ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (15)د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (15)د.مصطفى كبها
بعد انتهاء الإضراب العام وخروج فوزي القاوقجي ومعه معظم قادة فصائل الثورة، توقفت بشكل شبه تام، الفعاليات الثورية الموجهة ضد أهداف بريطانية ويهودية، باستثناء مبادرات فردية، هنا وهناك، قام بها بعض صغار قادة الفصائل الذين لم يحلوا فصائلهم واستمروا بأعمال مناوشات محدودة ضد القوات البريطانية وبعض المستوطنات اليهودية.

وقد تواجد معظم قادة الفصائل الكبار، في هذه الفترة، في دمشق التي شكلت، بدورها، في معظم أيام الثورة مركزاً لوجيستياً مهماً يتم فيه تجنيد المتطوعين وشراء الأسلحة وتأمين القادة الفلسطينيين الخارجين من البلاد تحت ضغط البريطانيين.

استغل البريطانيون وقادة المشروع الصهيوني ومؤسساته فترة الهدوء النسبي هذه، لغرض الدراسة المفصلة لأحوال المجتمع الفلسطيني بكافة فعالياته، وقد تم التركيز على الأماكن والهيئات والأشخاص الذين لعبوا دوراً فاعلاً أثناء الإضراب، خاصة المناطق التي خرج منها قادة الفصائل والثوار.

كما وقام البريطانيون ورجال الوكالة اليهودية بمحاولات اختراق في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية بغرض تجنيد المخبرين الذين أصبحوا يزودونهم أولاً بأول بكل ما يجري على الساحة الفلسطينية، وحتى في أوساط الفلسطينيين العاملين في البلاد العربية المجاورة، خاصة في سوريا ولبنان والعراق.

(للمزيد من التفاصيل إنظر : يوآف جلبر، جذور الزنبقة (بالعبرية )، حول بداية نشاط الأجهزة الاستخباراتية اليهودية، القدس، 1992. جزآن).

وقد كان لأجهزة الاستخبارات البريطانية واليهودية، تنسيق متبادل، ساعد الطرفين على محاربة الثورة فيما بعد بنجاعة أكبر، مستعينين بالمعلومات التي عكفوا على جمعها بكثافة أكبر منذ نهاية الإضراب الفلسطيني في تشرين أول 1936.

أما في الجانب العربي، فقد أدركت الشخصيات الفاعلة فيه (وخاصة المفتي الحاج أمين الحسيني) أن توصيات لجنة التحقيق الملكية (لجنة بيل)، التي أقامتها بريطانيا لامتصاص الغضب الفلسطيني، لن تلبي المطالب والأماني الوطنية للفلسطينيين، ولهذا أوعز إلى اللجان القومية والشعبية، التي أقيمت أثناء الاضراب، وقادة الفصائل باستئناف النشاط العنيف كوسيلة للضغط والتأثير على أعضاء اللجنة كي يتخذوا مواقف أكثر إيجابية من وجهة النظر الفلسطينية.

وعليه، فقد بدأت الفصائل المسلحة بالتكوّن ثانية في أيار - حزيران 1937، وقد كان للقسّاميين دور بارز في عملية التنظيم والحض عليها. وفي الشهور المذكورة أعلاه، قامت الفصائل المسلحة بعمليات محدودة ضد أهداف يهودية وبريطانية، وعند نشر تقرير اللجنة وتوصياتها في غرّة تموز 1937، على ما تضمنته هذه التوصيات من تقسيم البلاد بين اليهود والعرب الفلسطينيين،رفضت القيادات الفلسطينية هذه التوصيات وبدأ الثوار بتنفيذ عمليات إغتيال ضد موظفين وضباط بريطانيين كبار عرفوا بمواقفهم المؤيدة للأماني الصهيونية وفكرة الوطن القومي اليهودي، كان أكبرهم لويس أندروز، الحاكم العسكري العام لمنطقة الجليل الذي اغتاله فصيل ثوري أثناء خروجه من إحدى كنائس الناصرة بعد تأديته لصلاة الأحد في السادس والعشرين من أيلول 1936. وقد كانت هذه العملية بمثابة إشارة البدء لتجديد الثورة المسلحة بكل عنفها وزخمها.

كان أندروز أكبر شخصية بريطانية تم اغتيالها في فلسطين أثناء فترة الانتداب البريطاني. ولهذا، كان قتله موجعاً ومؤلماً بالنسبة للسلطات البريطانية. وقد وصفه يهودا سلوتسكي، مؤلف كتاب "تاريخ الهاجاناه "، بالكلمات التالية : " كان أندروز أحد الموظفين الكبار في حكومة الإنتداب الذين ساندوا بقوة مشروع الوطن القومي اليهودي ". ( كتاب تاريخ الهاجاناه، تل أبيب، 1965 ج2، ص 760 ).

ومن الجدير ذكره أن معظم المصادر البريطانية واليهودية تنسب مقتل أندروز إلى محمد الصالح الحمد ( أبو خالد ) من قرية سيلة الظهر (قضاء جنين ) إلا أن الروايات الشفوية الفلسطينية تتفق على أن منفذ العملية كان الشيخ محمد أبو جعب من قباطية (قضاء جنين ) وهو قسّامي وعضو في جماعة الكف الأسود. وقد عمل أثناء الثورة بالتنسيق مع محمد الصالح القائد القسّامي وأحد أكبر قادة الفصائل التابعين للقائد عبد الرحيم الحاج محمد.

وقد قام محمد الجعب بتنفيذ العملية والهروب إلى بيسان ومن هناك إلى حيفا ومنها إلى دمشق وقد ساعده في عملية الهروب والتنقل بعض أهالي بيسان وقرية عارة (قضاء حيفا ) وعلى اثر معرفة السلطات البريطانية بذلك نفذت حملة اعتقالات واسعة في بيسان ووادي عارة. (عن ذلك : مقابلة مع عفيف زكارنة (أصله من قباطية ومقيم في جنين )، 1999. 7.1. وكذلك نمر سرحان في ملحق شبابيك، صحيفة الأيام (رام الله )، حلقة 938، 1999. 9.16 ).

على أثر مقتل أندروز، قام البريطانيون بحل كافة الهيئات السياسية والوطنية الفلسطينية، وأخرجوها خارج القانون. وقاموا بعزل المفتي الحاج أمين الحسيني من كافة مناصبه وحاولوا اعتقاله إلا أنه فر من وجههم واعتصم في الحرم القدسي الشريف حتى سنحت له الفرصة بالهروب، فخرج متخفياً من الحرم إلى يافا التي غادرها بقارب صيد إلى بيروت مروراً بميناء أبو زابورة ( المشهور أيضاً بميناء البطيخ وهو يقع 5 كم جنوبي الخضيرة وقد كان فلاحو وادي الحوارث وقرية عرب النفيعات، القريبة منه، يستعملونه لتصدير بطيخهم المشهور بحلاوته إلى مصر ).

وكذلك اعتقل البريطانيون بعض أعضاء اللجنة العربية العليا وبعض زعامات الصف الأول ونفتهم إلى جزر سيشيل وفرّ الباقون كي لا يقعوا في أيدي سلطات الانتداب.

وهكذا خلت البلاد من كافة كوادر الصف الأول من الزعامات الفلسطينية بما في ذلك القيادات الشابة المثقفة التي أدارت إضراب 1936، وكان من المفروض أن تملأ الفراغ الذي تركه كبار القادة. وبذلك أضحى العرب الفلسطينيون بلا قيادة سياسية تدير شؤونهم، الشيء الذي أتاح لزعماء وقادة الفصائل المسلحة، الذين كان معظمهم من أصل قروي - فلاحي، من السيطرة على مقاليد الأمور وقيادة جماهير الشعب الفلسطيني. فقد سيطرت الفصائل المسلحة في البداية على الأرياف، ثم بدأت بالزحف على المدن الرئيسية (القدس، يافا، حيفا، نابلس، بئر السبع، طبريا والخليل ) التي فرضت السيطرة عليها بشكل تدريجي امتد حتى منتصف عام 1938.

ولم تخل سيطرة الشرائح الريفية على دفة الأمور من بعض التوترات على خلفية طبقية، وعن ذلك سنفصل في الحلقة القادمة.....

التعليقات