طيرة بني صعب في الحرب: نضال وصمود فبقاء ../ د. محمد عقل

لا تزال مدينة الطيرة في المثلث تعرف بطيرة بني صعب نسبة إلى قبيلة بني صعب القادمة إلى فلسطين مع صلاح الدين الأيوبي. في سنة 1310ھ/1892م استحدث العثمانيون قضاء بني صعب وجعلوا مركزه في طولكرم فأصبحت الطيرة تابعة إلى هذا القضاء، والبلدات المسماة بطيرة كثيرة في فلسطين وهي: طيرة بني صعب أو الطيرة القبلية، طيرة الكرمل أو طيرة اللوز، طيرة دندن في قضاء الرملة، طيرة رام الله وطيرة بيسان. ومعنى كلمة الطيرة هو البيت الواسع والمحصن وهي كلمة كانت منتشرة في أوروبا في القرون الوسطى

 طيرة بني صعب في الحرب: نضال وصمود فبقاء ../ د. محمد عقل
متطوعو جيش الإنقاذ في الطيرة

لا تزال مدينة الطيرة في المثلث تعرف بطيرة بني صعب نسبة إلى قبيلة بني صعب القادمة إلى فلسطين مع  صلاح الدين الأيوبي. في سنة 1310ھ/1892م استحدث العثمانيون قضاء بني صعب وجعلوا مركزه في طولكرم فأصبحت الطيرة تابعة إلى هذا القضاء، والبلدات المسماة بطيرة كثيرة في فلسطين وهي: طيرة بني صعب أو الطيرة القبلية، طيرة الكرمل أو طيرة اللوز، طيرة دندن في قضاء الرملة، طيرة رام الله وطيرة بيسان. ومعنى كلمة الطيرة هو البيت الواسع والمحصن وهي كلمة كانت منتشرة في أوروبا في القرون الوسطى.
 
معارك شهر أيار: خلال شهر أيار سنة 1948 كانت طيرة بني صعب مسرحاً لمعارك دامية ضد الصهاينة، ففي 13 أيار 1948 وقعت أول هجمة "للهاغاناه" على القرية، وهي "هجمة الخميس" كما يسميها أهل الطيرة و"عملية الدولة" كما سمتها المنشورات العبرية. بدأ الهجوم بتسلل 120 مقاتلاً صهيونياً عبر كروم العنب الواقعة في الشمال الغربي لقرية الطيرة من ناحية "كفار هس"، ولكن هذا الهجوم فشل بفضل صمود مجاهدي الطيرة و12 مقاتلاً حموياً من جيش الإنقاذ والفزعات القادمة من الشرق، وقد أسفر عن مقتل 24 جندياً إسرائيلياً، منهم أربعة ما زالوا مفقودين حتى يومنا هذا، وخمسة عشرة ظلوا في الميدان إلى أن حقق الصليب الأحمر هدنة قصيرة فنقلت جثثهم إلى كفار هيس.
 
 كان الجنود اليهود يتصورون أن احتلال الطيرة مجرد نزهة حتى أن أحد المسؤولين عاد إلى بيته وأحضر جهاز تسجيل (بتبفون) لكي يرقصوا على أنغامه في الطيرة بعد احتلالها، ولكن أهل الطيرة رقصوا على جثته على حد تعبير إحدى الروايات العبرية. استشهد في الهجوم كل من: محمد عبد الرازق طه، عبد الحافظ أحمد فضيلي ومحمد عبد الرحمن مصاروة من الطيرة، وواحد من قرية مسكة وأصله من كفر سابا العربية واسمه أبو عثمان ومقاتل واحد من جيش الإنقاذ من حماة في سوريا.
 
في اليوم التالي في 14 أيار 1948 وقع الهجوم الثاني على الطيرة، وقد سمى أهل الطيرة هذا الهجوم "هجمة الجمعة" وسمتها الرواية العبرية الرسمية "عملية الدولة"، مثل سابقتها. في صباح ذلك اليوم بدأت الهاغاناه بقصف القرية بمدافع الهاون والرشاشات الثقيلة من الجهة الجنوبية من ناحية مستعمرة "رمات هكوفيش" ما أدى إلى نزوح الشيوخ والنساء والأطفال ولم يبق سوى المجاهدين الذين استماتوا في الدفاع عن بلدهم يرافقهم الحمويون التابعون لجيش الإنقاذ ونجدة جاءتهم من قرية سيلة الظهر من قضاء نابلس. انتهى الهجوم بالفشل وقد استشهد من سكان الطيرة كل من محمود حسين قاسم الملقب بقحلوط، وعقاب أحمد قشوع ومحمود محمد بشارة. في اليوم التالي يوم السبت 15 أيار سمح للصليب الأحمر في البحث عن جثث قتلى الهاغاناه في الكروم الواقعة في الجهة الشمالية حيث سحبت إلى كفار هيس ما يدل على أن الهجوم الثاني كان بقصد التمويه كي تتمكن الهاغاناه من البحث عن قتلاها.
 
 
لافتة في احدى المستوطنات المجاورة للطيرة تشرح تاريخ المعارك على الطيرة، كتب فيها
"معركة الطيرة التي جرت عشية إقامة الدولة، أبقت جرحاً مفتوحاً والماً عميقاً لدى سكان تجمع تل موند (اليهود)"

في ليلة 29/30 من أيار عام 1948 كان الهجوم الثالث على الطيرة في معركة سماها الأهالي باسم "هجمة المدفعية" و"هجمة المدرسة" وسمتها قوات الكسندروني عملية "سمحه" وقد بدأ الهجوم بقصف مدفعي شديد في ليلة السبت-الأحد والمرجح أن القصف جاء من ثلاث جهات: من "كفار هيس" في الشمال الغربي و"حيروت" في الغرب و"رمات هكوفيش" في الجنوب. أفاق الأهالي على دوي القذائف مذعورين فأخذوا ينزحون عن القرية باتجاه الشرق، كما فر أفراد الحامية العربية ولم يبق سوى المسلحين من أبناء الطيرة ومن أبناء قرية مسكة المهجرة. في تلك الليلة جمع المقاتلون الذخيرة، وتبين أن الكمية لا تكفي للصمود في المعركة فسافر الشيخ حسن ورفيق الشيخ نجيب وحسن العبد الله إلى طولكرم، حيث أيقظوا رئيس بلديتها وعدداً من أعضاء المجلس البلدي وطلبوا منهم فتح المخازن للتزود بالذخيرة، وكان لهم ذلك.
 
 استمر القصف المدفعي على الطيرة حتى فجر يوم الأحد، وقد حاولوا نسف المدرسة (العمرية حالياً) ولكن يقظة أحد المدافعين أفشل خطتهم وكشفهم، كما وصل المهاجمون أطراف الطيرة في الجهة الشمالية الشرقية، وفي أثناء المعركة وصلت نجدات من القرى المجاورة برز من بينها النجدة القادمة من الطيبة التي التف أفرادها خلف قوات الهاغاناه فأربكتها وهذه العملية ساهمت في حسم المعركة لصالح أهالي الطيرة. فقد المهاجمون عدداً من القتلى منهم اثنان لا تزال جثتاهما مفقودتين حتى يومنا هذا، واستشهد من الطيرة داوود أحمد رزق منصور. بعد صد الهجوم حضر إلى القرية عدد من قادة الجيش العراقي في المنطقة ودرسوا الوضع، وقرروا وضع حامية من الجيش العراقي وإقامة مركز قيادة لهم في الطيرة وتجنيد مجاهدين من أهالي القرية في إطار فوج فلسطيني يُسمّى فوج صلاح الدين والذي كان يضم أبناء الطيرة والطيبة وقلنسوة وقلقيلية وغيرها من القرى المجاورة وقد أبلى فوج صلاح الدين بلاء حسناً في القتال إلى جانب الجيش العراقي وكان كل مجاهد فلسطيني يحصل على ذخيرة وراتب شهري مقداره عشرة دنانير، وقد أُنيطت بهذا الفوج وبأهالي القرية حفر الاستحكامات وسقفها حول القرية وكانت تسمى بالطابات.    
 
 
منشور إسرائيلي: خلال شهر تموز حاولت قيادة الجيش الإسرائيلي محاربة أهالي قرية طيرة بني صعب نفسياً وتحطيم قدراتهم المعنوية، إذ ألقت الطائرات الإسرائيلية فوق القرية منشوراً في ما يلي نصّه:
 
                              إلى عرب الطيرة
          إن السويعات المعدودة التي تمر عليكم هي ساعات فصل، وأنتم تقدرون أن تقرروا مصيركم. قد حلت بين ظهرانيكم عصابات آثمة من الأجانب المسلحين الذين تحكموا في رقابكم، وساموكم الذل والهوان، وحملوكم على الاعتداء والعدوان، وقد انخدعتم وانقدتم وانصعتم لهؤلاء الأشراس الأوباش، وشاركتموهم أعمالهم المفضوحة، وساعدتموهم على جرائمهم التي ارتكبوها بالأبرياء من الناس. وها قد طفح الكيل وامتلأ الكأس وجاءت ساعة الحساب-ونحن ندعوكم إلى تسليم رجال العصابات الأجانب، والأسلحة الموجودة لديكم إلى الجيش الإسرائيلي، وفي هذه الحال لكم الحياة الآمنة المطمئنة في ربوعكم.
 
          وإن أبيتم وعصيتم وفي طريق الضلال مضيتم فعوا أن السيف سيعمل في رقابكم بدون أيما رحمة ورأفة وإذا عاندتم وتماديتم في غيكم واعتمدتم على المدفعين الثقيلين والدبابة التي لديكم- فاعرفوا أن طائراتنا ودباباتنا ومدافعنا ستدك قريتكم دكاً وتقصف بيوتكم وتقصم ظهوركم. تقطع أدباركم- حتى أن تطير الطيرة في الهواء وتصبح قاعاً صفصفاً وخراباً يباباً تنعق فيه البوم والغربان.
 
                          فيا عرب الطيرة
 
إن أردتم تلافي النكبة وتفادي المصيبة والخلاص من الهلاك المحتوم، فاستسلموا لأن حبل الخناق قد التف حولكم، وكماشة الحصار قد انطبقت عليكم وأحاطت بكم من كل ناحية وجانب. إن المنافذ قد سدت بوجوهكم، ولم تبق لكم للنجاة طريق وسبيل إلا الاستسلام.
          إنكم لا تكسبون من إصراركم وعنادكم إلا ضياع أموالكم وخراب مزارعكم ومحصولاتكم وزهق أرواحكم!
 
          إن جيش اسرائيل الظافر قد دمر أوكار العصابات في يافا وحيفا وعكا وطبريا وصفد، واستولى مؤخراً على اللد والرملة ورأس العين وعشرات القرى الأخرى في شمال البلاد وجنوبها وهذا الجيش المنتصر سيقضي عليكم حتماً وبظرف سويعات إن لم تلقوا السلاح وتستسلموا حالاً.
          وانتم مخيرون في الأمر- فإما الاستسلام والحياة والأمن والطمأنينة لكم ولأطفالكم وذريتكم- وإما العناد، فالهلاك والموت الزؤام.
                                                  قيادة الجيش الإسرائيلي        
 
تعقيب على المنشور أعلاه:
1)    ورد في المنشور أن الجيش الإسرائيلي احتل حيفا ويافا وعكا وطبرية، واستولى مؤخراً على اللد والرملة ورأس العين، وبناء على ذلك يمكننا أن نقرر أن المنشور المذكور ألقي على طيرة بني صعب بعد سقوط اللد والرملة في 11/7/1948 وقبل بدء الهدنة الثانية في 18/7/1948.
 
2)    في المنشور دعوة إلى تسليم رجال العصابات الأجانب والأسلحة الموجودة في القرية إلى الجيش الإسرائيلي، وفي هذه الحال لأهل القرية الحياة الآمنة المطمئنة في ربوعهم؛ والمقصود برجال العصابات عناصر من الجيش العراقي الذين كانوا يرابطون منذ أواخر شهر أيار في الطيرة يرافقهم مقاتلو فوج صلاح الدين الفلسطيني، أما الأسلحة الثقيلة فكانت مدفعان ودبابة بالإضافة إلى الرشاشات والبنادق. حاول الجيش الإسرائيلي في منشوره إحداث شرخ بين الجيش العراقي وأهالي الطيرة قائلاً: "قد حلت بين ظهرانيكم عصابات آثمة من الأجانب المسلحين الذين تحكموا في رقابكم، وساموكم الذل والهوان، وحملوكم على الاعتداء والعدوان..."، من الواضح أن كاتب المنشور كان يعي أن الإيقاع بين الأهالي والجيش العراقي ضرب من المحال لذلك أخذ يصعد من حدة لهجته وبدأ يتوعد حيث يقول: " وقد انخدعتم وانقدتم وانصعتم لهؤلاء الأشراس الأوباش، وشاركتموهم أعمالهم المفضوحة، وساعدتموهم على جرائمهم التي ارتكبوها بالأبرياء من الناس، وها قد طفح الكيل وامتلأ الكأس وجاءت ساعة الحساب".
 
3)    لغة المنشور لغة قوية ذات نغمة صارمة تحمل أشد أنواع التهديد والوعيد، والكاتب مثقف وعالم بخفايا اللغة العربية الفصحى وبمفرداتها وتراكيبها اللغوية الدقيقة، وهو ليس بمستشرق، وإنما يهودي من إحدى الدول العربية، وربما كان إلياهو ساسون السوري الأصل، أو من يضاهيه.
 
4)    تتوعد قيادة الجيش الإسرائيلي أهل الطيرة بأشد أنواع العقاب حيث تقول: " وإن أبيتم وعصيتم وفي طريق الضلال مضيتم فعوا أن السيف سيعمل في رقابكم بدون أيما رحمة ورأفة، وإذا عاندتم وتماديتم في غيكم واعتمدتم على المدفعين الثقيلين والدبابة التي لديكم- فاعرفوا أن طائراتنا ودباباتنا ومدافعنا ستدك قريتكم دكاً وتقصف بيوتكم وتقصم ظهوركم. تقطع أدباركم- حتى تطير الطيرة في الهواء وتصبح قاعاً صفصفاً وخراباً يباباً تنعق فيه البوم والغربان". كان ينتظر سكان الطيرة إذا ما سقطت القتل والتشريد والتهجير وهدم قريتهم وإزالتها عن الوجود!.
 
5)    تتوعد قيادة الجيش الإسرائيلي أهل الطيرة بنكبة حيث تقول: "إن أردتم تلافي النكبة وتفادي المصيبة والخلاص من الهلاك المحتوم، فاستسلموا لأن حبل الخناق قد التف حولكم، وكماشة الحصار قد انطبقت عليكم وأحاطت بكم من كل ناحية وجانب. إن المنافذ قد سدّت بوجوهكم، ولم تبق لكم للنجاة طريق وسبيل إلا الاستسلام". تعترف قيادة الجيش الإسرائيلي بأن ما حل بالشعب الفلسطيني منذ سقوط حيفا ويافا وحتى سقوط اللد والرملة هو نكبة بكل ما يحمله هذا المصطلح من معان، واستعمال هذا المصطلح في تلك الفترة يدل على أن تلك القيادة كانت على علم تام بما جرى أثناء الحرب.
 
6)    إن التهديد والوعيد لأهل الطيرة لم يكن من باب الحرب النفسية التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعراقيين فحسب، وإنما كانت هذه القيادة تضمر السوء لأهل الطيرة على ما فعلوه بالجنود المقتولين في المعارك السابقة الذكر واستبسالهم في الدفاع عن قريتهم. بقيت الطيرة صامدة حتى توقيع اتفاقية رودس حيث سلمت إلى إسرائيل في 7 أيار 1949.
 
معركة رمات هاكوفيش: بصورة عامة ساد منذ الهدنة الثانية هدوء نسبي على طول الجبهة العراقية في فلسطين. جرت هناك عمليات عسكرية ولكنها جاءت دائماً بمبادرة من الجيش الإسرائيلي. كانت أعمال التسلل إلى داخل إسرائيل بازدياد مطرد، لكن العمليات العسكرية العربية تمركزت في الأساس حول قرية الطيرة الواقعة على الجبهة الغربية. لم يقم المقاتلون المحليون (الفلسطينيون) الذين رابطوا في الاستحكامات الواقعة جنوبي هذه القرية أي وزن للأمر الصادر عن القيادة العراقية القاضي بمنع القتال، وراحوا يتحدون الجيش الإسرائيلي ويكثرون من إزعاج رمات هكوفيش القريبة منهم، ومن أجل وضع حدّ لهذا الإزعاج قرر الجيش الإسرائيلي احتلال الاستحكامات التي تُطلق منها النيران.
 
          في ليلة 2-3/1/1949 قام الجيش الإسرائيلي بهجوم من رمات هكوفيش وتقدم نحو الاستحكامات: 40(نقطة إحداثية 1454018046)، 41(نقطة إحداثية 1453818037)، 42 (نقطة إحداثية 1453218027)، 44(نقطة إحداثية 145227964)، 45(نقطة إحداثية 1452917942) واحتلها بعد مقاومة خفيفة. لم يكن المقاومون الفلسطينيون التابعون إلى فوج صلاح الدين الذين كانوا يحرسون هذه الاستحكامات يقظين بما فيه الكفاية، وبعد معركة قصيرة دامت 15 دقيقة اضطروا إلى الانسحاب فاحتل الجيش الإسرائيلي الاستحكامات المذكورة أعلاه.
 
          في الوقت نفسه اخترقت فصيلة إسرائيلية المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من قرية الطيرة تاركة وراءها مناشير فيها شرح لأسباب العملية، وقد اشتبكت مع قوات فوج صلاح الدين المتواجدة في المكان حيث استمرت المعركة حوالي الساعتين، وفيها قُتِلَ عنصر واحد من الفوج المذكور وجُرِحَ ثمانية من السكان. دبّ الذعر في الجانب العربي وذلك بالإضافة إلى ما جاء في المناشير، فالكثيرون منهم فسر مجريات الأمور بأنها بداية لهجوم شامل على المثلث بأسره. معظم سكان الطيرة هجروا بلدهم وانسحبوا إلى الخطوط الخلفية ولم يستكينوا إلا بعدما رأوا أن الجيش الإسرائيلي لم يواصل تقدمه.
 
          أفاق الجيش العراقي من هول الصدمة بسرعة حيث قام في الساعة الرابعة من فجر 3/1/1949 بأول هجوم مضاد مستخدماً المقاتلين المحليين. كان هذا الهجوم ضعيفاً ولم يحقق شيئاً، ثم توالت الهجمات دون جدوى، بينما قامت المدفعية العراقية، التابعة لكتيبة الصحراء السابعة، الموجودة في خربة صوفين بقصف الاستحكامات ورمات هكوفيش. بعد فشل أربع هجمات لمقاتلي فوج صلاح الدين ركز العراقيون قبالة الاستحكامات فصيلتين من المشاة (ويبدو أنهما من الفوج الآلي المعسكر في قلقيلية)، ومجنزرتين وهاجموا الاستحكامات: 40، 41، 42، في الوقت ذاته قامت ثلاث مجنزرات بمناوشة استحكام رقم 44 لكن هذا الهجوم صُدَّ. في الساعة 11 جدد العراقيون هجومهم ولكنهم ردوا على أعقابهم. في ذلك الوقت نجحت القيادة العراقية في نابلس في تنظيم قوة مقاتلة خاصة اسمها رتل عوف المسمى بالرتل المتحرك بقيادة العقيد عادل، وإلى هذا الرتل ضُمّ قسم من فوج صلاح الدين وسرية مشاة من الفوج الأول التابع للواء الخامس عشر وفصيلة رشاشات من سرية الإسناد التابعة لهذا الفوج، وفصيلة هوبيتسر عيار 4،5 عقدة من كتيبة الصحراء السابعة وقوات من الفوج الآلي الأول. على الرغم من تنظيم هذه القوة المقاتلة وربما بسببه تعقدت الأمور إذ سادت بلبلة حول المهام المنوطة بكل طرف حيث أصدر كل قائد أوامر مغايرة ولم يدر ما يجري لدى زميله مما سبب عدم نجاعة الهجوم. في الساعة الثالثة بعد الظهر تجمعت جميع القوات المتجحفلة مع رتل عوف، وفي الساعة الثالثة والنصف فتحت النيران على استحكام رقم 40. شاركت في القصف مدافع عيار 25 رطل الموجودة في خربة صوفين، بعدها قاموا بهجوم آخر شاركت فيه سرية من الفوج الأول التابع للواء الخامس عشر وقوة من الفوج الآلي ومتطوعين محليين، ولكن لسوء حظهم قصفتهم مدفعيتهم فارتدوا على أعقابهم.
 
قُتِلَ في هذا الهجوم ستة من رجال الفوج الأول من اللواء الخامس عشر وجرح 18بينهم ضابط، كما أُصيب كثير من المقاتلين المحليين بقذائف المدفعية العراقية، وقد بلغ مجموع الجرحى الذين نقلوا إلى مستشفى نابلس 27 جريحاً. في البداية أعلن الفوج الآلي الأول عن احتلاله للاستحكام، لهذا في 4/1/1949 أذاع راديو بغداد البيان التالي: "منذ ليلة 2-3/1/1949 تخوض وحدات عراقية معركة حامية الوطيس مع اليهود في الطيرة وقلقيلية ورمات هكوفيش، وما زالت المعارك مستمرة حتى إعداد هذا البيان، ورغم ضراوة الهجمات فإن الجيش العراقي الباسل صدها موقعاً في العدو خسائر فادحة، والأمور تتطور في صالحنا". بعد الإخفاق الذي لاقاه العراقيون يوم 3/1/1949 كان عليهم إعادة تنظيم قواتهم من جديد حيث سحبوا الفوج الأول من اللواء الخامس عشر إلى محطة القطار في طولكرم وبدلاً منه ضموا إلى الرتل المتحرك السرية الأولى من الفوج الآلي الأول وفصيلة واحدة من فوج صلاح الدين. لتقوية الجبهة نُقِلَ إلى طولكرم الفوج الأول من اللواء الخامس بقيادة المقدم عمر علي. كان هذا الفوج احتياطاً للجحفل ولم يُشارك في المعارك.
 
في 4/1-6/1/1949 خفت حدة العمليات واكتفى الطرفان بقصف مدفعي متبادل، حيث قصف العراقيون استحكامات الجيش الإسرائيلي ورمات هكوفيش، بينما قام اليهود بقصف قلقيلية ما أدى إلى مصرع جندي عراقي وجرح اثنين.
 
          في 7/1/1949 نفذ العراقيون هجومهم الكاسح. كانت القوة المهاجمة مكونة في الأساس من جنود محليين فلسطينيين من فوج صلاح الدين تساندهم بطارية المدفعية العراقية الموجودة في خربة صوفين، أما العمليات فقام بها الرتل المتحرك. في هذه المرة كان قائد الرتل الرئيس الأول شاكر محمود شكري الذي كان تابعاً لقيادة الفوج الآلي الأول في قلقيلية. بهذه الطريقة نجح العراقيون في تخطي البلبلة التي كانت قائمة في صفوف قواتهم. بدأ الهجوم مع ساعات الفجر الأولى حيث قصفت بطارية المدافع الاستحكامات وصبت عليها وابلاً من النيران، بينما نجح جنود فوج صلاح الدين في السيطرة على أحد الاستحكامات، وحتى الساعة العاشرة صباحاً سيطروا على استحكامين آخرين. لتعزيز المهاجمين أرسل العقيد حسيب (نجيب) الربيعي، قائد الجحفل الأول، سرية من الفوج الأول من اللواء الخامس عشر ووحدة مجنزرات من كتيبة خالد بن الوليد. هذه القوات كانت عبارة عن احتياط، كما وضعت كتيبة الصحراء السابعة على أهبة الاستعداد للاشتراك عند الضرورة في المعارك. تمحور القتال حول استحكام رقم 42 حيث جرت محاولات عدة لاقتحامه في الساعة العاشرة والثانية ظهراً لكنها باءت بالفشل. تلاهما اقتحام ثالث نجح العراقيون خلاله من احتلال الاستحكام مستعملين القنابل الدخانية والحارقة التي ساعدتهم كثيراً.
 
          بصورة عامة برهنت المدفعية العراقية في ذلك اليوم على وجود قدرة مهنية عالية لديها. كان تركيز النيران ناجعاً رغم تبذير كميات كبيرة من الذخيرة، أما التعاون بين المهاجمين والمدفعية العراقية فكان ناجعاً سواء عند الكر أو الفرّ حيث تقدم القادة الصغار مع فصائلهم بشجاعة نادرة، وقطعوا جميع الاتصالات اللاسلكية فيما بينهم، ما اضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب إلى رمات هكوفيش تحت ضغط قوات فوج صلاح الدين ومن معهم من العراقيين. في أعقاب هذا النصر ارتفعت معنويات العراقيين عالياً، وقد أرسل ولي العهد عبد الإله رسالة شكر إلى قائد الجحفل الأول وقائد الفوج الآلي الأول جاء فيها: "نبارككم على نجاحكم في سحق العدو في تل كوفيش ونبتهل إلى الله عز وجل أن يديم نصركم"، كما أن الرئيس الأول شاكر محمود شكري، قائد الرتل الآلي، أصدر أمراً يومياً شكر فيه المتطوعين ورجال رتله على روح التفاني التي أبدوها أثناء القتال.
 
 بلغ عدد قتلى العرب حوالي خمسة عشر قتيلاً وأربعين جريحاً منهم سبعة قتلى عراقيين، أما الدرس المستفاد من هذه المعركة فهو أن العراقيين يملكون نوعين من السلاح الفتاك: الأول سلاح المدفعية والثاني جنود المشاة من المقاتلين الفلسطينيين. من الجدير بالذكر أن الأدبيات الفلسطينية تسمي هذه المعركة بمعركة رمات هكوفيش الرابعة التي استشهد فيها 12 جندياً عراقياً، واثنان من مناضلي الطيرة وسبعة من مناضلي قلقيلية من فوج صلاح الدين وأربعة مدنيين من سكان الطيرة (عائلة الخرسان) وثلاثة من سكان قلقيلية، أما الاستحكامات فكانت تقع على تل يسميه الأهالي الحرش أو كنايات أبو علبة بين الطيرة وقلقيلة.
 
 
المناضل إبن الطيرة، أحمد خضر فضيلي أمد الله بعمره، الذي شارك في معارك الدفاع عن الطيرة

ورد في كتاب رمات هكوفيش بالعبرية أنه في ليلة 2/1/1949 نزلت وحدات من لواء "جبعاتي" إلى معقل اللصوص (المقصود الطيرة) ونفذوا عمليتهم دون خسائر وعادوا إلى قاعدتهم بسلام. قوة أخرى احتلت كل الاستحكامات والمواقع الشرقية وتمركزت فيها....في 4/1/1949 حدث تطور ينذر بالشر، وحدات جبعاتي أُخرجت من الاستحكامات وحلت محلها قوات البحرية، وبعد مرور يوم واحد فقط، أي في 6/1/1949 اكتشفت المراقبة حشوداً هائلة للعدو تنبئ بهجوم شامل. في فجر 7/1 فاجأ العدو قوات البحرية بمهاجمتها من الخلف، كانت معركة بالحراب، ولكن لم يكن بمقدور قوات البحرية الصمود أمام العدو المتفوق عدداً وعتاداً، كل الاستحكامات الجنوبية انتقلت ليده ما عدا موقع الحرش الذي ظل في يد جنود البحرية. ومن الصباح حتى المساء دارت رحى معركة قوية على هذا الموقع. قُصف الحرش والكيبوتس في ذلك اليوم بآلاف القذائف الحارقة....في الساعة الثالثة بعد الظهر شدد العدو الضغط على الاستحكام بإمطاره بنيران مدفعية جهنمية من آليات ومجنزرات، اشتعلت الأشجار في الحرش والاستحكام. قسم من الذخيرة شبت به النيران، المدرعتان اللتان كانت إحداهما تابعة للكيبوتس والأخرى للجيش واللتان قدمتا المساعدة طيلة اليوم من إيصال الذخيرة إلى إخلاء الجرحى أُصيبتا ومدرعة أُخرى أُعطبت ولم تعد صالحة للاستعمال، ومع هبوط الليل انسحب جنودنا، ولم تمض ساعة حتى سُمعت من بعيد هتافات العدو بالنصر...    

التعليقات