أسطــورة رجل شجــاع (أبو صالح الأسدي)

اسمه الكامل: سعيد صالح عبد الهادي أسدي، أما كنيته فأبو صالح، وسلسلة ألقابه تبدأ بالعاشق والأسطورة ولا تنتهي المناضل. تدرّج أبو صالح من جبال دير الأسد إلى أزقة مخيم عين الحلوة، وفي الطريق بينهم تمرّ محطات شعب ناضل من أجل العودة

أسطــورة رجل شجــاع (أبو صالح الأسدي)

قاوم أبو صالح في ثورة 1936 وفي حرب 1948 وفي معارك الكرامة وأيلول الأسود والعمل الفدائي في لبنان وفي اجتياح 1982، كان رجلاً قويًا جبّارًا أفلت من ملاحقة الجيش والمخابرات الإسرائيليّة بكلّ حنكة، وراوغ الموت أيضًا. اجتاز الحدود وأخضع الجبال من أجل لقاء زوجته في مغارة “باب الشمس”، ومن أجل استمرار الحياة. وقائع حياته أقرب إلى سير أبطال الأساطير، وأسطورته أقرب إلى واقع شعب يقاوم من أي سيرة شخصية أخرى

عرب48 وفصل المقال

توفيق عبد الفتاح

اسمه الكامل: سعيد صالح عبد الهادي أسدي، أما كنيته فأبو صالح، وسلسلة ألقابه تبدأ بالعاشق والأسطورة ولا تنتهي المناضل. تدرّج أبو صالح من جبال دير الأسد إلى أزقة مخيم عين الحلوة، وفي الطريق بينهم تمرّ محطات شعب ناضل من أجل العودة.
تحلّى أبو صالح صفات وخصال استثنائية، خاض هذا الإنسان والمناضل وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حتى رحيله عام 1997 في مخيم عين الحلوة في لبنان، رحلة كفاح طويلة ومريرة ونسج حكاية عشق فريدة مع الوطن ولم ينقطع عنه إلا عندما رفض المساومة.
كان من أبرز المناضلين الجليليين الشباب في الثورة الفلسطينيّة عام 1936، وكان من قادة حامية شعب عام 1948 التي استبسلت في الدفاع عن البلدة والمنطقة ضد التهجير. نزحت أسرته بعد تهجير قرية شعب إلى دير الأسد في الشاغور، أما هو هجّر هو إلى لبنان بسبب ملاحقة السلطات له.
أبى أن يستسلم و استمر في “التسلل” عبر الأسلاك الشائكة من الحدود الشمالية مع لبنان مدفوعا بعشقه المتأجج والمقاوم أملا بالعودة، تواصل مع زوجته وأطفاله الباقين في دير الاسد، وكان يجتمع بزوجته سرا في مغارة “باب الشمس” الرهيبة، في قلب الجبال الشمالية للبلدة، منها كان يعرف أحوال البلدة وأخبار أسرته وأطفاله. كان هذا اللقاء ملهما للكاتب اللبناني إلياس خوري فكتب واحدة من أهمّ الروايات عن النكبة الفلسطينية وأسماها “باب الشمس”، فأضحى أبو صالح “رسميًا” شخصية رئيسية في رواية شعبنا.
تحوّل حمل زوجته بعد لقائهما في المغارة إلى لغز تعذّر على المخابرات الاسرائيلية حلّه، الأمر الذي دفعهم إلى استجواب “أم صالح” التي فاجأت محققيها اللذين استفسروا بغضب عن سر حملها بطفلها، لتقول لهم بنبرة عصبية مموّهة “أنا بائعة هوى فماذا تريدون مني”؟!

الوداع الأخير للأب
عندما وصف لنا لحظة فراقه عن أبيه بكى، ودموع الرجال، كما يقال غالية. استعرض محمود سعيد الصالح أسدي، نجل الراحل أبو صالح، لحظات اللقاء والفراق والاعتزاز بوالد أسطورة وأب حنون يذكر من إرثه تفاصيل التفاصيل والمعاني.
التقينا به في منزله في الحي الجنوبي بقرية دير الأسد وهو يحتفظ بكل ما قيل بوالده، وقد قيل الكثير، بما فيها شريط مصور لجنازة والده في مخيم عين الحلوة، وصله الشريط عن طريق بنات الشهيد غسان كنفاني، الذي ربطته بأبي صالح أواصر علاقة خاصة، يحتفظ محمود بالشريط كما يحافظ على أبنائه، ويعتبرها وثيقة تحمل رائحة والده وتاريخ من الشرف والبطولة هي الأعز عليه.
يقول “كان عمري 12 عامًا، تردّد والدي على البيت من عام 1948حتى عام 1956، أذكر أنه في صيف نفس العام قبّلنا قبلات الوداع الأخير واتجه إلى لبنان بعد أن علم أنّ القرار لم يعد قرارًا بالقبض عليه بل بقتله، كنت أشتاق له دومًا، ولا زلت مشتاقًا”.
أنا سعيد الصالح
يروي أبو السعيد العديد من الوقائع، منها ما يذكرها شخصيًا عن والده ومنها ما تناقل على ألسن الأهالي لأنه كان حكاية البلد، بل حكاية وطن، “في إحدى الوقائع، عام 1953، توفيت زوجة محمد سعيد الخطيب، الذين سكنا بيتهم، وعندما لم يتمكن من المشاركة بالجنازة وصل بعد ثلاث أيام ليقدّم التعازي، إلا أنّ رجال المخابرات داهموا المكان متخفين بلباس عربي مموّه ووقفوا وسط الحضور وسألوا من منكم سعيد الصالح؟ وبعد حالة إرباك وذهول نهض والدي من بينهم وقال أنا سعيد الصالح، حيث ألقوا القبض عليه واقتادوا الجميع إلى معسكر في مجد الكروم، إلا أنّه رفض الصعود لسيارة الشرطة وقال: سأسير مثلهم وأمامهم على الأقدام، حوكم على أثر ذلك ثلاثة شهور زرته مع والدتي خلالها في سجن الجلمة، وبعدها طردوه إلى الضفة الغربية، وواصل من هناك إلى الأردن ولبنان، لكنه بعد ثلاثة أيام عاد إلينا للبيت في دير الأسد”.

البصقة
لكن يبدو أنّ السلطات لجأت إلى الترغيب بعد أن فشلت أساليب الترهيب والملاحقة فاستعانت هذه المرة بعكاكيزها، ويقول: “وسّطت السلطات أحد عكاكيزها من الزعامات التقليدية المعروفة والمرتبطة بالسلطة لتتحدث مع زعامة “الأسدية” لمساومة والدي، وأمام الحضور طلب هذا “العكّاز” من والدي أن يعود إلى لبنان ليوم واحد، وبعدها سيمنحه الهوية الإسرائيلية ويؤمّن له الاستقرار، إلا أنّ والدي نهض وسأله: “يعني جئت لتطلب مني أن أتعامل مع السلطات؟!”، وأمام الجميع بصق في وجهه وقال له وهو يستشيط غضبا “اذهب وحدث أسيادك فيما شاهدت”.
“بعد واقعة البصقة، ومثيلاتها، وصل إلى والدي تبليغ شفوي من الضابط “كوهن” في عكا، عن طريق قريب العائلة الذي يسكن هناك وقال أعلمه أنّنا اتخذنا قرارًا بقتله. لم نعد نلتقي به بعدها، إلا أنّني تواصلت معه تلفونيًا أحيانًا، وفي إحدى المكالمات قال لي إن صورة كبيرة لابنتي التي أسميتها جبهة، تيمنا بالجبهة الشعبية التي كان والده احد قياداتها، معلّقة إلى جانب صورة الحكيم جورج حبش وغسان كنفاني”، اختنقت كلمات أبو السعيد وبكى بكاءً مرا، ليس فقط لحنينه لوالد عظيم بل لأنه يعتبر أنّ هناك من يريدون أن يمسوا بهذا الإرث العريق، ستعرفون لاحقًا من يكونون.

سنوات التخّفي
ذاكرة نهاد أسدي، أبو علي، لا زالت خصبة رغم عمره الذي اقترب إلى 85 عامًا ورغم المرض الذي أقعده، يستعرض بروح من الوداعة والرغبة شريط الذكريات التي عايشها مع أبي صالح، وفي جعبته تفاصيل الحكاية يحكيها بحنين وحسرة الماضي وباعتداد بالنفس. أطلق، بعد أن عرف رغبتنا في سماع القصص، عنان تنهيدة عميقة تبعها صمت حمل كل بلاغة الكلام.
بدأ أبو علي سرد حكايته بتلخيص بسيط “يحكى الكثير عن الأموات وتحاك الأساطير أحيانا في خطب الرثاء، لكن كل ما يحكى عن أبي صالح صحيح”، ويشرح “أبو صالح هو الشهم الشجاع والبطل الذي لم يتكرر، بدأت حكايتي معه بعدما نزحنا سويًا إلى الغازية في لبنان عام 1948، مكثنا هناك أقلّ من عامين ذقنا خلالها مرارة الغربة وعار الهزيمة ومهانة الشتات وقرّرنا بعدها العودة إلى البلد مهما بلغ الثمن، فالموت في هذه الحالة قد يكون أرحم، وهكذا فعلنا وعشنا حياة التخفي وبشكل سري مدة 4 سنوات نتنقل في الجبال وفي أزقة البلدة نتحاشى المخبرين العرب الذين جندوا خصيصا لملاحقتنا وملاحقة أبو صالح خاصة”.
المراوغة
يسرد أبو علي حكاية القبض على أبي صالح ويقول “كنا في منطقة البيدر باتجاه العين شرق شمال البلدة وبعد ان راينا العساكر الخيالة تقترب منا حاولنا المراوغة والهروب إلا أن أحد أفراد الشرطة الخيالة فاجأ أبي صالح وجهًا لوجه فما كان لأبي صالح إلا وأن ينصاع، واقتاده الشرطي أمامه مصوّبًا سلاحه باتجاهه، إلا أنّ أبو صالح، وبعد مسافة معينة، اختار بعزمه وقوته الجسدية وشجاعته المكان المناسب للهرب حيث استدار نحو الشرطي وباغته بلكمة قوية على أنف الحصان وأرداه أرضًا، ليستغل الفرصة للهرب، وبعد استدعاء تعزيز للعساكر تعرّض خلالها للمطاردة وإطلاق نار كثيف إلا أنّه راوغ بذكاء وشجاعة ونجى منهم”.

صفقة الوجهاء
حدّثنا أبو علي أيضًا عن إصدار السلطات لأمر قتل أبي صالح، في أعقاب حادثة الهرب من الشرطة وكذلك رفضه المساومة التي توسطها فيها أحد وجهاء المنطقة المعروف بقربه للسلطة، “بعد أن كنا مطاردين ومتخفين مدة 4-5سنوات، أي حتى أواخر عام 1955، جاء موعد أول انتخابات برلمانية التي بفضلها بقينا في البلاد، فقد عقد بعض الوجهاء من عائلات معروفة صفقة مقايضة انتخابية تقضي بالتصويت لحزب”مباي” مقابل استصدار بطاقات هوية لعشرة اشخاص إلا أن قسمًا منهم قبلها وعاد وقسمٌ آخر لم يعد، ومنذ ذلك الحين لم أعد اعرف شيئًا عن أبي صالح الذي تابع حياته ونضاله في لبنان”.

أحفاد البطل يخدمون في الشرطة الإسرائيلية
من بين فصول الوجع والمعاناة لم يكن أقسى على أبو السعيد، نجل أبي صالح، أكثر من المسّ بروح وإرث والده وقال: “إرث والدي أكبر من أنّ يمسه جهلة لا يحترمون أحياء ولا أموات، لكن ماذا يعني أنّ أحفاد القائد أبي صالح يلتحقون تطوعا بسلك الشرطة؟ اثنين من أبناء أخي التحقوا بالشرطة وأنا أقاطعهم وأخجل بهم، ولولا العيب لأعلنت براءتي من أخي وأبنائه لأنّ ذلك لا يشرفني لأنها تلك الشرطة والمؤسسة هي نفسها التي لاحقت والدي والتي حرمتنا منه وأذاقتنا الأمرين ولاحقت أمي التي أنجبت إخوتي في زمن المطاردة والمنفى فهل يعقل أن يكون هذا مصيرنا؟!”.

من جديد
كان أبو صالح يجيب على سؤال اليائسين بعد كلّ هزيمة أو انتكاسة، بعد قمع ثورة ال36 وبعد التهجير والنكسة والاجتياح، “ماذا نفعل؟”، بجوابٍ واضح بسيط: “نبدأ من جديد!”





 

التعليقات