جنوب افريقيا – سوادها ناصع البياض../ جميلة عاصلة*

-

جنوب افريقيا – سوادها ناصع البياض../ جميلة عاصلة*
سبع سنوات ونيف قد مرت ونحن نركض داخل الزمن عاجزين عن محو شارات المرور للوصول الى العدالة الهاربة.

سبع سنوات وقطارنا لم يتوقف الا في محطات الخيبات. ولأننا نؤمن بعدالة قضيتنا، لم يكن قرار مزوز باغلاق ملف الشهداء ليطفئ النور في أعيننا. لقد رمينا بأنفسنا نحن ذوي الشهداء في الموج، لتكون جزءا من حركة البحر المجنون. كما رفضنا النوم على الساحل كي نكون عند حسن ظن الشهداء، وايمانا منا ان لا قيمة لشعب بلا لسان..

من هنا كانت الخطوة الأولى في التاسع عشر من هذا الشهر في زيارة أولى لجنوب أفريقيا كجزء من تطبيق قرار المرافعة الدولية في ملف الشهداء. ذالك البلد الذي يفهم المعنى الحقيقي للظلم. فاختياره كبوابة إلى العالم لم يكن صدفة، وبما إننا لا نستطيع ان نحمل وطنا مغتصبا، وشعبا بكامله، تقرر ان يخرج وفد يتألف من السيد شوقي خطيب رئيس لجنة المتابعة العليا، وثمانية من أسر الشهداء، وخمسة اعضاء من مركز "عدالة" والتي أصرت منذ البداية ان يكون محاموها أفضل محامين لأعدل قضية.

انطلق الوفد يوم السبت في ساعات الظهر. كل منا يضع على صدره شارة بألوانها الأربعة، يتلخص شعارها بالمطالبة بالعدالة والحقيقة والمسؤولية على قتل أبنائنا الثلاثةعشر الذين محت المؤسسة الصهيونية اسماءهم من سجل الحياة.. ثم وضعنا نصب أعيننا أن نرفع صوتنا عاليا، ونحكي حكاية الشهداء خارج الوطن وحكاية أبناء شعبنا الذي يعيش عمرا مهددا.

بقينا ثلاث عشرة ساعة في الفضاء بين السماء والارض، لتحط بنا الطائرة اخيرا في مدينة جوهانسبورغ، واذا بوفد يضم بعض الشخصيات المرموقة ذات التاريخ المشرف والناشطة على الساحة تنتظر وصولنا فاتحة ذراعيها لاحتضاننا واحتضان قضيتنا.

بعد انتقالنا الى مدينة بريتوريا كان لنا اللقاء المميز في شبكة الإعلام (MRN) التي تنحني لها الرؤوس، ولكل من يعمل فيها. وذالك لمهارتهم وخبرتهم في الاعلام. لقد لمسنا تعاطفهم مع قضيتنا بشكل خاص، والقضية الفلسطينية بشكل عام. وقد ابدوا استعدادا تاما للعمل لنشر قضيتنا ايمانا منهم بعدالتها.

اما اللقاءات اللاحقة فكانت مكثفة ومتنوعة، ومن الصعب الخوض في تفاصيلها. ابرز هذه اللقاءات كانت مع أعضاء من لجان المصالحة والحقيقة. لجنة دعم ضحايا الابرتهايد، ودعم عائلات المعتقلين، ولجنة حقوق الانسان، ومحامين لديهم الخبرة والمعرفة، ومنهم المحامي جورج بيزوس محامي نلسون مانديلا وأقدم محامي عمل ضد ألأبرتهايد، وكذلك محققين متمرسين ومؤدلجين اكتسبوا خبرتهم في زمن الابرتهايد.

اما ما بعث الشعور بالراحة هو استعداد كل من التقيناه للعمل لدفع قضية الشهداء من اجل احقاق الحق وتحقيق العدالة. وقد وعدوا ان يلقوا الضوء على هذه القضية، واعتبروا ذالك فخرا لهم ان تفتح ابواب قضيتنا عبرهم.

كل هذا يضاف اليه زيارة كانت حتى تلك اللحظات الاكثر اثارة وذالك في المحكمة التي كانت في الامس القريب سجنا يغص بمناضلين كثر وعلى رأسهم المناضل الصلب نلسون مانديلا. هؤلاء السجناء الذين نموا داخل السجن عمالقة للتبشير بالحرية من السلطة البيضاء، سلطة التمييز العنصري. هؤلاء السجناء الذين كانوا يقيمون وراء القضبان وفي نفوسهم شهوة لحياة كريمة. حيث حملوا الالم عاما بعد عام، وقد نسوا كيف تشرق الشمس في الصباح، وكيف تغرب في المساء. الا ان ما عرفوه ان من آلامهم ستشرق شمس الحرية.

خلال تجوالنا بين اقسام هذا السجن ازدحمت اعصابنا بالانفعالات. حيث خلنا تلك الجدران تنطق باسماء السجناء ممن دفعوا ضريبة التحرر. هؤلاء الناس الذين لا ذنب لهم سوى انهم ولدوا ببشرة سوداء، وقد لاقوا ما لاقوا من تلك السلطة البيضاء التي تفننت في هندسة السجون وتعذيب المناضلين. لكن باستطاعتنا القول انه رغم المرارة التي يشعر بها الزائر خلال تجواله بين اقسام هذا السجن الا ان هنالك شعورا يبعث الاعتزاز والفخر بشعب مناضل. بعد الدخول الى اروقة المحكمة والتي اقيمت على انقاض قسم من هذا السجن. حيث نقلت حجارة ذالك القسم لتبقى الاساس لهذه المحكمة ولهذا التخطيط معان كثيرة. اما براعة المهندس فقد تجلت في وجود شباك واسع في احد جدران المحكمة ليطل على قسم من اقسام السجن مذكرا الحكام والحضور اثناء الجلسات بالظلم الذي طال هذا الشعب في يوم من الايام، وان العدالة هي الاساس والتي تصدر عادة بقرار من احد عشر قاضيا مختلفي اللون والجنس.

اختتمنا هذه الجوله بطي يوم اخر من ايام هذه الزيارة لنكون على وعد بلقاء مع مجموعة من الامهات واللواتي كن ضحايا نظام الابرتهايد في قرية مامالودي (أم الموسيقى). هؤلاء النسوة ممن فقدن ابناءهن قتلا او خطفا واكثرهن لا يعرفن حتى اليوم مصير هؤلاء الابناء.

الواقع انه من الصعب ان نجد الكلمات مهما فتشنا في رحم اللغة للتعبير عن معاناة هؤلاء الامهات. ما استطيع قوله هو انه وبعد وصولنا وسرد حكايا المعاناة من كلا الطرفين شعرنا من اللحظة الاولى اننا نشبههن واننا صورة طبق الاصل عنهن، وان جسرا يمتد بين جراحنا وجراحهن.

حقيقة لا بد الا ان ننوه اليها واجزم ان ما من شخص التقيناه الا ولاحظنا في وجهه عزم وفي وجهه إصرار. كلها وجوه تفوح منها رائحة الفخر بتاريخهم ونضالهم. وجوه متألقة مثل نجوم غسلها المطر. فهي تثير الإعجاب أكثر مما تثير الشفقة في النفوس. نعم وجوه لشعب رايناها متألقة. رفض أن يكون عبدا لسلطة بيضاء بل عبدا لقضيته هو. لقد ضاق الوقت كثيرا ولم نستطع ان نلتقي باكثر مما التقيناهم. لكننا استطعنا أن نتمعن في عيون الكثيرين التي بدت مستودعا لآلام ومجازر ارتكبت بحق هذا الشعب.

نعم هذا هو الجزء الاول لهذه الزيارة والتي حاولنا خلال هذه الايام ان نجيد قراءة كل شيء. الا انه لا يمكن تجاهل امر هام وهو ان العين في بلاد الغربة كثيرا ما تكون انتقائية، وغالبا ما تتأجج مشاعر الحسد والغيرة. حيث تلتهب غريزة المقارنة وكل حاضر يذكرك بالغائب وكل حركة تصير ذات مدلول. وقد كان هذا الشعور في اوجه عند دخولنا الى متحف الذاكرة في مدينة سويتو الذي يوثق بالصوت والصورة كل معاناة هذا الشعب وحالات التمييز والاضطهاد في فترة الابرتهايد وانتفاضة سويتو في 16 يونيو 1976. لان هذا الشعب اصر ان يوثق ورفض ان تصاب اجيالهم الشابة بفقدان الذاكرة، كما واصروا ان يكونوا اوفياء لها. لقد خرجنا من هناك نحني رؤوسنا لهذا الشعب وفي نفوسنا حسرة وفي قلوبنا خوف على ذاكرتنا من العطب وعلى تاريخنا من التشويه.

اما اليوم الرابع فكان استثنائيا بلقاء شخصية استثناثية وذالك في مبنى البرلمان في مدينة كيب تاون (راس الرجاء الصالح ). وهي نائب رئيس برلمان جنوب أفريقيا السيدة ماهالانغو ناكابيند، حيث رحبت بدورها معتذرة عن عدم وجود الرئيس لخروج البرلمان في عطلة لاقتراب يوم الاستقلال. الجلسة كانت حميمية وتوجتها بجملة رائعة حيث قالت لنا: ان استقلالنا منقوص لان فلسطين غير مستقلة, وجرحنا مفتوح ما دام الجرح الفلسطيني مفتوحا. ونحن نود ان نرى ذوي الشهداء معنا في هذا المبنى ليلتقوا بالجميع هنا وامل ان يكون قريبا. ونعدكم ان نكون لكم البيت الدافئ.

هكذا انتهى الدرس الاول من المرافعة الدولية حيث اختتمناه بزيارة لمركز القضاء الاسلامي الاعلى في مدينة كيب تاون والذي ابدى استعدادا كسابقيه للالتصاق بقضيتنا وتحديدا قضية الشهداء.

بضعة ايام قضيناها نحن أعضاء الوفد لنخرج بقناعة اكثر من ذي قبل انه الاجدر بنا ان نتخذ هذا الشعب نموذجا كخيار لنا في مسيرتنا. لان التاريخ لم يترك لنا خيارا آخر. لان الصمت على الظلم هو وثيقة ادانة ضدنا. ومن هناك اعلنا اننا سنكون دائما وابدا حاضرين. نأبى السقوط والاستسلام، وستظل العدالة وحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق بالحياة والحق بالعيش بكرامة ومساواة، بالنسبة لنا حلما نطارده.

التعليقات