مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة*../ عوض عبد الفتاح

-

مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة*../ عوض عبد الفتاح
هل كان يمكن لأحد، من رواد الثورة الفلسطينية المعاصرة، وحركة النضال الوطني التحرري العربي، أن يتخيّل أنه بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على إنطلاق هذه الثورة، وعدة عقود من النضال والتضحيات الهائلة، تتحول من حركة لإعادة نصف الشعب الفلسطيني المهجر إلى وطنه وهزم الصهيونية، إلى سلطة مرتبط بقاؤها بالتسوّل من حلفاء اسرائيل، وبالتنسيق الأمني مع الإحتلال.

هل كان يمكن لأيّ منا أن يتخيل أن يتحول شعار تحرير فلسطين، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة للجميع، عبر النضال والمقاومة، إلى مطلب دولة على أقل من 22% من الوطن، والإستعداد للمساومة على حق اللاجئين وإخراج فلسطيـنيّي الـ48 من دائرة الحلّ، على يد سلطة أو نخبة من قادة الثورة لا تألو جهدًا من أجل تجنب خوض الصراع مع الإحتلال بل تمنع من يحاول ذلك وتقمعه، وتستبدل ذلك بالمفاوضات العبثية كطريق وحيد في ظل ميزان قوى مختل لصالح العدو.

نحن اليوم نشهد النتائج المأساوية لنهج غريب عن حركات المقاومة. عالم كامل من الثقافة والقيم، والسلوكيات، والرؤى كونته نخب مكافحة وقوافل من المناضلين، وجموع من الشهداء، ينهار أمام أعيننا.. ماكنة إعلامية ضخمة، مسنودة من الداخل والخارج، وبدعم مالي وسياسي كبير، تعمل ليل نهار من أجل أن لا يكون هذا التراجع أو الإنهيار مؤقتًا، بل من أجل أن يصبح راسخًا، وجزءًا عضويًا من مشهد التضليل والنفاق العالمي، وأن يطوق ويحتوي إرهاصات لظاهرة مقاومة عربية (لبنان،العراق) بدت مرشحة لإيقاف التدهور العربي وفرملة ترويض الذهنية العربية.

في فلسطين، وعلى خلفية هذه الإنهيارات والإخفاقات والتي أصابت أوساط اليسار والتيار الديمقراطي، نهضت حركة فلسطينية، ذات أيدلوجية دينية إسلامية، تحركت من خانة الدعوة لأسلمة المجتمع إلى خانة النضال ضد الإحتلال تحت ضغط حركات المقاومة الوطنية-العلمانية. وتحولت منذ الإنتفاضة الأولى – إنتفاضة الحجارة إلى عنصر أساسي في المقاومة الشعبية، وحظيت بالإعتراف الفصائلي والشعبي.

طـُويت صفحة الإتهامات (وهي صحيحة) التي كانت توجه إليها باعتبار أن الإحتلال غضّ النظر عنها بل سمح لها بأن تنمو وتكبر منذ نهاية السبعينيات لتواجه حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة، بل رائدة المقاومة، وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترى فيها إسرائيل "منظمة إرهابية" يعاقب من يتعامل معها بالسجن أو القتل أو الملاحقة. بل كل من كان يُضبط وهو يرسم اختصارها بالإنجليزية PLO على الجدران كان يتعرض للسجن.

وللمفارقة فإن من علامات المشهد الراهن أن هذه المنظمة التي كانت تقضّ مضاجع إسرائيل والصهيونية وبعد إتفاقية أوسلو تحولت إلى منظمة معترف بها إسرائيليًا ودوليًا بعد أن تمّ إفراغها من مضمونها الكفاحي والأخلاقي. وقد شطبت بنود أساسية من الميثاق الوطني، ميثاق منظمة التحرير، في مؤتمر للمجلس الوطني في قطاع غزة بحضور الرئيس الأمريكي السابق بل كلنتون عام 1994. أما حركة حماس، المتهمة بتشجيع اسرائيل لها أيام العمل الدعوي المعزول عن مقاومة الإحتلال، فقد أخذت مكان منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المقاتلة. وأصبحت العدو اللدود لإسرائيل التي قتلت واغتالت العشرات من قادتها في العقدين الأخيرين.

لم يأت ظهور حركة المقاومة الإسلامية إلى ساحة الصدام مع المشروع الكولونيالي الصهيوني من فراغ. فقد شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية تجليات أو مراحل ثلاث منذ الخمسينيات؛ القومية العربية (حركة القوميين العرب) التي ارتبطت رؤيتها بالتحالف مع طلائع الأمة العربية باعتبار أن قضية فلسطين هي قضيّة عربيّة والصراع هو عربي-صهيوني، وليس فلسطيني صهيوني. والشكل الثاني، الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة فتح وبقية منظمات المقاومة التي أخذت زمام المبادرة من الأنظمة العربية خاصة بعد فشلها في تحقيق التحرير. الشكل الثالث، الوطنية الدينية-الإسلامية بقيادة حركة حماس.

ويلاحظ دارسو المسيرة الفلسطينية أن الفارق الزمني بين هذه التجليات أو التمظهرات للوطنية الفلسطينية هو عشرين عاما، وأن كل مرحلة من هذه المراحل تعود إلى إخفاق المرحلة السابقة في تحقيق الهدف. كما أنهم لاحظوا أن كل طرف كان يبدأ بالهدف الأقصى – تحرير فلسطين – ثم ينتهي إلى دولة في الضفة والقطاع.

كانت إتفاقية أوسلو عام 1993 تعبيرًا عن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية والطريق المسدود التي وصلت إليه لظروف دولية وعربية بائسة، ولأسباب ذاتية تتعلق بكيفية إدارة الثورة والمقاومة. وعلى عكس تطلعات الموقعين على الإتفاقية من الفلسطينيين، فقد أكّدت الفترة اللاحقة الأهداف الحقيقية لإسرائيل ألا وهي تثبيت المشروع الكولونيالي في الضفة والقدس وتصفية القضية الفلسطينية وجوهرها – قضية اللاجئين. كما كشفت في الوقت ذاته عدم نضج النخب الفلسطينية الموافقة والمؤيدة لاتفاقية أوسلو لإنتاج نظام سياسي مختلف عن الأنظمة العربية – سواء من ناحية بناء المؤسسات أو من ناحية التعامل مع قضايا الناس.

وقد كان إعادة إنتاج نظام عربي فاسد أحد دوافع النقمة الشعبية على السلطة وتفجير الإنتفاضة الثانية. وقد تكونت شرائح في السلطة وأوساط مرتبطة بها، والتي أصبح لها ارتباطات مصلحية مع الإحتلال. كل ذلك قاد إلى خلق وعي مصلحي داخل السلطة لدرجة أن بعض رموز هذه الأوساط، خططت وظلت تتآمر على الرئيس ياسر عرفات، حتى بعد ارتكابه خطأ أو خطيئة أوسلو، بسبب رفضه العروض الأمريكية وبسبب استمرار تمسكه بورقة المقاومة فضلاً عن تمسكه بورقة المفاوضات. وهذا الفرق هو مهم بين عرفات وبين القيادة التي خلفته بضغط أمريكي، والتي يتسم نهجها برفض خوض الصراع ضد الإحتلال، والإكتفاء بالتفاوض العبثي، الذي تحول إلى تمارين فكرية مع قادة الإحتلال. لقد عوقب الشهيد ياسر عرفات بالإغتيال بالسمّ بسبب هذا الفرق على مستوى التعامل مع إسرائيل.
لقد عارضت معظم الفصائل الفلسطينية اتفاقية أوسلو، ورفضت المشاركة في الإنتخابات للمجلس التشريعي عام 1994. ولكن المعارضة الفعلية صدرت عن حركة حماس. وقد لجأت الحركة إلى العمليات الإنتحارية بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي، وهي العمليات التي أثارت جدلاً على الساحة الفلسطينية حول توقيتها وجدواها.

وقد جوبهت المعارضة الحمساوية وعملياتها ضد إسرائيل بملاحقة من السلطة الفلسطينية، وزج العديد من قادتها في السجون عملاً بروح اتفاقية أوسلو التي تنصّلت من العنف، أي المقاومة، كوسيلة لتحقيق الأهداف الفلسطينية. ولكن ياسر عرفات استطاع أن يحافظ على مستوى من العلاقة مع قيادة حماس، ولم يسعَ إلى كسر شوكتها. ربما كان يحتاجها للضغط على إسرائيل من أجل دفعها لتنفيذ بنود إتفاقية أوسلو.

غير أن الإنتفاضة الفلسطينية الثانية وطابعها المسلح وعدم الإستعداد لها مسبقًا، وغياب الإستراتيجية الواضحة، الميدانية والسياسية – أدخلت الساحة الفلسطينية والعلاقة مع الإحتلال إلى حالة جديدة. لا شك أن العمليات ضد إسرائيل وداخلها آلمت اسرائيل وألحقت بها أضرارًا بشرية ومادية غير مسبوقة خاصة في السنوات الثلاث الأولى بعد الـ2000. ولكن الردّ الإسرائيلي كان قاسيًا وغير متناسب، مما دفع البعض إلى نقد هذه العمليات من زاوية الجدوى والبعض الآخر من الزاوية الإنسانية.

ويمكن القول إن الإنتفاضة الثانية أعادت الإعتبار للسلطة الفلسطينية – إذ أعادت صورة الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة، وخاصة حركة فتح - حزب السلطة، التي بدت للخارج قبل ذلك وكأنها تتعاون مع الإحتلال، إلى صورة حركة تجابه الإحتلال ودباباته وجنوده بطريقة بطولية في بقعة جغرافية صغيرة. وقد زُجّ الآلاف من عناصر حركة فتح في السجون الإسرائيلية.

ولكن غياب الإستراتيجية الفلسطينية الموحدة، وغياب التوافق والتنسيق داخل الحركة الوطنية خاصة بين السلطة وحماس أضاع فرصا كبيرة وتاريخية لاستثمار الإنتفاضة بصورة أفضل. إن الدخول في عملية كسر عظم مع الإحتلال كان خاطئًا. أولاً لأنه لا يجوز أن يظهر الفلسطينيون وكأنهم دولة يجابهون دولة، وثانيًا كان خطأ تحييد الجماهير الشعبية عن المقاومة، فاقتصرت المقاومة على أفراد فدائيين ضحوا بأنفسهم نيابة عن جموع الشعب، مما ساعد الإحتلال على استئصال غالبية القيادات من مختلف الدرجات، إما بالإغتيال أو بالإعتقال.
لم تنمُ حركة حماس إلا على خلفية الإخفاقات لمنظمة التحرير، والتيار الوطني القومي عمومًا. وقد اكتسبت شعبيتها لأسباب أهمها: عملها الدعوي والإجتماعي والتحاقها بالمقاومة ضد الإحتلال، وكونها لم تكن مشاركة في السلطة التي غرقت بالفساد.

وبغض النظر عن الموافقة أو الإختلاف على أيدلوجيتها، وعلى تكتيكاتها، فإن نموّ قوّتها وفعاليتها فرمل عملية التطبيع مع الإحتلال التي كانت تتخذ مسارًا تصاعديًا. ولكن حماس نشأت كحركة دينية وخارج الوطنية الفلسطينية التقليدية المعروفة بمفاهيمها ومفرداتها السياسية والمدنيّة. كان الجهاد ببعده الإسلامي-الأممي هو الطاغي على خطابها. وكانت تتعامل مع فلسطين بلغة دينية – كوقف إسلامي وغيره.

لقد بدأت حماس تغيّر من مقاربتها لهذا الإختلاف أو التمايز بينها وبين الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أوائل التسعينيات. إذ لم تعد قادرة على تجاهل الوطنية الفلسطينية ومفرداتها والتجربة الفلسطينية التاريخية. ولاحقًا شعرت أنها كمقاومة تدفع الثمن الكبير، وهي غير مشاركة في القرار الفلسطيني الرسمي. فكان لسان حالها يقول نحن نستشهد وهم، أي السلطة، يستحوذون على القرار.

يتجاهل البعض أن حماس مرّت بتحولات على مستوى الخطاب السياسي في العقد الأخير، وأصبحت أكثر براغماتية. كما أصبحت تعتمد مصطلحات سياسية مدنية – وقد يكون قبول فكرة الدولة في الضفة والقطاع المعلم الرئيسي لهذا التحول، بغض النظر عن كيفية وصفه – تراجع أو عقلانية. جرى ذلك ربما لأسباب تتعلق بطبيعة نهج حركة الإخوان، أو تحت ضغط الواقع وحاجات الناس اليومية، ومؤخرًا تكيفًا مع الظروف الدولية ومتطلبات إدارة الصراع مع الإحتلال ومواجهة المجتمع الدولي (أمريكا وأوروبا).

ولكن المأزق الكبير الذي دخلته حماس هو قبولها دخول السلطة؛ والأمر الذي يتناقض مع حركة مقاومة؛ فكيف يمكن التوفيق بين سلطة ومقاومة عسكرية – خاصة وأن هذه السلطة مرتبطة باتفاقات أوسلو مع إسرائيل! ولذلك هناك من يرى أن دخول السلطة كان خطأً فادحًا من جانب حماس وكان عليها أن تكتفي بالدخول إلى المجلس التشريعي، وتظل معارضة تراقب أداء السلطة. ولكن تبين أن الفوز كان مفاجئًا لها، ولم تكن مهيئة للدخول إلى نظام سياسي كانت تشكك فيه، وتناصبه العداء وتعتبره من إفرازات أوسلو.

ونظرًا لعدم الإعتراف الدولي (الغربي) بنتائج الإنتخابات، ومن جانب الإحتلال، والحصار الذي فـُرض على حكومة حماس، وبعد مفاوضات سياسية مع قيادات حركة فتح حول كيفية تشكيل الحكومة وحول برنامجها السياسي، والمحاولات التي جرت بضغط من الخارج لإجبارها على الإعتراف بإسرائيل وبالإتفاقات الموقعة مع إسرائيل، أدركت حماس المأزق الذي أدخلت نفسها فيه، إذ أنها اضطرت أن تقدم تنازلات سياسية (اتفاق مكة) لتبقى في السلطة.

وهنا من الخطأ أن يُعرض مأزق حماس وكأنه نابع فقط من كونها تريد أن تكون في السلطة، وأن برنامجها المقاوم ليس إلا وسيلة الوصول إلى هذه السلطة.. وكما قال أحد زعماء حركة فتح؛ "إن حماس كانت أسرع من فتح في مسيرة التدهور على المستوى السياسي وعلى مستوى إدارة الحكم".

إن الموضوعية تقتضي أن نرى أن الخلاف بين حركة المقاومة حماس مع قيادة السلطة الفلسطينية ليس فقط أيديولوجيا واستراتيجيا بل إن الخلاف تكتيكي ومبدئي أيضا يلتقي مع الخلاف بين موقف فصائل يسارية في منظمة التحرير الفلسطينية وموقف ونهج السلطة الفلسطينية المتعلق بطريقة التفاوض وإدارة الصراع مع إسرائيل.

بطبيعة الحال هذا لا يعني أن الصراع المسلح الذي خاضته حركة حماس ضد إسرائيل كان يخضع لاستراتيجية سليمة ولترشيد يأخذ بالحسبان ميزان القوى وتوقع حجم الردّ الإسرائيلي على نوع معين من العمليات، خاصة تلك الموجهة للمدنيين. ولكن المشكلة الأكبر هي لدى السلطة الفلسطينية، برئيسها وفريقه المساعد والموجّه، والتي بدت وكأنها أخذت قرارًا إستراتيجيًا بالإنسحاب من الصراع.. ليس بشكله المسلح فحسب، بل حتى في شكله الشعبي السلمي – على نمط الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي انفجرت في أواخر عام 1987. والأخطر هو تعاونها وتنسيقها الأمني المنهجي مع قوات الإحتلال لفرض الأمن في الضفة الغربية، أي قمع المقاومة. وهذا ليس خطأ بل خطيئة.

ومع تصاعد حدة الخلاف الداخلي، داخل الحركة الوطنية الفلسطينية وبعد حصول الحسم العسكري في قطاع غزة وهو خطأ استراتيجي، ازداد التدخل الخارجي، وبشكل خاص الأمريكي الذي كان يهدف إلى إغواء القيادات الفلسطينية بالتشبث بالسلطة وبالمفاوضات، وبنفس الوقت بقبول إعادة بناء الأجهزة الأمنية للحفاظ على الأمن الداخلي والأمن الإسرائيلي وقمع كل من يعكـّر صفو هذا الأمن. كل ذلك مقابل وعود أمريكية بالضغط على إسرائيل ولإقامة الدولة الفلسطينية التي لم تحدد ماهيتها أو حدودها أو فضاؤها.
من الواضح أن خيار التسوية والمفاوضات في ظل ميزان القوى الحالي، والمجردة من ورقة المقاومة أو من أي خيار سياسي آخر، وصل إلى طريق مسدود. وقد فاقم هذا المأزق أو جعله أكثر وضوحًا وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتانياهو. كما أن خيار المقاومة أو خيار الجمع بين المقاومة والسلطة أيضًا وصل إلى طريق مسدود بسبب غياب الإستراتيجية الموحدة.

إذًا، إذا تتبعنا مسار الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقها نرى التدرج في التراجعات المستمرة، من شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وعودة اللاجئين، إلى الدولة العلمانية الديمقراطية على كل فلسطين، إلى الدولة المرحلية عام 1974، إلى حل الدولتين أو "دولتان لشعبين" (وهو يختلف عن حل الدولة المرحلية كونه يعني الإعتراف باسرائيل وضمنًا بيهوديتها)، إلى سلطة الحكم الذاتي – حسب اتفاقية أوسلو الذي اعترف بإسرائيل وضمنًا بيهوديتها، والآن سلطة في قطاع غزة وسلطة في رام الله – كيانان فلسطينيان متنازعان على سلطة تحت الإحتلال.

ولا بدّ أن نرى التراجع الآخر المرافق؛ تحول قضية فلسطين من قضية عربية باعتبار أنها بلد عربي محتل يقتضي تحريره، إلى قضية نزاع على حدود.. ومن قضية صراع عربي – صهيوني إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي.. ومن الإستعانة والإستناد إلى الدعم العربي الشعبي والرسمي وقوى التحرر والديمقراطية في العالم، إلى الإستعانة والتعويل على ما يسمى بالمجتمع الدولي – والأصح على حليف إسرائيلي الرئيسي – أمريكا. والأسوأ تحول سلطة أوسلو، وهذه نتيجة منطقية لهذا المسار، إلى سلطة يعتمد بقاؤها ووجودها على معونات الدول المانحة أو على التسوّل، وعلى خضوعها لشروط لعبة هذه الدول القائمة المستندة إلى ميزان القوى القائم كمرجعية للمفاوضات الجارية منذ أوسلو. وهي مرجعية بديلة عن القرارات الدولية التي نصت على ان الإحتلال عام 67 غير شرعي، والمستوطنات غير شرعية.

هذا المسار التفاوضي منذ أوسلو، يجري إسميًا تحت شعار "الدولتين"، وبعضهم يُحبّ أن يقول "دولتان لشعبين" مع كل ما يعني ذلك من تكريس للطابع العنصري لإسرائيل واستثناء أكثر من نصف الشعب الفلسطيني من الحل – وهم اللاجئيون وعرب 48.

فما هو مصير شعار الدولة المرحلية، أو شعار الدولتين أو شعار "دولتان لشعبين" بعد عشرين عامًا من التفاوض على هذا الخيار. وهل أصلاً كان هذا الخيار صحيحًا، وهل عدم تحققه كان فقط لعدم صحته أو واقعيته، أم لأنه افتقد استراتيجية العمل الملائمة.

ربما كانت هذه الصيغة واقعية قبل عقود، أو على أثر احتلال إسرائيل للضفة والقطاع لو كان هناك تخطيط سليم لاستراتيجيات النضال. ولكن الوقائع الإستيطانية الضخمة التي تسارعت على الأرض دون توقف تجعل هذا الحل يبدو اليوم أمام الكثيرين غير واقعي حتى لدى بعض من تبنوا حل الدولتين. بل يظهر أنه لا يقل طوباوية عن حل الدولة الواحدة.

إن النخبة الفلسطينية التي أدارت المفاوضات أو قادت هذا المسار لم تدرك حقيقة المشروع الإسرائيلي أو الحل الصهيوني النهائي. ففي الوقت الذي كانت إسرائيل تفاوض الفلسطينيين على الحل، كانت إسرائيل تصوغ حلاً آخر كليًا على الأرض، ينسجم مع الرؤية الصهيونية مع تعديلات غير جوهرية عليها. إن اتفاقية أوسلو بالنسبة لإسرائيل لم تكن مؤقتة كما كانت بالنسبة لقيادة منظمة التحرير. لقد كانت هي الحل النهائي. وإلا فلماذا تواصل الإستيطان وتضاعف في السنوات الخمس الأولى بعدها؟

وما يجري على الأرض هو الحل النهائي الصهيوني – تثبيت الكتل الإستيطانية الكبيرة، وتهويد القدس، وإقامة معازل، والجدار العنصري الفاصل لفرض القبول بصيغة تتراوح بين حكم ذاتي ودولة منقوصة السيادة ومجزأة ومقطعة الأوصال – باختصار ليست دولة.

إن الرؤية الصهيونية تقوم على أساس أن كل فلسطين هي أرض يهودية، والمشكلة التي تحتاج إلى حلّ هي الكم العربي فيها الذي يمكن بفضل تكاثره أن يخلق أو يؤدي إلى حالة من الإختلال الديمغرافي الذي من شأنه الإطاحة بالطابع اليهودي للدولة.. وربما بالدولة كلها. طبعًا عودة اللاجئين إلى الدولة غير واردة إطلاقًا.

إن مشكلة منح المواطنة أو عدم منحها للسكان الفلسطينيين الباقين هي المعضلة التي تسعى إسرائيل إلى حلها منذ اتفاقية أوسلو. الأمر الذي يجعل الحكم الذاتي الموسّع هو الشكل الأقصى لسلطة فلسطينية في إطار دولة يهودية تسيطر على كل فلسطين – ما دام الفصل مستحيلاً بسبب الإستيطان.

هكذا أصبحت الدولة الفلسطينية الإفتراضية جزءًا من جسم الدولة اليهودية، ويمكن القول أن هذه الدولة ابتعلتها وقطعتها في أمعائها. هذه النتيجة هي التي أسست لطرح فكرة الدولة الواحدة، وبالتحديد ثنائية القومية عند عدد من المثقفين اليهود ممن كانوا يعتبرون يسارا صهيونيا، ودولة ديمقراطية علمانية وأيضًا ثنائية القومية عند أوساط أكاديمية ومثقفة فلسطينية.

إذن، فكرة الدولة الواحدة، على اختلاف مضامينها أو طبيعتها؛ ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية علمانية تقوم على المواطنة الفردية أو دولة كونفدرالية، تعود بقوة وبصورة منهجية إلى طاولة النقاش الأكاديمي بشكل خاص، ولا نقول إلى ساحة النضال. وبدأ التعامل مع الفكرة من جانب الفئات المثقفة يتخذ شكلاً جديًا من حيث التحليل والدخول في المبررات والتسويغات وفي المضامين أيضًا وكيفية تحقيقها.

ويُمكن ملاحظة التحول المتزايد بين النشطاء اليهود (إسرائيليين وغير إسرائيليين)، باتجاه الحديث عن مستقبل مختلف للفلسطينيين واليهود: دولة ديمقراطية واحدة للجميع.

فالكاتب اليهودي المعروف والمحاضر في جامعة نيويورك، توني جات، عبّر عن هذا التحول في مقال أثار ضجة وهجمة عنيفة من جانب مناصري اسرائيل واللوبي الصهيوني متهمين إياه باللاسامية وذلك عام 2003، قال فيه "لقد حان الوقت للتفكير فيما لم يكن بالإمكان التفكير به". وأضاف: "نحن نقوم بتأجيل الخيار الأصعب الحتمي، فقط، أقصى اليمين وأقصى اليسار يعترفان أن الخيار هو بين إسرائيل الكبرى المطهرة عرقيًَا أو دولة واحدة للجميع".

أما الناشط اليساري حاييم هنغبي، الذي أيّد إتفاقية أوسلو وتراجع عنها بعد سقوط الأوهام؛ واليوم يؤيّد دولة واحدة يقول: "بدل أن يؤدي الصراع إلى خلق نظام أخلاقي وتفكير عقلاني فقد جعلهم مدمنين على استعمال القوة ولكن هذه القوة استنفذت نفسها. إذا استمرت اسرائيل كدولة كولونيالية فلن تعيش. في نهاية المطاف فإن المنطقة ستكون أقوى منها، وفي النهاية سيكون أصحاب الأرض الأصليون أقوى من إسرائيل. أولئك الذين يعيشون بالسيف سيموتون بالسيف".

وهناك الأسماء المعروفة، المؤيدة لهذه الفكرة، إيلان بابي، الأستاذ المطرود من جامعة حيفا بسبب مواقفه الجريئة، د. أمنون راز كركوتسكين، أورن يفتحئيل، من جامعة بئر السبع، ميرون بنفنستي، نائب رئيس بلدية القدس في سنوات الثمانينيات، وحاييم بريشيت من جامعة لندن وغيرهم. غير أن هذه الفكرة سواء بين اليهود أو بين الفلسطينيين لا تزال محصورة بين نخبه، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية الفكرة، خاصة أن من هؤلاء ايضًا من كان ولا زال مناضلاً وليس فقط باحثًا أو أستاذًا جامعيًا.
من أين يستمد المنادون بصيغة الدولة الواحدة موقفهم؟ ومن أين يأتي هذا الدفع المتزايد لهذه الصيغة التي كاد يطويها النسيان والتآكل تحت الضغوط والسياسات الإستعمارية التي تمارس ضد أصحاب القضية، بهدف الحفاظ على الصهيونية كرأس حربة لمشروع الهيمنة وتكريس تجزئة المنطقة العربية؟

للفكرة أو لصيغة الدولة الواحدة خلفية تاريخية وأخلاقية باعتبار أن فلسطين كانت دولة عربية قبل الغزو الإستعماري والصهيوني للمنطقة. وظل العنصر العربي هو الغالب على فلسطين حتى عشية النكبة، أي قبل تنفيذ جريمة الطرد الجماعي.

وقد كان مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة يتمثل في تحرير فلسطين من الإستعمار البريطاني ومقاومة تحويل فلسطين إلى دولة يهودية صهيونية. وكان يعني تحرير فلسطين إقامة دولة فلسطينية على غرار دول سوريا ولبنان والعراق والأردن وغيرها من الدول العربية.. وبالتالي فإن كل السكان على تنوع إنتماءاتهم الدينية والإثنية هم مواطنون في هذه الدولة. لم يُطرح آنذاك مضمون الدولة على اعتبار أن الواقع الديمغرافي اليهودي لم يكن قد وصل إلى الحدّ الذي أصبح فيه كبيرًا ومعاديًا للوجود العربي.

غير أن الواقع الديمغرافي اليهودي الذي أفرزه المشروع الكولونيالي الصهيوني-الغربي أصبح من الصعب تجاهله أو التعامل معه بأسلوب الإقتلاع. ومع نهوض وتطور الحركة الفلسطينية بعد النكبة، تنظيميًا وسياسيًا وفكريًا، طُرحت فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية ذات البعد الإنساني ليعيش الجميع بمساواة تامة. وإن ظلت شعاراً غير واضحٍ.

كما أنه في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ومع تصاعد الصراع الدامي في فلسطين، ظهرت أصوات يهودية – صهيونية تنادي بالدولة الواحدة – حرصًا على الوجود اليهودي في فلسطين. مثل، رئيس الجامعة العبرية يهودا ماغبس، والمفكر مارتن بوبر، وحانا أرنت، وغيرهم. كما أسمعت هذا الصوت هيئة عربية يهودية عرفت برابطة التقارب العربي-اليهودي.

وفي داخل إسرائيل، ومنذ سنوات الستينيات تبنت هذه الصيغة وإن بمضامين مختلفة، حركة يهودية-عربية يسارية-اشتراكية هي "ماتسبين" (بوصلة)، أما بين الفلسطينيين في الداخل فقد تبنت حركة أبناء البلد التي ظهرت عام 1969 شعار منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ألا وهو شعار الدولة العلمانية الديمقراطية، وظلت تنادي به حتى بعد أن قامت المنظمة بتبني الحلّ المرحلي. ولكن هذه الحركة التي لعبت دورًا هامًا في الحركة الطلابية الفلسطينية في الجامعات الإسرائيلية لم تتمكن من التحول إلى حركة سياسية جماهيرية لأسباب شتى، وكانت نقطة التحول في تاريخها هو مشاركتها ومساهمتها بصورة رئيسية في تأسيس تيار وطني ديمقراطي يقوم على برنامج ينادي بتحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين وإلغاء طابعها الصهيوني، والذي كان للدكتور عزمي بشارة الدور الرائد في بلورته كمشروع اعتراضي على المشروع الصهيوني. ومن أجل النضال في سبيل الحقوق المدنية والقومية لعرب الداخل.
تستمد فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، من مصادر عدة؛ تاريخية خاصة بفلسطين، كما ذكرنا آنفًا، ولكن منذ أواخر التسعينيات أصبح النموذج الجنوب أفريقي، المتمثل بإسقاط نظام الأبرتهايد عبر مواجهته بنظام أخلاقي وإنساني بديل عام 1994، النموذج المهلم للعديد ممن يناضلون ضد العنصرية والإحتلال الكولونيالي في العالم.

خاض الأفريقيون نضالهم، ببرنامج واضح، بعزم وإصرار على تحقيق مشروعهم، الذي اعتبره الكثيرون طوباويا وغير قابل للتحقيق حتى اللحظات الأخيرة من انهياره.

لم يقم النموذج الإفريقي على الإنفصال أو التقسيم، بل اختار الجنوب أفريقيون منذ البداية، النموذج الديمقراطي في وطن واحد وعلى أساس المواطنة الفردية المتساوية الكاملة one man one vote .

يجادل البعض في أن الحالة الجنوب أفريقية تختلف اختلافًا جوهريًا عن حالة الصراع في فلسطين. ناهيك عن رفض الصهاينة هذه المقارنة جملة وتفصيلاً، بل يُجنّ جنونهم عند سماع هذه المقارنة. ولكن في قرارة نفسهم يعرفون أوجه الشبه الكبيرة، ويدركون الخطورة المترتبة على عقد المقارنة والإنتقال إلى خطوات فعلية.

ينطلق الصهاينة في رفضهم لمشروع الدولة من عقيدتهم أنهم عادوا إلى أرض لهم، ليجدّدوا مشروعهم أو نهضتهم "المنقرضة" قبل ألفي عامل، من باب أنهم ليسوا حركة استعمارية، بل حركة تحررية تنويرية. وهي نفس الرسالة تقريبًا التي ادعاها جميع المستعمرين. الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية عنصرية، والدليل أيضًا أن قادتها الأوائل فكروا بغزو بلاد غير فلسطين، مثل الأرجنتين وأوغندا.

صحيح أن من دوافع هجرة اليهود إلى فلسطين، تمثلت في الملاحقة و"اللاسامية" التي عانى منها اليهود في أوروبا الشرقية، وخاصة في روسيا القيصرية. وأن فكرة القومية الصهيونية جاءت في سياق ما عرف بربيع الشعوب أي حقبة تشكل القوميات والدول الوطنية في أوروبا في القرن التاسع عشر، ولكن لا يمكن إنكار الحقيقة التاريخية أن ممارسات الحركة الصهيونية في فلسطين هي من أسوأ أشكال الإستعمار، وهي أسوأ بكثير من نظام الأبارتهايد العنصري البائد في جنوب أفريقيا. لأن النظام الصهيوني في فلسطين قام نظريًا وفعليًا على الإستئصال، إستئصال السكان الأصليين. وكان ذلك حتميًا، لأنه لم يكن بالإمكان إقامة دولة يهودية في بلد عربي يسكنه أكثر من 95% عرب – فلسطينيون بدون تنفيذ جريمة التطهير العرقي.

إذًا كان الصهاينة مسلحين منذ البداية بنظرية وأيدلوجية استعمارية وعرقية، أرادوا دولة يهودية، وشرعوا بتنفيذها فور قدومهم إلى البلاد تحت حماية الإستعمار البريطاني. وعندما تمكنوا وبنوا "الجدار الحديدي" (القوة العسكرية) الذي تحدث عنه زعيم التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية، زئيف جابتنسكي، فرضوا مشروعهم بالحديد والنار ومن خلال طرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني.

أما في جنوب أفريقيا، فإن نظام الفصل العنصري فقد تطور في مجرى السيطرة وبالتدريج، ولم يكن في برنامجه استئصال سكان البلاد الأصليين، إنما الفصل والإعتماد عليهم واستغلالهم كقوة عمل رخيصة. نفذ النظام العنصري عملية إخلاء للسود من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى أخرى، وأيضًا نظام عزل منهجي، ولكن كل ذلك حصل داخل الوطن.

أما على صعيد النقاش حول إمكانية إسقاط نظام الأبارتهايد الصهيوني-الكولونيالي بناءً على تجربة سقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا فتستحضر العوامل التالية، إما من جانب الرافضين للمقارنة والمتمسكين بالدولتين وهدفهم استبعاد هذا النموذج، أو من جانب المنادين بالدولة الواحدة وهدفهم تشخيص المعيقات للتغلب عليها.

أولاً: إفتقار نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا للعنصر التراجيدي أو الدرامي الذي استفادت منه الصهيونية- المقصود؛ المحرقة النازية وعقدة مطاردة اليهود، بما معناه افتقر إلى تعاطف لوبي يهودي أو غيره الذي يستطيع التأثير في السياسة الخارجية لدول أمريكا وأوروبا.

ثانيًا: لم يكن لدى البيض ثقافة الشعب المختار على الرغم من السياسة العنصرية التي مارسوها على مدى قرون وعلى الرغم من المحاولات الفاشلة من جانب رجال دين لإضفاء الشرعية الدينية على نظام الأبارتهايد.

في حين أن الصهيونية تقوم جزئيًا على فكرة الدين اليهودي – شعب الله المختار – إلا أنها علمنت (من علمانية) هذه الفكرة لإضفاء طابع تنويري على وجودها في "منطقة متخلفة" أي المنطقة العربية التي سيجلبون لها الحضارة.

ثالثًا: لم تطالب غالبية السكان (السود) في جنوب أفريقيا بالإنفصال عنها كدولة وإقامة دولة أخرى، كما لم تطالب بطرد الأقلية البيضاء، فقد كانت المعركة ضد الفصل العنصري.

رابعًا: التحالف الأمريكي – الإسرائيلي الإستراتيجي مع إسرائيل، واعتبار إسرائيل رأس الحربة في مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة. علاقة ثقافية وأيدلوجية بين أمريكا وإسرائيل. في حين أن الدعم لجنوب أفريقيا كانت تستخدم أثناء الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفييتي وحلفائه الذين وقفوا وساندوا الـ ANC في نضاله ضد النظام العنصري. وعندما سقط الإتحاد السوفييتي، لم يعد بإمكان أمريكا ودول الغرب تحمل الإحراج الناجم عن دعم نظام عنصري. وبعد أن توارى "العدو" في الشرق، أمام الرأي العام العالمي، وعندما أصبحت مصالحهم المادية تتعرض للخطر توقف الدعم تحت ضربات الحصار وحملات المقاطعة الواسعة ضد النظام.

لقد حسم حزب ANC، والعديد من فصائل المقاومة في مؤتمر 1955 قراره باتجاه خيار الدولة الواحدة كبديل عن تقسيم البلاد بين البيض والسود. وذلك عبر التوقيع وتبنّي ميثاق الحرية الذي يؤكد على المساواة بين جميع أفراد الوطن بغض النظر عن انتمائهم الإثني أو الديني. وظل المؤتمر وحلفاؤه منسجمين مع هذا التوجه الأخلاقي والمبدئي حتى سقوط النظام العنصري عام 1994.

صحيح أن حزب المؤتمر قدّم تنازلات، أي بدل الإصرار على مطلب حكم الأكثرية السوداء، وافق على تقاسم السلطة مع البيض مع أنهم يشكلون 18% من عموم سكان جنوب أفريقيا، وأن مراكز الإقتصاد الأساسية لا تزال بيد البيض – لأسباب تاريخية وسياسية، الأمر الذي يعتبره البعض أبارتهايد اقتصاديا. ولكن التجربة الجنوب أفريقية لم تمرّ بهذه التقلبات (أو بما يُسمى شعارات المرحلة) التي مرّت بها التجربة الفلسطينية.

وبغض النظر عن أوجه اختلاف هامة بين طبيعة وواقع الصراع والتحالفات الدولية بخصوص جنوب أفريقيا، وطبيعة وواقع الصراع والتحالفات المتصلة بالصراع العربي – الصهيوني، فإن فكرة الدولة الواحدة المشتركة على أساس المواطنة المتساوية، و one man one vote كانت الصيغة الأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي الذي تجنّد لإسقاط النظام عبر فرض الحصار، والمقاطعة وسحب الإستثمارات الخارجية في إطار حركة مقاطعة منظمة عالمية التي تغذت من معين النضال المحلي المنظم والجسور؛ والمتنوع الوسائل؛ من الكفاح المسلح، إلى الإضرابات والمظاهرات، والعصيان المدني الذي شاركت فيه كافة قطاعات الشعب ومنظماته السياسية والمهنية والمدنية.

لقد وصل الوضع بنظام الحكم العنصري إلى نقطة لم يعد قادرًا على الحكم. لا شك أن عوامل أخرى ساعدت، منها نهاية الحرب الباردة وإنهيار الإتحاد السوفييتي.

أما على المستوى البراغماتي، فإن البعض الذي يناقش في ضرورة هجر فكرة الدولتين، ينطلق من الوقائع المادية التي فرضتها إسرائيل، وأنه لم يبق مكانًا لدولة فلسطينية ذات سيادة. ولأن إسرائيل تريد أن تحتفظ بالسيطرة الفعلية على كامل فلسطين – وأن يكون الكيان الفلسطيني – الذي تريده تحت سيطرتها. إسرائيل لا تريد الإنسحاب الكامل من الضفة والقدس، وبطبيعة الحال ترفض عودة اللاجئين، ولا تريد أن يتحول الكيان الإسرائيلي العنصري الذي يبسط سيطرته على كامل الوطن الفلسطيني إلى دولة ديمقراطية، دولة مواطنين لا دولة اليهود.

من هنا ينطلق منطق الداعين إلى تحويل النضال من النضال الوطني التحريري إلى نضال تحرري ديمقراطي – تتحول البلاد إلى وطن لملايين اليهود الإسرائيلييين والعرب كمواطنين متساوين، أو إلى وطن لمجموعتين سكانيتين متمايزتين؛ الشعب الفلسطيني والمجتمع اليهودي الإسرائيلي. إن هذه الفكرة تشبه الفكرة الأخلاقية التي واجهت المؤتمر الوطني الأفريقي على طول الطريق. وهي التي حظيت بدفع وسند شعبي عالمي، بالأساس غربي، لأن المجتمعات الغربية التي تعلن عن نفسها دولاً ديمقراطية من المفترض أن تجد نفسها منسجمة تمامًا مع هذا التوجه. هذا فضلاً عن كونها تشكل عامل إحراج وضغط على الدولة العبرية.. وتجعلها ضعيفة في الدفاع عن مشروعها العنصري أو رفضها المشروع الديمقراطي.

ومن هنا جاءت أقوال أولمرت في معرض دفاعه عن خطة الإنفصال عن قطاع غزة التي قادها شارون:
"لا يوجد وقت غير محدود لدينا. المزيد من الفلسطينيين لم يعودوا معنيين بحل الدولتين. إنهم يريدون تغيير جوهر الصراع من النموذج الجزائري إلى النموذج الجنوب أفريقي من النضال ضد الإحتلال إلى النضال من أجل دولة واحدة. هذا بالطبع نضال أنظف بدرجة كبيرة. بالنسبة لنا هذه نهاية للدولة اليهودية".

إن خوف أولمرت والنخبة الإسرائيلية هو من الإنفضاح الكامل لنظام الأبارتهايد الصهيوني الآخذ في التشكل في الضفة والقدس، والذي بدأ ينتقل إلى داخل الخط الأخضر منذ الإنتفاضة الفلسطينية الثانية. لم يعد سهلاً تسويق إسرائيل كدولة التنوير في الشرق الأوسط، فكيف يطلق على نظام في جنوب أفريقيا يحتكر الإمتيازات والحقوق وحق التصويت اسم نظام فصل عنصري والذي تجنّد العالم كله من أجل إسقاطه، في حين أن نظامًا أسوأ منه، هو النظام الصهيوني في فلسطين يطلق عليه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.

كما أنه أيضًا لم تعد إسرائيل قادرة على إخفاء التناقض القائم بين يهوديتها وديمقراطيتها، وهي التي جاءت مبعوثة للغرب لنشر الأفكار الديمقراطية – طبعًا في سياق مشروع إستعماري شامل لوطن العربي. هذا التناقض الذي استطاع أن يرفعه إلى السطح، حزب التجمع الوطني الديمقراطي من داخل إسرائيل، ويتحدى فيه الأيدلوجية الصهيونية. هكذا أعاد عرب الداخل، بقيادة قواهم القومية الديمقراطية وعبر أبرز قيادتهم، عزمي بشارة، كشف إسرائيل كدولة عنصرية كولونيالية، وأن مشروعها الإستيطاني الإحتلالي في الضفة والقطاع هو جزء من بنية النظام الصهيوني وليس مجرد ترتيبات مؤقتة قامت بها إسرائيل لأغراض دفاعية.

إذن، هناك إصرار إسرائيلي على رفض خيار الدولة ذات السيادة الكاملة في الضفة والقطاع، ورفض الدولة الواحدة بطبيعة الحال، والسعي بدل ذلك، إلى وضع ترتيبات جديدة، مثل فك الإرتباط، وتهويد القدس، وإقامة الجدار الفاصل، وتكريس الكتل الإستيطانية، وإقامة المعازل. وفي داخل الخط الأخضر، هناك التخطيط لتبادل سكاني مع سلطة الحكم الذاتي، واتخاذ إجراءات أخرى لتقليل عدد السكان العرب داخل إسرائيل، وتمرير القوانين العنصرية السافرة، ومخططات فرض قانون الولاء على المواطنين العرب وغيرها من الإجراءات والممارسات التي تهدف إلى تكريس الطابع الإثني العنصري للدولة العبرية، وبالتالي تكريس الإمتيازات اليهودية.

وهنا يطرح السؤال، إذا كان هذا هو الواقع الراهن، وفي ظل فشل إحراز أي تقدم بخصوص حلّ الدولة في الضفة والقطاع، رغم تواضع هذا الهدف بل بالرغم مما ينطوي عليه هذا الحل المتداول من تنازلات عملية وأخلاقية، مثل المساواة بين طرفي الصراع – كأنه نزاع بين قوميتين صاحبتي حق متساوٍ على نفس الأرض، وبالرغم من مرور 20 عامًا من المفاوضات والمؤتمرات والندوات.

إذا كان الأمر على هذا النحو بالنسبة لصيغة الدولتين، وبما أنه لا يظهر في الأفق إمكانية لإخلاء نصف مليون مستوطن من الضفة والقدس الشرقية، والإنسحاب إلى حدود الـ 67، ولا يوجد طرف دولي (أمريكي-أوروبي) على استعداد للضغط الفعلي على إسرائيل لتنفيذ هذه الخطوة المتواضعة جدًا (حتى بدون حق العودة) فلماذا لا يجري البدء بالتفكير في طرح خيارات أخرى، وهي خيار الدولة الواحدة. ليس من باب أنها أكثر واقعية، بل لأن صيغة الدولتين لا تقل طوباوية عن الدولة الواحدة. ولأن هذه الصيغة، وهو الأمر الأهم، أكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي.

إن الداعين إلى صيغة الدولة الواحدة، يستندون في الجانب العملي إلى التجربة الجنوب أفريقية، بحيث يعتقدون أنه عبر الضغط الخارجي، وعبر تبني فكرة المواطنة المتساوية، وإتباع ذلك ببرنامج عمل في الداخل والخارج يصبح بالإمكان إسقاط نظام الأبارتهايد الصهيوني في فلسطين / إسرائيل.. بغض النظر عن المدة الزمنية. والتي ليست بالضرورة أن تكون أطول من مدة العمل من أجل دولة في الضفة والقطاع، وذلك عبر مراحل متعددة ومتدرجة. وذلك كبديل عن وهم التعلق بوهم الدولتين الذي يؤدي إلى المزيد من الخسارة والمعاناة والحروب والسيطرة على الأرض والسكان.

وبكلمات أخرى طالما مرّ هذا الزمن الطويل على عملية التفاوض على حل الدولتين؛ وأصبح غالب الجهد المبذول بهذا الإتجاه ليس فقط مضيعة للوقت بل وصفة لاستمرار الحروب، والسلب والقمع. فلماذا لا يجري تحويل المسار وبذل الجهود في رسم إستراتيجية بعيدة المدى، دولة واحدة، أو صيغة إسقاط النظام العنصري الإسرائيلي.

إن هذه الإستراتيجية أكثر ديمقراطية، لأنها لا تستثني أحدًا. فهي تشمل اللاجئين وفلسطينيي الـ48، والضفة والقطاع، وتشمل اليهود الإسرائيليين. يستطيع الجميع، وفق هذه الصيغة، أن يكونوا تحت سقف سياسي واحد،كفاحي واحد – سقف المساواة المدنية والقومية الكاملة.

ليست الدولة الواحدة مطروحة للتفاوض، ولا يمكن أن تكون جزءا مما يسمى بالعملية السلمية؛ فالصعاب التي تقف أمام هذه الصيغة كبيرة؛ منها الإنقسام الفلسطيني، الإجماع الدولي، الوضع العربي والإقليمي، والمجتمع الإسرائيلي، وموقف حماس من الدولة الديمقراطية الواحدة.

هذه المعطيات، وأهمها واقع الحركة الوطنية المتشظي، لا تسمح بسهولة بإحداث نقلة استراتيجية في التوجه الرسمي الفلسطيني. ولكن هل يبقى المعنيّون بخيارات بديلة رهائن للموقف الفلسطيني الرسمي أو شبه الرسمي. ألا يحق لهم، بل ألا يجب عليهم أن يُصعدوا من نشاطهم النظري والعملي باتجاه بديل ومكمل.
هل يوجد رابط بين شعار دولة المواطنين، المقتصر على إسرائيل، والدولة الديمقراطية الواحدة. وهل الشعاران أو الصيغتان متطابقتان؟

الجواب على الأول، نعم. أما الثاني فلا. فالصيغة الأولى، تحويل إسرائيل إلى دولة كل مواطنيها مع إلغاء الطابع الصهيوني، وضمان حق العودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على كل أراضي 67 جاءت أو تبلورت على يد نخبة فلسطينية داخل الخط الأخضر، في ظروف ما بعد اتفاق أوسلو. هذا الإتفاق الذي كرّس في الذهنية الفلسطينية الرسمية وبين شرائح أوسع، قبول دولة إسرائيل كدولة يهودية ضمنًا.

وكما لاقت صيغة دولة المواطنين وما تضمنته من طاقة كفاحية ضد الصهيونية، لاقت قبولا على المستوى العربي الرسمي. فقد كانت المرحلة الثانية من الإتفاقية التي تنتهي بعد 5 سنوات تنص على البدء بالإنتقال إلى بحث إقامة الدولة الفلسطينية أو تحقيق الإستقلال وإلى بحث مسألة اللاجئين. كان هذا على الأقل الفهم (أو الوهم) الفلسطيني الرسمي للمرحلة الثانية.

وكان هذا الإتفاق يعني بالنسبة لجزء أساسي من الشعب الفلسطيني، هم فلسطينيو الـ48، تكريس موقعهم الدوني وأسرلتهم وإخراجهم من دائرة الحل، طمس حقوقهم القومية والجماعية، وبالتالي دورهم في النضال الوطني الديمقراطي.

ليس خافيًا أن بعض مؤسسي حزب التجمع وأولهم د.عزمي بشارة، وكاتب هذه الورقة، ظلوا محتفظين على المستوى الفردي بفكرة الدولة الواحدة سواء، ثنائية القومية، أو الدولة الديمقراطية الواحدة. ولكن الظرف السياسي الدولي والإقليمي والمحلي الذي هيّأ لتأسيس التجمع، وظروف المواطنة الإسرائيلية المفروضة، إقتضى إجتراح صيغة دولة المواطنين تفاديًا لصدام مع الإجماع الفلسطيني والإقليمي والدولي حول صيغة الدولتين. وهي صيغة ديمقراطية وإنسانية تشمل حلاً للعرب واليهود وتحمل في طياتها بعدًا استراتيجيًا، أو حلاً استراتيجيًا للصراع. إضافة إلى ذلك، كان الهدف من هذه الصيغة تزويد عرب الداخل بأدوات ومفاهيم نضالية جديدة هي متقدمة نوعيًا عما سبقها أو على ما كان معتمدًا – مثل شعار الإندماج والمساواة الذي لم يكن معرفًا ومحددًا، والذي كرّس الأسرلة.

ارتبط شعار دولة المواطنين بإعادة تنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية والداخل أو التيار القومي – الوطني أي ربط هوية الفلسطينيين في الداخل، وتطلعاتهم القومية والمدنية (الديمقراطية) بتطلعات بقية أجزاء شعبهم الفلسطيني.

لا شك أن بعض المفاهيم والمفردات التي اعتمدها التجمع تنطوي على تناقضات كونه حركة قومية ووطنية تعمل في ظروف المواطنة الإسرائيلية، وهذا لا بد منه، ولكن المضامين الكامنة في هذه المفاهيم تنطوي على إمكانية استراتيجية تسمح باعتراض المشروع الصهيوني وفضحه، عبر كشف تناقضاته وطرح حل ديمقراطي وإنساني للمسألة اليهودية أيضًا في البلاد.

وهذا بالضبط ما يفسّر حجم العداء والملاحقة ضد حزب التجمع وقيادته منذ تأسيسه والمحاولات المستمرة لشطبه والتخفيف من نفوذه على ساحة عرب الداخل.

نعتقد أن هذا الشعار رغم تناقضاته الظاهرة لا يزال يحمل الكثير من عناصر القوة لصالح التيار القومي الديمقراطي في نضاله ضد الصهيونية ومن أجل الحقوق القومية والمدنية. وهو يلائم خصوصية عرب الداخل في الظروف الراهنة، وهذا ما تراه أيضًا أوساط فلسطينية واسعة وقومية عربية، التي أصبحت تتفهم وتهضم هذه التجربة السياسية والفكرية التي اختطها حزب التجمع. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن طرح دولة المواطنين أبقى الباب مفتوحًا بشكل غير مباشر للدولة الواحدة.

في ظل التحول الجاري في المشروع الإسرائيلي الكولونيالي، نحو نظام فصل عنصري سافر، والآخذ في الزحف إلى داخل اسرائيل – من خلال القوانين العنصرية الجديدة، والممارسات العدائية والتوجهات الرسمية بتنفيذ ترانسفير سياسي لجزء من عرب الداخل وفرض الولاء عليهم، كوسيلة لتجريدهم من حقوقهم المدنية وللحيلولة دون تطورهم إلى مجموعة قومية مرتبطة مع شعبها وأمتها ودون تمكنهم من لعب دور ديمقراطي في مواجهة النظام الصهيوني، في ظل ذلك، يصبح من الجائز التفكير بخيارات أخرى.

ليس المقصود أن يقوم التجمع اليوم بتغيير برنامجه وأساليب نضاله. بل المقصود أن نطوّر النقاش بخصوص هذا الخيار، وأن نكون مشاركين مع الأوساط الفلسطينية واليهودية والأجنبية المساندة للحق الفلسطيني ليس من باب الترف الفكري بل من باب المسؤولية والرؤية الأخلاقية للحل.

طالما أن صيغة الدولة المرحلية في الضفة والقطاع تتعرض لتآكل (مخطـّط) بسبب تغلغل المشروع الكولونيالي الإسرائيلي في قلب الضفة الغربية والقدس، ومن ناحية أخرى، طالما صيغة الدولة الواحدة، لا تزال تظهر كفكرة طوباوية ومحصورة في النخبة، رغم ازدياد الإهتمام بها، يُصبح القاسم المشترك بين الأوساط الباحثة عن العدالة، أو العدالة النسبية هو ضرورة تغيير النظام الكولونيالي العنصري في الضفة والقطاع وإنهاء التمييز العنصري وتحقيق المساواة التامة للفلسطينيين في إسرائيل وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، باعتبارهم كانوا مواطنين في وطنهم فلسطين قبل التهجير.

وهذا يمكن أن يُطرح تحت سقف إسقاط نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، وتحقيق العدالة والإنصاف للشعب الفلسطيني وضمان حلّ إنساني للمسألة اليهودية في البلاد.

طبعًا في كل الأحوال هذا يتأتى عبر خطة تهدف إلى تعرية هذا النظام محليًا ودوليًا وعربيًا، وتوفر جملة من الشروط الأساسية للمضيّ باتجاه هذا الهدف، هي:

أولاً: إعادة توحيد الحركة الوطنية الفلسطيني وفق خطة واضحة وخطاب عقلاني – إنساني.
ثانياً: برنامج مقاومة شعبية طويلة المدى – تعميم ثقافة المقاومة إلى عموم الشعب.
ثالثًا: إقامة جبهة عربية – دولية للضغط على إسرائيل، تشمل حملة مقاطعة دولية لاسرائيل.
رابعًا: دعم الصمود الوطني – واستغلال العامل الديمغرافي من خلال تشجيع الفلسطينيين على البقاء في الأرض.
خامسًا: المساهمة في الجهد النظري الجاري لتطوير نموذج الدولة الواحدة، ومساندة المنظمات الدولية الناشطة في حملة المقاطعة لاسرائيل وتعرية بُنية النظام القائم.

بناءً على ما تقدم، ونظرًا لمجمل المعيقات الآنية والإستراتيجية، السياسية والأيدلوجية والعملية، التي تقف أمام كل الخيارات؛ سواء حل "الدولتين" أو حلّ الدولة الواحدة.. إذ أنه ليس أيّ منهما سهل أو أسهل من الآخر، فإنه يُفضّل ألا توضع الخيارات في مواجهة بعضهما الآخر خلال عملية التحوّل أو خلال تطوير فكرة الدولة الواحدة. لا شك أن شعار "دولتان لشعبين"، هو شعار متناقض مع شعار الدولة الواحدة، لأن الأول يكرس اللامساواة وغياب الديمقراطية والكولونيالية ولأنه يظلم الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، عرب الـ48 واللاجئين، ويكرس حالة العداء الدموي بين الشعب الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي اليهودي.

أما حلّ الدولة المرحلي، المقرّ من منظمة التحرير عام 1974وإن لم يعد كذلك في ممارسة النخب المتنفذة في الحركة الوطنية الفلسطينية (فريق أوسلو)، وكونه يرتبط بحق تقرير المصير وبحلّ الدولة الواحدة، وبحق عودة اللاجئين، فإنه يمكن النظر إليه، ولو نظريًا وتعبويًا باعتباره مرحلة من مراحل النضال من أجل دولة واحدة.

وبما أن فكرة الدولة الواحدة، رغم اكتسابها زخمًا جديدًا ولو في الأطر الأكاديمية لا تزال في بداياتها ولم تتبلور بعد كمشروع سياسي – تنظيمي، فإنه يتعيّن على الداعين للفكرة الأخذ بعين الإعتبار جميع هذه المعطيات.

التعليقات