ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 13 )د. مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 13 )د. مصطفى كبها
بعد النجاح النسبي الذي حققه فوزي القاوقجي في معركة المنطار، أخذ يعد العدة لاستثمار هذا النجاح في مواقع أخرى ضد البريطانيين، يتم فيها اعتماد حرب العصابات طريقاً لضرب قواتهم على مفترقات الطرق الأساسية وفي المعسكرات ومخافر الشرطة.

ويهدف هذا التكتيك إلى زعزعة الثقة في نفوس جنودهم السائرين في الدوريات الباحثة عن الثوار أو في دوريات التفتيش والتمشيط في القرى والمدن العربية، التي كانت تعيث فساداً في البيوت والممتلكات وتنكل في كل من يتهم، من الأهلين، بايواء الثوار أو مدهم بالعون والمساعدة.

أما البريطانيون، فقد سارعوا للخروج من مفاجأة معركة المنطار، إذ قاموا باستدعاء بعض وحدات الاحتياط التابعة للقيادة العليا لمنطقة الشرق الأوسط من قبرص وشرقي الأردن وقامت بتقوية شبكتها المعلوماتية في المنطقة الوسطى من خلال توثيق التعاون مع جهاز الشاي التابع للوكالة اليهودية، والذي دأب حينها على جمع المعلومات الاستخبارية اللازمة عن المجتمع الفلسطيني.

وقد وضع القاوقجي قواعد وأصول شن حرب العصابات حسب الظروف المواتية، معتمداً على قاعدة سكانية مؤيدة ومتعاطفة، مستغلاً وعورة المنطقة التي عمل فيها، ولكنه مال، على الأغلب، للاستخفاف بقدرات الثوار الفلسطينيين، والاعتماد على الثوار المتطوعين من البلاد العربية الأخرى.

وقد لجأ إلى طريقة المناوشات الدائمة والتي سعت إلى إبقاء جذوة الثورة مشتعلة بشكل يومي، حتى لو كان العمل الذي كانت تقوم به الفصائل حاجزاً بدائياً من الحجارة أو إطلاق نار من بعيد على المعسكرات الخ....

أما أهم المعارك التي خاضها في هذه الفترة فكانت :
علم فوزي القاوقجي أن قافلة عسكرية بريطانية كبيرة ستغادر حيفا، صبيحة يوم 24 أيلول 1936، متوجهة إلى معسكر صرفند العسكري الواقع في المنطقة الوسطى.

وعلى الفور كلّف مقاتليه ببناء كمين لهذه القافلة في منحنى الطرق الصعب الواقع بين قريتي جبع وصانور ( قضاء جنين ).

وعند قدوم القافلة في موعدها المقرر ومحاولة الثوار التصدي لها، قام سرب من الطائرات البريطانية بمفاجأتهم، حيث أمطرتهم الطائرات بسيل كثيف من قنابلها، بشكل أوقع عشرات الإصابات بينهم. في حين أكملت القافلة مسيرها بعد إزالة الحاجز الذي وضعه الثوار ولم يتكبد أفرادها إلا إصابات طفيفة.

تجمع الروايات الشفوية (معززة بوثائق أرشيفية بريطانية من نفس الفترة ) أن سبب فشل هذه المعركة هو معرفة البريطانيين المسبقة بأمر الكمين وذلك عن طريق بائع خضار متجول كان يأتي يومياً إلى معسكر القاوقجي ليبيع جنوده الخضار الطازجة والمؤن. وكان الانجليز قد جندوه بعد معركة المنطار مباشرة ليعرفوا مجريات الأمور في معسكر القاوقجي، وكان يأتي ويجالس الثوار ويسمع بالتفصيل عمّا يجري هناك، ليقوم فيما بعد بنقل ذلك لمشغليه.

وقد نجح الإنجليز بفضل هذا المخبر من إفشال كمين جبع وإلحاق هزيمة نكراء بقوات القاوقجي المرابطة هناك.
حدثت هذه المعركة بمبادرة بريطانية عندما حاولت قوات بريطانية تعقب قوات القاوقجي بعد معركة جبع، والتي انسحبت باتجاه قرى سيلة الظهر، بزاريا، برقة وبيت إمرين.

وقد جرى الاشتباك في المسافة الواقعة بين قرى برقة وبيت إمرين من جانبي الشارع الرئيسي جنين -نابلس. وكانت القيادة العليا للقاوقجي، في حين كان القائد في أرض المعركة عبد الرحيم الحاج محمد، وكان معظم المشاركين فيها من أفراد الفصائل التابعة له. وكانت القوات البريطانية قد نسفت منزله في قرية ذنابة قبل معركة بيت إمرين بيومين.

وصف الثوار هذه المعركة، في بيان أصدروه، بأنها كانت أكبر المعارك التي جرت بين الثوار والقوات البريطانية، حتى ذلك الوقت. وذلك لأن البريطانيين زجوا في أرض المعركة، بأعداد هائلة من الجند، واستعملوا مختلف أنواع الأسلحة.

وأضاف كاتب البيان قائلاً:" غنم الثوار عدة بنادق وعدداً كبيراً من تجهيزات الجند، التي أخذوا يرمونها للنجاة بأنفسهم من مخالب الثوار المشتبكين معهم. أمّا خسائرنا فهي ثلاثة شهداء، وتسعة جرحى، ويقدر عدد خسائر العدو بأكثر من 150 قتيلاً وجريحاً. وقد علمنا أن ثلاثة من الجرحى العرب ما لبثوا أن توفوا شهداء " (أكرم زعيتر، يوميات الحركة الوطنية الفلسطينية، ص، 196 ).

من الواضح أن البيان أعلاه بالغ كثيراً بذكر أعداد الخسائر البشرية البريطانية، وقد ادعى البريطانيون من جانبهم، أن خسائرهم كانت جرح ضابط وجنديين مقابل اثنتين وعشرين إصابة وقعت في صفوف الثوار. (البيان العسكري البريطاني رقم 129 وهو موجود في الأرشيف البريطاني ملف رقم 1764\Pro,Air2 ).

وعلى ما يبدو، فإن الأرقام البريطانية أيضاً غير صحيحة وذلك اعتماداً على روايات شفوية جمعناها من أفراد شرطة عرب عملوا في الشرطة البريطانيية، الذين أفادوا بأنهم قاموا بنقل جثث لخمسة جنود بريطانيين نقلت في السيارات البريطانية المصفحة إلى ميناء حيفا، ومن هناك تم شحنها عن طريق البحر إلى الموانئ البريطانية.

ومهما يكن من أمر فقد كانت معركة بيت إمرين علامة فارقة في الذاكرة الشعبية الفلسطينية حول ثورة 1936 -1939، فقد أنشأ الشعراء الشعبيون أغاني تمجد دور الثوار في المعركة كانت أشهرها أهزوجة مطلعها " بين برقة وبيت إمرين ولّع ضرب القيازين " والقيزان قذيفة كانت تطلقها الطائرات البريطانية المتعقبة للثوار . والأهزوجة مبنية على نفس وزن أهزوجة أخرى ألّفها الشعراء الشعبيون بعد معركة المنطار كان مطلعها :
" بين بلعا والمنطار صار إشي عمره ما صار ".

وقد ألف الشعراء الشعبيون أهازيج على هذا الوزن في طول البلاد وعرضها تمجيداً لمعارك حصلت بين مواقع مختلفة.
كانت هذه آخر المعارك التي خاضها وأشرف عليها فوزي القاوقجي، وقد اشترك في المعركة، بالإضافة لفيالق القاوقجي، بعض الفصائل التابعة لعبد الرحيم الحاج محمد بقيادة عبد الرحمن الحطّاب، إبن قرية كفر صور الواقعة على بعد عشرة كيلومترات جنوبي طولكرم وخمسة كيلو مترات شرقي الطيبة.

بدأت المعركة عندما هاجمت القوات البريطانية مقر القيادة الذي أقامه القاوقجي غربي قرية كفر صور، وقد كانت هذه العملية في إطار الخطة التي وضعها الجنرال ديل، الذي كان قد تسلّم قيادة الجيوش البريطانية في 1936 .9 .13 بغرض القضاء على قوات القاوقجي المرابطة في منطقة المثلث الكبير.

وعندما توجّهت دبابتان بريطانيتان وبعض السيارات المصفحة، بقيادة العقيد هاتون لمقر قيادة القاوقجي، في كفر صور، وطرأ عطل في إحدى الدبابات، عندها قام الثوار بتطويق القوة البريطانية ومهاجمتها.

بداية، قام بذلك فصيل مكون من عشرين ثائراً، وبعد ذلك انضم المزيد من سكان المنطقة وقرى أخرى.

وعند اشتداد رصاص الثوار، قام قائد القوة بإطلاق إشارة S.O.S، طالباً النجدة من سلاح الجو، الذي أرسل طائرة قامت بقصف الثوار وأوقعت فيهم بعض الإصابات.

استمر القتال حتى حلول الظلام، عندها قام الثوار بالإنسحاب بأمر من فوزي القاوقجي. وفي صباح اليوم التالي قام البريطانيون بإخلاء قواتهم. بعد أن كانوا قد فتشوا القرية واعتقلوا بعض أبنائها.

بالنسبة للخسائر بالأرواح، فإن المصادر البريطانية ادعت بأنه لم تقع إصابات في الجانب البريطاني، بينما لقي مصرعهم خمسة من المسلحين العرب. (تقرير رفعه قائد القوة البريطانية لوزارة المستعمرات وهو موجود في أرشيف وزارة المستعمرات ملف رقبم 4177 \32 \ Pro,w.o).

أما المصادر العربية فتتحدث عن مصرع شهيدين هما؛ الشيخ سليمان الصانوري ومتطوع لبناني أسمه محمود حمود، وإيقاع بعض الإصابات في القوات البريطانية. ( روايات شفوية تم جمعها في كفر صور في 1999 . 4 .19، وتتحدث عن شجاعة الشهيد سليمان الصانوري الذي هاجم الدبابة البريطانية بالحجارة وقطعة من الحديد بعد أن حدث عطل في سلاحه الناري ).



وللحديث بقية .......



التعليقات