطرح قضية السلطة في الدول العربية من حولنا؟ كلا. باستطاعته أن يطرح هذه المواضيع نظرياً وان يؤكد على أهمية المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، كما باستطاعته الاستفادة من التجارب العربية المختلفة. وكتيار قومي ديمقراطي بإمكانه إدارة حوار مع تلك التيارات في الوطن العربي التي لا تفرد أهمية خاصة لقضية الديمقراطية في الواقع الحالي ولا في تشخيص الأزمة الناجمة عن غيابها تاريخيا.

ولا شك أن التيار القومي العربي في الداخل هو تيار ديمقراطي ينشد الديمقراطية في الأقطار العربية كافة. بل هو يذهب أبعد من بقية التيارات القومية العربية بادعائه أن الديمقراطية هي الطريق لتحقيق الوحدة العربية بأشكال فدرالية وكونفدرالية مستقبلا. ويسوق التيار القومي أمثله عديدة على استحالة الطرح القومي عربيا دون طرح ديمقراطي، من مسألة المواطنة المتساوية واستكمالها ببناء الأمة المدنية إلى ضرورة أن يطرح التيار القومي حلا لقضايا الأقليات .

فلا يمكن أن تطرح الوحدة فوقيا كأنها مسألة أمة فوق التاريخ والجغرافيا، وإنما يتم بناء الأمة تصاعديا من خلال المجتمعات العربية القائمة التي لا بد ان يتاح لها ان تعبر ديمقراطيا عن انتمائها العربي دون ان يمس هذا التعبير بحقوق الأقليات غير العربية الفردية والجماعية والتي فوت انعدام الديمقراطية والمواطنة فرصة اندماجها، كما لا يضر هذا بمن اندمج ويعتبر نفسه عربيا .

لا يرتبط التيار القومي الديمقراطي في الداخل بأي دولة عربية أو نظام عربي لكونه تيارا قوميا، لا لاعتبارات سياسية ولا لغيرها من الاعتبارات. ومن ناحية علاقته بالتيار القومي في البلدان العربية لا يقترب حتى من مقارنته بعلاقة الأحزاب الشيوعية في الدول الرأسمالية بالاتحاد السوفيتي في حينه. كان الشيوعيون يدعون أن الديكتاتورية السوفيتية هي الديمقراطية الحقة. وكانوا يعتبرون الديمقراطية اللبرالية مجرد تعبير عن دكتاتورية البرجوازية.

في حين لا يرى التيار القومي في الداخل بالأنظمة المحيطة أنظمة ديمقراطية، وموقفه من الديمقراطية كنظام سياسي واضح لا لبس فيه. فالديمقراطية التمثيلية والمواطنة اللبرالية هي شكل الديمقراطية الوحيد الذي يستحق أن يسمى نظام حكم ديمقراطي في عالمنا. ولكن التيار القومي الديمقراطي لا يستطيع ولا يرغب أن يلعب دور المعارضات العربية من موقعه في إسرائيل. فليس من البطولة ولا الإقدام طرح قضية الديمقراطية في الدول العربية التي تحتل إسرائيل أراضيها مثلا، وذلك في إطار "الديمقراطية الإسرائيلية". ولو قام التيار القومي بذلك لاختلط الحابل بالنابل . فإسرائيل غير مبالية تجاه قضية الديمقراطية في الوطن العربي ، وانما تحدد موقفها من العرب ونظامهم الاجتماعي كما يحدد الموقف من "العدو" ، اذ تعتبر كل ما في صالحه في غير صالحها .

على التيار القومي الديمقراطي ممثلا بالتجمع الوطني مهام عديدة متعلقة بالقومية وبالديمقراطية في الداخل، خاصة وان القوى السياسية العربية في الداخل تمارس في تعدديتها ديمقراطية إسرائيلية مفروضة، ولا تمارس ديمقراطية عربية. والتعددية السياسية الحالية القائمة في المجتمع العربي في الداخل ليست تعبيرا عن مدى ديمقراطيته، وما زالت الحاجة قائمة لنضال طويل وجهد مضن لديمقراطية المجتمع العربي في الداخل .

ليس التيار القومي في وضع الوعظ بالديمقراطية للوطن العربي من خلال الديمقراطية الإسرائيلية . ولا يفترض أن تحرجه أو تجره لذلك مزاودات اليسار الصهيوني والقوى العربية المرتبطة به في الداخل .ولو قام بذلك لكان هؤلاء أول من يشي به، كما درجوا على الوشاية به للسلطة الفلسطينية كلما عبر عن نقد ما لممارساتها، مع أن عرب الداخل فلسطينيون، والسلطة الفلسطينية هي الأقرب إليهم إنسانياً وجغرافياً .

ما زال التيار القومي الديمقراطي رغم تأثيره الواسع حركة صغيرة نسبيا،ً ولا يستطيع أن يخوض معارك عديدة، ولا بد له أن يميز بين الصديق والعدو وبين الحليف والخصم، ولا بد له أن ينظم سلم أولوياته حسب جدول أعماله في الداخل. وسلم أولوياته لا يشمل تضادا بل تحالفا مع التيارات القومية العربية في البلدان العربية.

يحترم التيار القومي الديمقراطي القوى الديمقراطية والمثقفين الديمقراطيين في الوطن العربي، وهو لا ينفك يعرف الناس في الداخل بهم عبر نشر تجاربهم ومقالاتهم. ولا يستثني هذا كله وجود نقاشات نظرية غير حزبية بيننا وبين بعض المثقفين العرب حول مقومات قيام الديمقراطية على شكل تداول سلمي للسلطة في المرحلة الراهنة في الدول العربية، خاصة وأن الخيار بين خيارات غير ديمقراطية في تجربة الجزائر ما زالت حية ترزق، كما يدور بيننا نقاش حول ضرورة الإصلاحات السياسية والقانونية التي تدفع إلى الأمام بحقوق المواطن والمساواة أمام القانون وحرية التعبير عن الرأي وغيرها من العناصر التي تؤسس للديمقراطية، وليس آخر هذه العناصر الإصلاح الاقتصادي الذي يوسع الطبقة الوسطى، ويقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء ويرفع نسبة التعليم. هذا نقاش نظري غير حزبي وهو قائم في النظرية الديمقراطية على أية حال ولدينا اجتهاداتنا التي لا تغير من موقفنا المنحاز للديمقراطية كنظام حكم.

يختلط الموقف على بعض المعادين للتيار القومي على المستوى العربي والذين يعتبرون الصراع مع إسرائيل سوء تفاهم عابر بالمقارنة بالصراع مع القومية العربية، ويغطون على هذا الموقف كله بفذلكة لغوية تؤكد على خصومة دائمة بين الديمقراطية والقومية العربية. ويحقدون على التيار القومي الديمقراطي لأنه يفند مزاعمهم حول استحالة الربط بين القومية العربية والديمقراطية، ويبحثون جاهدين عن أي " تناقضات" في الموقف لإثبات هذه الاستحالة، ويتعايشون بسهولة ويسر مع ممارسات ومواقف غير ديمقراطية إذا كانت غير قومية وتوافقت مع "مصادر رزقهم"، أو مصالحهم للدقة. لا شك أن هنالك توتر بين القومية والديمقراطية، ولكننا نقاس كديمقراطيين بمدى تنبهنا لهذا التوتر، ولكي لا يتحول إلى تناقض.

تنمو في الداخل على خلفية غياب مسألة الدولة والسلطة نسخ مشوهة من هؤلاء المثقفين الذين يدافعون بشكل مجرد عن اللبرالية والديمقراطية الإسرائيلية كتبرير للارتباط الذهني والمصلحي بحزب العمل وميرتس وغيرها من الحركات الصهيونية، وذلك دون برنامج سياسي ديمقراطي موجه للمجتمع العربي أو حتى ضد النظام القائم في إسرائيل والذي يمارسون عادة الإعجاب به سرا، وعلنا عندما يغلب عليهم الإعجاب فلا يستطيعون مقاومته. ويقومون بمناكفة منهجية مستمرة ضد كل محاولة حزبية سياسية للربط بين مصالح المجتمع العربي الوطنية والمدنية، هكذا يتحول التظاهر غير الملزم بالديمقراطية إلى تحريض في وسائل إعلام إسرائيلية وعربية إسرائيلية ضد العرب وضد الأنظمة العربية الرافضة لشروط السلام الإسرائيلية، وإلى موقف ملزم ضد المحاولات العينية لصنع الديمقراطية ضمن التيار الوطني الديمقراطي.
ينسجم نضال التيار القومي في الداخل تحت شعار "الحفاظ عل الهوية القومية العربية وتطويرها" و"الدولة لجميع مواطنيها" مع التوجه القومي العربي الديمقراطي ويكمله. فهذا الطرح الذي يؤكد على الهوية العربية الفلسطينية والمواطنة المتساوية يواجه جوهر الصهيونية الكامن في تعريف دولة إسرائيل كدولة اليهود. وهذا هو المسعى العربي الوحيد حالياً والذي يصطدم مع الصهيونية فكراً وممارسة، فدولة إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة اليهود في العالم اجمع وان تكون دولة مواطنيها العرب واليهود في الوقت ذاته. فقط عبر مشروع دولة المواطنين تصبح "المساواة في الحقوق" التي يطالب بها المواطنون العرب في الداخل مشروعاً مناقضاً للصهيونية. وقد رفعت القوى السياسية العربية في الماضي مطلب المساواة دون هذه الإضافة، مما جعل مطلب المساواة بوابة ومدخلا للأسرلة.

وقد استطاع التيار القومي الديمقراطي خلال فترة قصيرة جداً منذ قيامه أن يعمم بشكل لم يسبق له مثيل فكرة المواطنة غير المشروطة والمؤسسة على كون العرب سكان البلاد الأصليين من ناحية، وفكرة الهوية القومية الجامعة للعرب في الداخل كحجر الأساس لوجودهم كمجتمع منظم في بلادهم من ناحية أخرى، وبتواز مع الفكرة الاولى.

وخلافا لما يروج من قبل بعض النقاد، ليس مشروع المساواة الكاملة في دولة لجميع مواطنيها مطلباً بل بوصلة توجه النضال الجاري أصلا من اجل المساواة باتجاه معادٍ للصهيونية. ومن هذا المشروع تشتق الحركة الوطنية والتيار القومي مطالب عديدة تترجم طموح المواطنين لمساواة في الفرص في مجالات التوظيف والتعليم والميزانيات المستثمرة في البنى التحتية وفي التأمينات الاجتماعية. لسنا سذجاً لنعتقد أن دولة إسرائيل قد تصبح دولة لجميع مواطنيها ما دامت صهيونية. ولكن مطلب المواطن العربي في هذه البلاد هو المساواة، وهو يقدم مطلبه هذا في حدود المواطنة الإسرائيلية، وهو يقصد بالمساواة المساواة مع المواطن اليهودي. والطريق أمام التيار القومي هو ليس تجاهل هذا المطلب بل وضعه في صدام مع الصهيونية.

لقد عانت الأقلية العربية الأمرين في الماضي نتيجة التمييز القومي والإهمال وكان نضالها ينحصر في رفع الغبن اللاحق بها وفي الحفاظ على هويتها. ولم تأخذ الحركة الوطنية مطلب المساواة بجدية، لأن القضية الوطنية بالنسبة لها كانت هي الأساس. وكان أي تقدم في حلها مرتبطاً بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع القومي العربي. وحتى لو سلمنا أن هذا الموقف كان ممكناً سياسياً في الماضي إلا أنه لم يعد ممكناً كموقف سياسي للأسباب التالية: (1) نشأت داخل الأقلية العربية في إسرائيل طبقات وسطى جديدة وقطاعات عمالية وأجيرة واسعة وفئات مثقفين مرتبطة بالمواطنة الإسرائيلية وبتوسيع الحقوق في إطار هذه المواطنة؛ (2) ولدت عملية مصادرة الأرض وزوال الزراعية العربية اندماجاً كاملاً على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، ولم تنشأ خلال السنين الخمسين الماضية عملية إنتاج عربية أو اقتصاد عربي مستقل يشكل أساساً لنزعة انفصالية من أي نوع؛ (3) ازدياد الوعي العربي المحلي للطاقة الكامنة في المواطنة الإسرائيلية سياسياً واجتماعياً خاصة على مستوى الحقوق؛ (4) طرأت تحولات هامة على السياسة والمجتمع والاقتصاد في إسرائيل أدت إلى ارتفاع مستوى المعيشة بشكل مطرد في العقدين الأخيرين بما في ذلك مستوى معيشة المواطنين العرب وذلك رغم اتساع الهوة بينهم وبين المواطنين اليهود بالمقاييس النسبية؛ (5) توسع حقوق المواطنة بشكل عام نتيجة لسلسلة من التشريعات اللبرالية وقرارات المحكمة العليا بما يتلاءم مع تطور المجتمع الإسرائيلي نفسه.

إضافة لهذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية علينا أن نأخذ بعين الاعتبار التحول الذي طرأ على متغيرين أساسيين كان لهما أعظم الأثر على المزاج السياسي للمواطنين العرب: (1) أزمة المشروع القومي العربي منذ بداية السبعينيات، هذه الأزمة التي وصلت قمتها في حرب الخليج. 2) ولوج حركة التحرر الوطني الفلسطيني عملية السلام كعملية تسوية تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وهبوط عملها الوطني داخل الخط الأخضر على سلم الأولويات إلى درجة الاقتصار على توقعها أن يدعم العرب في الداخل "العملية السلمية" ودعم مواقف السلطة الفلسطينية في المفاوضات.

لم يعد بإمكان الحركة الوطنية ولا بإمكان التيار القومي إدارة الظهر لموضوع المواطنة، ولو لم يوليها الأهمية اللازمة لما احتلت مكاناً أقل أهمية على جدول أعمال المواطنين العرب، ولتصدّر العمل من أجل المساواة قوى انتهازية يمينية أو قوى متأسرلة وصهيونية. ولقد لوحظ فعلا ازدياد قوة نزعة اندماجية ترافق مطلب المساواة منذ نهاية الثمانينيات أدت إلى زوال الفرق بين أحزاب اليسار الصهيوني والأحزاب العربية. ومع إقامة التجمع الوطني الديمقراطي حصل انقلاب في الخطاب السياسي العربي في إسرائيل باتجاه تأطير مطلب المساواة ضمن مشروع دولة المواطنين بحيث طرحت مطالب "مساواتية" لم تخطر ببال القوى السياسية الفاعلة في المجتمع العربي حتى ذلك الوقت، كما طرحت أفكار ترمي إلى تجذير الهوية القومية العربية على مستوى الخطاب السياسي مما اضطر القوى السياسية الأخرى الفاعلة على الساحة العربية إلى مجاراة التجمع والتراجع عن لهجتها الاندماجية.

لقد طرح التجمع الوطني الديمقراطي مشروع دولة المواطنين بتواز مع الإدارة الذاتية الثقافية للعرب مفنداً المزاعم أن أمام العرب في إسرائيل خيارين لا ثالث لهما فإما الاندماج وإما الانفصال. وقد بين التجمع أن الخيارات أمام المواطنين العرب في إسرائيل لا تقتصر على الاندماج أو الانفصال، بل تجاوز خطاب التجمع السياسي ذلك إلى فضح وهمية هذين الخيارين.

فالاندماج في إسرائيل غير ممكن لأنه لم ولن تتشكل فيها أمة واحدة من المواطنين. والأساس النظري الذي قامت عليه إسرائيل ويشكل تعريفها والوظيفة التاريخية التي حددتها لذاتها هو كونها دولة اليهود. وطالما كانت الدولة دولة اليهود فهي لا تفصل بين الدين والقومية وبين كليهما من ناحية والدولة من ناحية أخرى. ولذلك فإن أي اندماج بالدولة هو وهمي بالكامل أولاً لأنه غير ممكن دون تغيير القومية، وتغيير القومية يتطلب تغيير الدين، وثانياً لأنه يؤدي إلى حالة تهميش. ويتسبب الاندماج الوهمي في تعميق أزمة الهوية الذاتية للعربي ولا يمنحه المساواة الكاملة في العلاقة مع الدولة.

فهل الاندماج ممكن إذا تحولت دولة إسرائيل إلى دولة لجميع مواطنيها ونفذت طابعها الصهيوني؟ هذه الإمكانية غير واردة التحقق بالمنظور التاريخي المتوسط، ولكن حتى إذا تحققت فهي لن تعني الاندماج في قومية واحدة، هي أمة من المواطنين، كما هو الحال في فرنسا أو الولايات المتحدة. فلقد نشأت تاريخياً على هذه الأرض وفي هذه البلاد قوميتان، وقيام دولة المواطنين ديمقراطية وعلمانية لا يعني اندماجهما في قومية واحدة. فالقومية العربية قائمة والتخلي عنها يقود إلى الطائفية والعشائرية والانحلال ولا يقود إلى قومية إسرائيلية.

وقد بينا في بداية هذا الفصل أن خيار الانفصال بالنسبة للعرب في إسرائيل غير وارد. وهو غير وارد جغرافياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً. فالعرب في إسرائيل لا يعيشون على وحدة جغرافية واحدة أو اثنتين كما هو الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يشكلون وحدة اقتصادية تعيد إنتاج ذاتها، ولو نسبياً، باستقلال عن الاقتصاد الإسرائيلي. ونشاطهم السياسي يتم ضمن حدود وحقوق المواطنة الإسرائيلية بما في ذلك إقامة الأحزاب. ويتطلعون إلى المساواة في إسرائيل – وبالتالي فان خيار الانفصال هو خيار وهمي لا معنى له. وهو قائم في الدعاية الصهيونية اليمينية فحسب التي تحاول تخويف الرأي العام الإسرائيلي من العرب. تماماً كما كان خيار الاندماج قائماً في دعاية اليسار الصهيوني يذهب إلى نفي الهوية القومية للعرب دون قبول مساواتهم الكاملة.

لا المساواة للعرب في هذه البلاد رديفة للاندماج ولا الحقوق القومية الجماعية رديفة للانفصال. والتناقض بين المساواة والحقوق القومية هو تناقض وهمي كاذب. بل ويذهب التجمع الوطني الديمقراطي إلى الإدعاء أن المساواة في حالة العرب في إسرائيل غير ممكنة دون الاعتراف بحقوقهم الجماعية، وأن الحقوق الجماعية يجب ألا تكون على حساب المساواة.

ولذلك يطرح التيار القومي المساواة الكاملة في دولة لجميع مواطنيها والاعتراف بالعرب في إسرائيل أقلية قومية تحظى بحقوق جماعية ناجمة عن هذا الاعتراف يتصدرها الحق بالحكم الذاتي الثقافي.

العرب في إسرائيل كأفراد هم مواطنون. ولكنهم يشكلون جماعة يفترض أن تشكلها سابق على قيام الدولة العبرية، وذلك كجزء من شعب مكون من سكان البلاد الأصليين. إن صفة الجماعة القومية للمواطنين العرب سابقة على قيام الدولة الصهيونية. وليس بوسع هذه الدولة أن تتنكر لحقيقة كونهم جزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني وأنهم سكان البلاد الأصليون الباقون على أرضهم. هذه صفة جماعية وليست فردية وهي سابقة تاريخياً لكونهم مواطنين في إسرائيل، وذلك رغم مطلب الاعتراف بهم كجماعة قومية ضمن القانون الإسرائيلي، بحيث يترتب على هذا الاعتراف حقوقاً جماعية تعترف بها الدولة العبرية كحقهم في الحكم الذاتي. علينا أن نذكر أن قوميتهم ليست مرهونة بهذا الاعتراف.

ولذلك قبل أن تضطر هذه الدولة إلى التعامل مع المجتمع العربي في إسرائيل كجماعة قومية يتوجب على المجتمع العربي أن يطرح ذاته كجماعة قومية أصيلة وليس كمجموعة من الطوائف أو الأقليات أو الأفراد المستعدين للتنازل عن هويتهم القومية مقابل اندماج موهوم. ولعرض طرح العرب في إسرائيل أنفسهم كجماعة قومية تواجه القوى السياسية الوطنية تحديات ومستلزمات أولها أن تشكل قيادة قومية وأن تعكف على بناء مؤسسات الأقلية العربية في إسرائيل.

فالإدارة الذاتية ليست مطلباً من الدولة فحسب، بل تعني أيضاً، وربما أولاً، قدرة المجتمع على تنظيم ذاته في مؤسسات قومية. هذا هو امتحان المجتمع العربي في سياق مطلب الاعتراف بطابعه القومي. ويرتبط النجاح في هذا الامتحان أولاً بحصانة المجتمع العربي وقواه السياسية والاجتماعية الفاعلة ضد الطائفية، وثانياً بقدرته على تنظيم مؤسسات ثقافية واجتماعية وبحثية قادرة على بلورة وجهة نظر ومطالب موحدة وتخطيط علمي بديل لتخطيط السلطة دون مزاودات ومبالغات.

تنجم المزاودات عن عدم وجود أطر مرجعية قومية تتخذ قراراتها المقبولة والملزمة بشكل ديمقراطي، وهي تشل العمل. وهذه إحدى المهام الأساسية التي طرحها ويطرحها التيار القومي. إن البديل لتنظيم الأقلية العربية على أساس قومي هو تهميشها السياسي والثقافي والاجتماعي المؤدي لضحالة النشاط الثقافي وقلة الإبداع، بل وازدياد معدلات العنف والجريمة والانحلال إلى طوائف قطرياً، وعشائر وعائلات محلياً وضعف التماسك الاجتماعي الذي يربط الأفراد سوية في مجتمع قومي واحد متماسك.

إذا نظم العرب أنفسهم كشعب سيكون بوسعهم أن يفرضوا على الدولة بلورة برامجهم التعليمية وتقرير أهداف التعليم، كما سيكون بوسعهم فرض رأي الأقلية العربية ضمن مؤسسات التخطيط في هذه الدولة، المحكومة بالأيديولوجية الصهيونية في كل ما يتعلق بالتخطيط والتصنيع والإسكان وسياسة الأراضي المتبعة.

كما ويندرج ضمن الحقوق الجماعية التي طالب التيار القومي بها منذ أن مثل برلمانياً، وذلك بطرحها شكل اقتراحات قوانين، تمثيل العرب كعرب بشكل ملائم في مؤسسات مختلفة رسمية أو شبه رسمية.

هنا يطرح السؤال الهام: هل يعتبر تمثيل العرب في هذه المؤسسات قيمة عليا تخضع لها المواقف السياسية؟ الجواب الوضح والقاطع الذي يقدمه التيار القومي ممثلا بالتجمع هو لا. لقد طرح التجمع موضوع تمثيل العرب اللائق في الشركات الحكومية ومؤسسات الدولة والوظائف الحكومية كخطوة على طريق المساواة تنطلق من مبدأ تلازم الحقوق الفردية والجماعية. ولكن التجمع لا يطالب بتمثيل العرب في المؤسسات الأمنية أو مؤسسات السياسة الخارجية، ويعتبر البعض رفض الدولة لتمثيلهم في هذه المواقع تمييزاً عنصرياً. وقد كان هذا صحيحاً في الماضي. ويبدو أن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة قد غيرت موقفها من هذا الموضوع وتبدي مرونة أكبر بالنسبة لدمج العرب في هذه المؤسسات الوسيلة الأفضل لتطوير مصلحة عربية مندمجة بالسياسة الإسرائيلية الأمنية والخارجية والطريق الأقصر لتآكل الوعي والانتماء القومي ولغرض أسرلة أنماط السلوك السياسي العربي وتسهيل مراقبته والسيطرة عليه.

ولذلك يضع التيار القومي مطالبه المساواتية ليس بتناقض وإنما بتناسق مع الموقف السياسي والقومي بحيث لا تتحول مطالب المساواة إلى عملية أسرلة وصهينة وتهميش.

لقد كشف مشروع "دولة المواطنين" عن تناقضات عميقة في المبنى الصهيوني للدولة وساهم ويساهم بكشف أبعاد جديدة للصراع بين أنماط التدين والعلمانية في إسرائيل، مبيناً أن معركة العلمنة الحقيقية لا تقتصر على الأحوال الشخصية، أو على أحكام يوم السبت ونمط الحياة اليهودي المفروض، وإنما تتجاوز ذلك إلى موضوع العلاقة الإشكالية بين الدين والقومية في إسرائيل. مشروع "دولة المواطنين" هو فكرة موجهة تضع أجندة في التعامل مع أجهزة. وهذه الفكرة الموجهة تفضح حقيقة طالما حاولت القوى العربية الفاعلة أن تتجنب رؤيتها وهي أن المساواة غير ممكنة في دولة تعتبر نفسها دولة اليهود.

والتقدم نحو المساواة حقيقة لا يتم إلا بهذه البوصلة. والمطالب التي تشير إليها كمطالب تؤدي إلى تراجع صهيونية الدولة. وهنا يُوجه للتجمع السؤال الهام التالي: ألا يساوركم الخوف أن مشروع "دولة لجميع مواطنيها" قد يؤدي إلى اشتراط المساواة في "الواجبات" مقابل المساواة "بالحقوق" في مثل هذه الدولة، ألا يؤدي هذا المشروع إلى تضامن مع الدولة وولاء لها؟

يدرك التجمع الوطني الديمقراطي التناقض القائم في واقع المواطنين العرب في هذه البلاد، واحتمال تفسير مطلب دولة المواطنين لدى فئات انتهازية واسعة تنتظر مبرراً نظرياً لعملية الأسرلة. ولكن التيار القومي الديمقراطي لا يطرح "دولة لجميع مواطنيها" بمعزل عن الهوية القومية والحقوق الجماعية. كما أن الدولة لجميع مواطنيها هي ليست دولة اليهود أو الدولة اليهودية، وهنا ينفرد التيار القومي بالتأكيد على أن مقولة "دولة يهودية ولجميع مواطنيها" هي مقولة متناقضة وغير مقبولة نظرياً.

لا يعترف التيار القومي بالعلاقة بين الحقوق والواجبات ويعتبرهما وجهان منفصلان للمواطنة الديمقراطية، ولا علاقة للمساواة بالخدمة في الجيش الإسرائيلي. فلا الخدمة العسكرية تولد المساواة ولا المساواة تتطلب خدمة عسكرية. ويرفض التيار القومي الخدمة العسكرية من منطلق قومي ووطني ويحافظ على هذا البعد في تقييمه لموضوع الاندماج الأمني والذي ينجم عنه تشويه للشخصية القومية والأخلاقية.

لا شك أن التناقض قائم في واقع العرب في إسرائيل في العمل السياسي وبالعزوف عن العمل السياسي – والمواطن الواعي يواجه هذا التناقض في كل خطوة في السياسة وخارج السياسة. وقد أدى هذا التناقض بين الحفاظ على الهوية القومية ومطلب المساواة الكاملة إلى تأزيم القوى السياسية العربية وإلى تأزيم شخصية "العربي الإسرائيلي" المشوهة اللاعبة على حبلين والمسترخية على تقاطع هامشين: هامش الأمة العربية وهامش المجتمع والسياسة الإسرائيلية، لاعبة دور الضحية في كل سياق، أو دور الإسرائيلي في سياق مطلب المساواة، والوطني الفلسطيني في سياق دور الضحية.

ولكن التجمع الوطني الديمقراطي يدرك ليس فقط الطاقة الهدامة في التناقض الذي يأسر ويتملك غير الواعين لوجوده، وإنما أيضاً الطاقة الدافعة للتناقض الجدلي القائم في مواطنة العرب في إسرائيل وذلك على مساري الصراع مسار المواطنة الديمقراطية والصراع ضد الصهيونية والتأكيد على الشخصية العربية الفلسطينية المستقلة.
يناضل التيار القومي بين نارين في ظروف الانتماء للأمة العربية والشعب الفلسطيني وفي ظروف المواطنة الإسرائيلية كمعطى. والعمل بين نارين منهك ومضن في المدى المنظور، ولكنه مفيد ومبلور ومفولذ على المدى البعيد، لأن الفكر السياسي في هذه الحالة يشق طريقه ويوجه الممارسة ضمن مجموعة متناقضات قلما تجتمع في عالمنا. " ولا تكرهوا امراً عله خير لكم"، وخصوصية التيار القومي الديمقراطي التي تجعله يجمع بين القومية والديمقراطية وبين الليبرالية في حقوق المواطنة والحقوق الجماعية، وبين الانتماء الأصيل للأمة والثقافة العربيتين وفكر التنوير النقدي الذي يرفض تحويل الثقافة إلى فولكلور جامد، ويرفض التعامل مع الأمة والقومية كجواهر ثابتة. هذه هي الخصوصية التي يكتسبها ويطورها التيار القومي الديمقراطي في الداخل من خلال لقاء وصراع الأضداد.

ولا يشكل صراع الأضداد دائماً حالة بطولية يعبر فيها النضال السياسي عن تناقض وجودي، وهذه الحالة قائمة في صراعنا مع الصهيونية، ولكن قد يتخذ هذا الصراع أشكالاً مشوهة وهزيلة ناجمة عن بؤس الحالة السياسية في أوساط شعب أصبح أقلية عربية، إذ قد يؤدي إلى تذيلها الخالي من الندية والمساواة بحكم التعريف، للإعلام الإسرائيلي والمؤسسة الاقتصادية والسياسية الإسرائيلية.

ويتجلى هذا البؤس بأفظع أشكاله في ثقافة الوشاية الموروثة من أيام الخوف، أيام الحكم العسكري والذي رزح في ظله عرب هذه البلاد حتى عام 66. وما زال بعض المرتبطين بالمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة مصلحة وثقافة يستخدمون هذه الأداة في محاربة التيار القومي، وذلك بترجمة مواقفه القومية إلى العبرية، وبالإشارة إلى أن وجوده في الساحة السياسية العربية يؤدي إلى حالة مزاودة وتنافس بين الأحزاب العربية على اتخاذ المواقف المتطرفة- والرسالة التي يبثها هؤلاء تارة بالهمس والغمز واللمز، وتارة بالتصريح العلني للإعلام الإسرائيلي: " أن التيار القومي متطرف وغير مسؤول ويجر الساحة العربية إلى التطرف، وحتى إلى انفصال العرب عن جسم الدولة " – او " أن تحذيرات رئيس الشاباك في تقرير للجنة الخارجية والأمن عن التجمع الوطني الديمقراطي والنائب عزمي بشارة لا يصح للتعميم على الجميع".. وغير ذلك من التصريحات الذاهبة إلى عزل التجمع باعتباره متطرفاً فيسهل ضربه واتخاذ إجراءات ضده من قبل إسرائيل.

نفس العقلية وفي بعض الأحيان نفس القوى المتذيلة لليسار الصهيوني والتي تتهم التجمع بالتطرف والراديكالية والقومجية، تبث للعالم العربي أن التيار القومي العربي في الداخل يعترف بشرعية دولة إسرائيل، وأن طرحه الديمقراطي المعادي للصهيونية المعبر عنه في تبنيه لمفهوم "دولة لجميع المواطنين" مثلا، هو دعوة صريحة للاندماج في جسم الدولة العبرية... ولا يضير هذه القوى أن تتلقف الكلام قوى عربية معادية للقومية العربية كمفهوم، أو معادية للقومية العربية من منطلق تجربتها السلبية مع التيارات القومية العربية في السلطة، وأخرى قد تناقش التيار القومي في الداخل من منطلق عدم استيعابها لتطوير الفكر القومي الذي يقوم به في ظروف المواطنة الإسرائيلية.

كل هذا غير مهم. فالحركة بركة، والمهم إضعاف التيار القومي المستحوذ على العقول ومهاجمته من كل زاوية ممكنة. ولكن هؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون. فإنهم أولاً، يجعلون طرح التيار القومي محور النقاش. وهم خارج دائرة النقاش الفكري. إما لأنهم يكتفون بالممارسة اليومية المصلحية الزاحفة التي لا تحتاج إلى فكر مبلور للتعبير عن ذاتها، وإما لأن طروحاتهم السياسية تقع خارج دائرة الشرعية الوطنية التي تثير نقاشاً داخلياً. ولأنهم ثانياً، يضطرون التيار القومي الديمقراطي لتطوير طروحاته باستمرار في مواجهة الأسئلة المثارة أو الآراء المسبقة ، وقد تثار عن حسن نية أو عن سوء نية أو عن جهل- وهذا لا يغير مبدئياً نوع الإجابة عليها.
فقدت القرية العربية في الداخل منذ النكبة اقتصادها الزراعي دون أن تطور اقتصادا آخر. وهي إضافة إلى ذلك لم تفقده لصالح مدينة عربية مفتوحة لهجرة الريف إليها. ولم تشهد القرية هجرة حقيقية إلى المدينة على أثر خراب الزراعة بفعل المصادرة وتغير بنية الاقتصاد ومنافسة الزراعة اليهودية وغيرها. بل بقيت القرية في مكانها دون زراعة ودون اقتصاد تتضخم وتنتفخ وتصبح بلدة، ثم مدينة في عرف وزارة الداخلية الإسرائيلية، تأوي عمالا وموظفين في اقتصاد المدينة اليهودية. أما الاقتصاد المحلي الوحيد فما هو إلا مهن حرة وخدمات تقدم إلى هؤلاء العاملين المنتجين في الاقتصاد اليهودي.

رحلت البرجوازية الصاعدة في مرحلة الانتداب والإقطاع ونخبة المدينة الثقافية والبيروقراطية مع المدينة الفلسطينية ذاتها في عملية التهجير في النكبة. ونبتت البرجوازية الجديدة والفقيرة العدد على هوامش الاقتصاد الإسرائيلي من قطاعات مثل مقاولات البناء والوكالات والتجارة بالجملة. وهي لم تؤسس، ولا تؤسس لاقتصاد عربي جديد، وليس بوسعها ذلك. بل هي جزء من الاقتصاد الإسرائيلي، مثلها مثل بقية القطاعات الاقتصادية التي يقطن المعتاشون عليها في القرية العربية.

ولا جدوى من محاولة تأسيس اقتصاد عربي في داخل اراضي 48 مستقل عن الاقتصاد الإسرائيلي. فمجرد التفكير بذلك هو استقلال عن الواقع والمنطق، ناهيك عن السوق والعملة والأسعار والبنوك وغيرها. وحتى البطالة والصحة ومخصصات الشيخوخة تعتمد على نظام التأمينات والضمانات القائم في الاقتصاد الإسرائيلي المرتبط بوجود دولة. المواطنة الاقتصادية قائمة، وهي من الدرجة الثالثة او الرابعة، ولكنها قائمة حتى لو تم التخلي عن المواطنة السياسية غير المتساوية أيضا. ولذلك فالصراع لتحسين وضع القرية العربية وتصحيح اقتصادها ولو قليلا يتم في الإطار القائم، وفي إطار البنية الاقتصادية القائمة، وعبر تحديه في الوقت ذاته.

ولكن من ناحية أخرى، إذا تم التسليم بان التطور يجري في الإطار الإسرائيلي القائم فقط ودون أي تدخل أو تخطيط عربي فسوف تكون النتائج وخيمة، وقد كانت وخيمة حتى اللحظة. قد يرتفع مستوى معيشة المواطنين العرب حينا وينخفض حينا كحالات متأثرة بمعدلات النمو والركود وغيرها. ولكن العملية الأساسية المثابرة والعنيدة تبقى تهميش الاقتصاد العربي في الداخل، كهامش لمركز، وكمجرد ظاهرة مرافقة للتطور والأزمات في مراكز الاقتصاد الإسرائيلي اليهودية.

والوجهة الأساسية هي تحويل القرى إلى بلدات مكتظة دون تخطيط بحيث تدفع نوعية الحياة لتشبه جميعها أحياء فقر كبرى، أشبه ببلدات السود في جنوب أفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري، الابارتهايد، ولتصبح الحياة فيها، على المدى البعيد من ناحية الجريمة والعنف الموجه نحو الداخل وردود فعل المجتمع على الحداثة متراوحة بين الأصولية والانحلال بين سياسات هوية محلية وطائفية وعشائرية ومحاولات الاندماج فردي في الحياة الإسرائيلية وضحالة الحياة الثقافية، جحيما لا يطاق داخل جيتو.

ولذلك ورغم كون العرب في إسرائيل جزء من الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن الوجهة يجب الا تتلخص في ترك الحبل على غاربه، وترك الاقتصاد يتطور عفويا بموجب متطلبات السوق الإسرائيلي وحده. فالتطور العفوي هو تطور خاضع ومتأثر يتشكل بموجب حاجات المركز اليهودي الاقتصادية وقواعده وقوانينه وليس بموجب حاجات المجتمع العربي. والسوق في النهاية هو سوق يهودي.

من اجل ذلك يلزم وجود جسم تخطيط عربي، يخطط لنوع المطالب التي تطرح على الدولة العبرية، ونوع المبادرات المطلوبة من المجتمع. هل يجب ان يكتفي النضال الاجتماعي بالدفاع عن المخصصات والتأمينات والمعونات الرسمية أم يطور المجتمع العربي بنى تحتية مادية وبشرية ومطالب للاستثمار، ونهيئ المجتمع العربي لمطالب كهذه؟ من واجب هيئة تخطيط كهذه ان تعد لمسطح البناء وما يجب ان يكون عليه ونوع الصناعة او المشاريع التي تستطيع القرية العربية، او مجموعة قرى، استيعابها. حتى لو تطلب الامر تشجيع عدة قرى وبلدات على التجمع في رابطة تخطيط، وفي منطقة صناعية موحدة مثلا، ولبحث نوع التخصصات لدى خريجيها، وبعدها عن المركز، وحجم الضريبة فيها، وسعر الأرض...ويمكن ايضا بحث نوع الزراعة الممكنة للتصدير، نوع التخصصات التي ينبغي تشجيع الشباب على دراستها، وغير ذلك لغرض التخطيط لاقتصاد ما، لمقومات اقتصادية ما تتجاوز التأثر فقط بما يفرضه المركز.

ولكي يكون الغرض واضحا، وبعيدا عن أي التباس، لا اتحدث هنا عن جمعيات تخطيط مختصة بمجلس ادارة معين وتمويل خارجي، مع احترامي للجمعيات ودورها، ولا عن مهرجانات ولا مؤتمرات ولا ورشات عمل ولا غيره. الحديث هنا عن شكل من أشكال السلطة التنفيذية التخطيطية في إطار نوع من الإدارة الذاتية للمواطنين العرب، لا أقل. ولا ينفع في مثل هذه الحالة أقل من ذلك. وطبعا يتطلب وجود هيئات تخطيط معتمدة وجود هيئات منتخبة ذات شرعية تضع السياسات التي يتم بموجبها التخطيط وتمولها. ولا مناص من انتخاب المواطنين العرب لهيئة من هذا النوع مباشرة، مع دفع رسوم ولو شاقل واحد في الشهر لنوع من برلمان لعرب الداخل مع ميزانية بالحد الأدنى لهيئات وجهاز موظفين. وليس المطلوب أن يفصلهم عن الحكم المركزي ولا أن يعطل المطالبة بالمساواة، بل بالعكس المطلوب هو أن يوفر الإجابة على تهميشهم وتميزهم. وهو غير قادر على القيام بمهامه إلا كخاص ضمن العام، وإلا كحالة ارتباط وانفصال في الوقت ذاته. فهو في حالة الاقتصاد مثلا يدرك أنه جزء من الاقتصاد الإسرائيلي وهو لا يتمكن من الانفصال عنه، ولكنه لهذا السبب بالذات عليه أن يجد جوابا على حالة دفع مواطنيه نحو الهامش على مسار تطور مشوه هو عبارة عن ظاهرة جانبية، أو مضاعفات مرافقة لإجابة الاقتصاد والتخطيط على حاجات الآخر وليس على حاجاته.

لم تعترف اسرائيل لفترة طويلة بهوية المواطنين العرب القومية العربية الفلسطينية. وتعاملت معهم كطوائف دينية أقلياتية من جهة، وكرعايا درجة الثانية من جهة أخرى. والمقصود ان اسرائيل لم تنكر هوية العرب في اسرائيل الوطنية من جهة لكي تعترف بهم كمواطنين متساوين مندمجين من جهة أخرى. نقول ذلك لكي نذكِّر بعض الأخوة الذي يرون تناقضا بين الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية أن المذكورة أعلاه ليست دولة لبرالية ترغب في إنشاء أمة من المواطنين، بل هي دولة شديدة التمسك بهويتها اليهودية وهي ترفض إقامة أمة من المواطنين وتصر على أن مهمتها التاريخية هي تحويل اليهود في كافة أنحاء العالم إلى أمة تملك دولة. وتتعارض المساواة الكاملة مع إيديولجيتها الرسمية، أي مع الصهيونية.

وعندما حاولت المؤسسة الحاكمة منذ نهاية السبعينيات التعامل بشكل جزئي وبشروط مع العرب كعرب لهم مؤسسات، فقد ترافق ذلك بتحسين وضعهم كمواطنين أيضا. ولن نبحث حاليا في أسباب التغيير الذي طرأ بالنضال وبتغيير بنية واقتصاد المجتمع الاسرائيلي ذاته.

من الناحية الثانية تزامن الوعي بحقوق المواطنة وتصعيد المطالبة بالمساواة مع ازدياد الوعي الوطني عند المواطنين العرب أنفسهم. لم تأت الوطنية على حساب المطالبة بالمساواة بل تكامل المطلبان في الصيرورة التاريخية بغض النظر عن وجود أكثر من تناقض بينهما على مستوى المفهوم.

وبعد أن اعترفت بها جزئيا حاولت المؤسسة السياسية والأمنية أن تضبط الهوية العربية كعربية إسرائيلية، أي كهوية متعايشة مع الصهيونية وتقبل بأقل من المساواة، وكهوية دونية تحول مفهوم مواطن الدرجة الثانية إلى ثقافة وأخلاق دونية، وتقبل بالانفصال عن الموقف الوطني الفلسطيني، وتحاول الانتماء إلى ثقافة المحتلين. وقد وجدت ثقافة الهامش هذه من يتبناها، ومن يربط مصلحته بالمؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية: ثقافة تفاخر بنصف هوية عربية ونصف مساواة كمقدمة لاكتفاء الإنسان بنصف شخصية إنسانية.

مع نشوء الحاجة إلى ضرب هوية المواطنين العرب الوطنية تبنت إسرائيل ومعها الحالة الإسرائيلية في المجتمع العربي في الداخل مجموعة آليات للتعامل: مثل العودة إلى وسائل قديمة ومجربة لتفسيخ الوعي الوطني بواسطة إحياء نفوذ ممثلي النعرات الطائفية والعشائرية. هؤلاء لا يمكنهم أن يبرزوا بالموهبة أو الموقف بل فقط بتسعير النار ضد الآخر داخل نفس المجتمع وإخمادها ضد السلطة الحاكمة، هؤلاء لا يستفيدون إلا من إلحاق الضرر بمجتمعهم إذ يبرزون فقط كممثلي طوائف أو عشائر متصارعة أو متآخية حسب ما تمليه مصلحتهم. وآليات أخرى منها وضع حدود جديدة قانونية لشرعية العمل السياسي العربي، ومنها أيضا إطلاق النار على المتظاهرين ومحاولة ردع وترويع الناس ثم إقامة لجنة تحقيق لاحتوائهم ثم عدم احترام نتائجها، ثم إثارة نقاش حول عدم احترام نتائجها، ثم إلقاء اللوم على الضحية وهكذا... ولكن الطريقة الجديدة التي بزت قريناتها هي محاولة التأثير على مستوى الثقافة السياسية والسلوك السياسي والأخلاق والقيم السائدة. وفي الثقافة السياسية "العربية الإسرائيلية" يتم بحجة النزعة الواقعية والعملية نشر وتكرار تصور يختزل الناس إلى مجرد ساعين لتحقيق مآرب فردية، بما في ذلك من الحاق ضرر بالإنسان... وعلى هذه الصورة يراد أن يصمم شكل القيادة السياسية كقيادة نيابة برلمانية مطلبية تحقق مطالب فردية بواسطة العلاقة الجيدة مع الوزارات الإسرائيلية، وهذا هو مقياس "شطارة" النائب في ظل هذه الثقافة السياسية.

القيادة السياسية هي قيادة سياسية أولا. ويقاس عملها حسب الظرف التاريخي بقدرتها على إثارة قضايا ومعالجتها بموجب الخط السياسي الذي انتخبت على أساسه، وبقدرتها على المطالبة تحسين ظروف وحياة الناس وفضح سياسية التمييز، وتنظيم النضال ضدها وطرح بدائل لها، والحفاظ على الموقف الوطني والعقلاني في آن. ولكن نزعة الحياة على الهامش كنصف عربي وبنصف حقوق تؤدي أيضا إلى نزعة العزوف عن السياسة إلى درجة طرح السؤال في الانتخابات الأخيرة للبرلمان: "وما حاجتنا إلى قيادة سياسية؟". السؤال الأول يفضي للثاني والعكس صحيح.

بموجب هذا المنطق طبعا يتحول العرب إلى أيتام على موائد السلطة الحاكمة: فتات ولائم في حالة "البرايمرز" في الأحزاب مثلا، وفتات خبز جاف وحرب قبائل وعشائر على السيطرة على المجالس المحلية والبلديات في الأيام العادية. صادروا الدولة والوطن ويلهُّون السكان الأصليين بصراع على السيطرة على بلديات ومجالس محلية ضامنين بذلك أمرين: تفسيخ المجتمع ومنع تطور مؤسسات قيادية مركزية في عملية بناء وتشكل شعب، وحشر العرب في الصراع على جزء ضئيل من مقدرات ومصادر وإمكانيات الدولة التي يعيشون فيها.

تاريخيا نستطيع الجزم أن من فرط بالموقف الوطني فرط أيضا بالحقوق وتمسك بفتات المائدة في إطار نظام من الواسطة والزبونية للمؤسسة الصهيونية له ولأقاربه ومقايضتها بمواقف. كان الموقف الوطني دائما هو شرط التمسك بالحقوق.
والمعروف انه ينتمي لهذا التيار ناشطون سياسيون كانوا في الماضي يرفضون خوض الانتخابات للبرلمان الإسرائيلي أو المشاركة فيها بالتصويت، وآخرون كانوا يشاركون ضمن قوائم مثل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وقبلها الحزب الشيوعي، والحركة التقدمية وغيرها. ومن المعروف أن الحركة الإسلامية في الداخل تخوض انتخابات الكنيست بأحد شقيها، أما الشق الثاني فيشارك أفراده بالتصويت والاقتراع (أي لا يقاطع الانتخابات رسمياً) وان كان لا يخوض الانتخابات بقائمة خاصة به، هذا عدا مشاركته في الحكم المحلي التابع رسميا لوزارة الداخلية والمعبر عنه بالبلديات والمجالس المحلية.

لقد قرر التيار القومي المنظم في التجمع الوطني الديمقراطي خوض الانتخابات البرلمانية بعد مخاض طويل ونقاشات مضنية منشورة وغير منشورة. ولكن القرار جاء طبيعياً ودون اعتراضات على المبدأ حتى من قبل أولئك الذين لم يتحمسوا للفكرة. لقد وقفنا في حينه أمام حالة من تأزم وتشظي الحركة الوطنية في الداخل بعد اتفاقيات أوسلو وتحويلها إلى هامشية وعاجزة عن التأثير على مجريات الأمور على الساحة العربية.

وإزاء ما شخصناه على أنه حالة أسرلة زاحفة تتمثل بتحول مطلب المساواة إلى مطلب اندماج على هامش المشروع الصهيوني، بما في ذلك من إسقاطات على الثقافة الوطنية والمواقف السياسية، وبما في ذلك من مظاهر تأزم العلاقة مع الذات المعبر عنه في نشوء شخصية " العربي الإسرائيلي" المنفصمة، قررنا أن الطريق الوحيد للتأثير هو طرح التيار القومي الديمقراطي للمنافسة في الانتخابات كطرف سياسي ذي علاقة بواقع العمل السياسي الذي يريد تغييره. فمقاطعة الانتخابات، كموقف سياسي، لا يؤدي بالجماهير إلى مقاطعتها، بل إلى تهميش من يدعو لذلك عن الناس. وبذلك تبقى "الجماهير" فريسة أسرلة تفرضها العملية الانتخابية بعد أن غابت عنها محاذير وثوابت التيار القومي. فتنشد هذه العملية الانتخابية والخطاب السياسي الذي يسودها باستمرار نحو تقليد نمط خطاب اليسار الصهيوني الذي يوفق بين "الاندماج" في دولة اليهود وبين قبول كيان (دولة) فلسطينية مستقلة "إلى جانب دولة إسرائيل".

ومنذ أن قرر التيار القومي المشاركة في الانتخابات تحولت طروحاته إلى موضوعات متداولة في النقاش في الشارع، وانتشرت كالنار في الهشيم ، وبدلاً من أن يشد اليسار الصهيوني الخارطة السياسية العربية إليه، تغير الاصطفاف بحيث بات ينشد باتجاه التيار القومي.وأحد التعبيرات عن ذلك هو تقليد خطاب هذا التيار ومناقشته بحدة أو الوشاية به في الوقت ذاته. ولكن الأساس أن أطروحاته أضحت محور النقاش الدائر.

لم يخلق التيار القومي الديمقراطي الوطنية ولا القومية في الداخل. ولكن لا يستطيع إلا الجاهل او سيئ النية أن ينكر انه منذ ولج التجمع الوطني الديمقراطي مجال السياسة بمعناها العيني في الظروف العينية، أي كمتنافس بين طروحات أخرى، تغيرت الثقافة السياسية لدى عرب الداخل وتطور النفس الوطني الكفاحي النضالي وبدأت تتشكل حالة رفض للأسرلة باتت مقلقة لإسرائيل. وصحيح أن الشق اليميني للمؤسسة الصهيونية يحرض ضد كل القوى السياسية العربية، ولكن اليسار الصهيوني لا يحرض إلا على التيار القومي متمثلا بالتجمع الوطني الديمقراطي، وذلك لأنه يدرك الفرق الذي أحدثه التجمع، في حين يمنع عمى الألوان العنصري الذي يصيب اليمين من رؤية الفرق.

وما كان بإمكان التيار القومي ان يدخل البعد القومي والديمقراطي إلى حياة "الجماهير" السياسية بالوعظ والإرشاد من خارج واقعهم المعاش كناس. وواقع عرب الداخل المعاش هو واقع المواطنة الإسرائيلية غير المتساوية ، وردة الفعل الطبيعية الأولية عليها وهي مطلب المساواة. وما كان بإمكان القوميين أن يثبتوا ل"لجماهير" ان مساواة العرب غير ممكنة في " دولة اليهود" الا اذا وقف معهم على قاعدة هذا المطلب باعتباره شرعياً. فلكي يطلب التيار القومي من "الجماهير" أن تحمل الهم الوطني والقومي عليه هو أن يحمل هم الناس.

يتقوقع التيار القومي في رومانسية تمجد الجماهير من بعيد دون معرفتها إذا لم يتعامل مع قضايا الناس اليومية الذي يحول " الجماهير" إلى ناس، بشر، أفراد، جماعات، متطورين ومتخلفين، واعين ومجهلين، وإلى مصالح وقضايا مرتبطة وغير مرتبطة بالسلطة الحاكمة وإلى ثقافات سياسية متفاوتة. وقد يؤدي العزوف عن التعامل مع قضايا الناس بالسياسة من الرومانسية إلى العدمية، أي إلى الانعزال في حالة إحباط وهجرة واغتراب تخوّن الحالة والمرحلة والعرب والمسلمين والناس أجمعين، أي تتحول إلى هجرة يتبعها تكفير. والحالة الرومانسية وحالة الهجرة حالات غير سياسية. وقد أثبتت التجربة التاريخية والتحليل البنيوي للأقلية العربية في الداخل انه لا يمكن التعامل مع قضايا الناس الحياتية واليومية وتمثيلهم سياسياً في الوقت ذاته دون خوض المعركة سياسياً برلمانيا.

بقيامه وبولوجه المعركة السياسية حقق التيار القومي العربي المنظم في حزب ما يلي:

-1 تم إحياء الحركة الوطنية والتيار القومي في الداخل.

-2 شد مطالب المساواة إلى نهايتها القصوى المتناقضة مع الطبيعة الصهيونية للدولة العبرية.

-3 تم قطع شوط كبير في تخليص هوية عرب الداخل من أزمة الأسرلة .

-4 يزداد الالتفاف حول ضرورة بلورة الحقوق الجماعية للعرب في الداخل.

-5 تكثيف التواصل مع الأمة العربية والشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل.

-6 نتيجة لضرورات التنافس مع أطروحات وأساليب عمل التيار القومي الديمقراطي تطور العمل البرلماني والسياسي عند جميع القوى بشكل لا يقارن مع ما كان سابقاً.

هل هناك ثمن يدفعه التيار القومي بسبب دخوله انتخابات الكنيست الذي يترتب عليه اعتراف بإسرائيل؟ نعم. ولكن في أي لقاء للفكر بالممارسة هنالك ثمن يدفعه الفكر راضياً إذا رغب بالتأثير- أي ترجمة للفكر إلى برنامج سياسي بناء على تشخيص لظروف سياسية محددة من اجل تغيير هذه الظروف فيه ثمن، وأي ترجمة للبرنامج السياسي إلى مطالب نضالية فيه ثمن. والامتحان هو بالقدرة على الارتقاء المعاكس من المطلب إلى البرنامج، إلى المشروع الفكري بشكل متماسك ودون تناقضات لا تمكننا من العيش معها.

والتيار القومي في الداخل ، خلافاً لحركات سياسية لا تتوفر لديها هذه البوصلة الفكرية القومية الديمقراطية، لا يوافق على التمثيل في مؤسسات هي أدوات تنفيذ السياسة الإسرائيلية وهي الحكومة ووزاراتها، كما لا يوافق على تمثيل العرب في لجنة الخارجية والأمن في البرلمان ، ولا يشارك في تمثيل الكنيست خارج البلاد، ولا يطالب بتمثيل عربي في البعثات الدبلوماسية في الخارج بحجة المساواة، خلافاً للقوى السياسية العربية الأخرى في البرلمان.

فالتيار القومي يرفض تحويل مطلب المساواة المناهض للطبيعة الصهيونية لإسرائيل إلى أداة لدمج العرب في سياسات إسرائيل تحول بدورها مطلب المساواة إلى مطلب "حصة" في السياسة بدلاً من مناهضة هذه السياسة. ولكن التيار القومي النضالي الذي يتعامل بحيويته يومياً مع قضايا الناس ببوصلة فكرية وقيمية يرفض في الوقت ذاته اشتقاق مواقفه بالقياس المنطقي من نوع : هنالك تناقض بين القومية العربية والوحدة العربية ووجود إسرائيل كتعبير عن مشروع صهيوني. والمشاركة في انتخابات الكنيست هي اعتراف بهذه الدولة ، اذاً هنالك تناقض بين المشاركة في هذه الانتخابات والفكرة القومية العربية. بل يشتق التجمع الوطني الديمقراطي مواقفه بضرورة خوض الانتخابات حاليا من استقراء الواقع الحياتي المعاش وأنماط العمل السياسي وأنماط الوعي التي ينتجه لكي يكون هنالك وجود جماهيري وشعبي وفاعل ومؤثر للفكرة القومية العربية المتناقضة مع الصهيونية، كما تتناقض ممارسات التجمع مع الصهيونية على كل جبهة ممكنة. هكذا يتجلى التناقض الوجودي ويتفاعل ويطور ديناميكيته. لكي يكون هنالك صراع وجود يجب أن يكون وجود في الواقع المادي الملموس، وإلا تحول صراع الوجود مع الصهيونية إلى صراع بين مفاهيم، بين مجردات تعيش حياتها الخاصة الرمادية بعيدة عن ألوان الواقع المعاش، ومن بينها اللون الرمادي القاتم.

وليس لدى التيار القومي الديمقراطي في الداخل طموح لتقديم الوعظ والإرشاد للتيار القومي في الوطن العربي وضرورة تعامله مع الواقع العيني في الدول العربية القطرية العينية، إذ لا وجود لدولة عربية أخرى غير الدولة القطرية، هذا التعامل الذي قد يضطره إلى تبني هموم الجماهير بدلاً من مطالبة الجماهير باستمرار بتبني الهم القومي.

التعليقات