انتحار المحبطين في زمن التيه

بحث جديد يكشف عن 117 حالة انتحار في أوساط الطائفة المعروفية منذ العام 1997، خُمسها من المتجندين في الجيش الإسرائيلي، يثير القلق الشديد في أوساط القيادات المجتمعية ويعيد طرح أسئلة أثر التيه والإحباط وضياع الهوية الذي يحدثه التجنيد الإلزامي والصدمة الاجتماعية الحضارية

انتحار المحبطين في زمن التيه

توفيق عبد الفتاح

بحث جديد يكشف عن 117 حالة انتحار في أوساط الطائفة المعروفية منذ العام 1997، خُمسها من المتجندين في الجيش الإسرائيلي، يثير القلق الشديد في أوساط القيادات المجتمعية ويعيد طرح أسئلة أثر التيه والإحباط وضياع الهوية الذي يحدثه التجنيد الإلزامي والصدمة الاجتماعية الحضارية

إميل، ذهب محبطًا ولم يعد

قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة، في ربيع العام 1997 تحديدًا، كان الشاب إميل من قرية كسرى الجليلية في حالة إحباط شديدة، لم يكن يرغب في أداء الخدمة العسكرية الإلزامية وقد تسجّل في كلية "تل حاي" ليدرس الهندسة واستأجّر بيتًا هناك، إلا أنّ الجيش الإسرائيلي أصرّ على تجنيده فورًا ورفض توجّهات والده بتأجيل التجنيد حتى إنهاء دراسته، فاضطر لأنّ يتجنّد، بعد سنة تعرّض لحادث طرقٍ خطير في منطقة بئر السبع وتلقى العلاج لمدة شهر ونصف في المستشفى، واعترف له بعجز بنسبة 30%، إلا أنّ الجيش ادعى أنّ ملفه الصحي اختفى وأنّ التعويض المالي لم يعد مؤكدًا.
يقول أبو إميل، الذي التقيناه قبل أيام في كسرى ولم يكن يريد في البداية أن يفتح الجروح، مختنقًا بدموع الأسى" انكسر بعد أن كانت لديه أحلام وطموحات كثير، أشعرته كلّ هذه الإجراءات الروتينية المملة والاستخفاف به بالإحباط والتوتر الشديد، انهار أمامي ببطء قاسٍ، لا زلت أذكر اللقاء الأخير، كنا في بيتنا عصر الثامن من أيار 1997، فجأة تحرّك بكل الهدوء والبطء نحو الدرج خارجا من البيت، وعندما استفسرت منه إلى أين هو ذاهب قال: "ها أنا هنا سأعود حالا"، إلا أنّنا وبعد دقائق معدودة هرعنا على صوت الرصاص في محيط البيت، وهناك كان المشهد المروع الذي لا أريد أن استذكره" تنهّد بحزن وأضاف "وعدني أن يعود حالا، لكنه لم يعد إلينا".
لا زال أبو إميل يعيش مأساته وهو عاتب وغاضب، يقول: لا شيء يعوض في هذه الدنيا، لكن المؤسسة لم تحترم لا أحياء ولا أموات ولم تحترمنا كعائلة ثكلى.
117 حالة انتحار خلال 14 عامًا، 18٪ منها لجنود في الجيش

لم تكن قصة إميل هي قصة الانتحار الوحيد في وسط الطائفة العربية الدرزية، فقد بيّن بحث أجراه الباحث سليم بريك أنّه بين الأعوام 1997 – 2011، حدثت 117 حالة انتحار، وأنّ 18% من المنتحرين جنود يخدمون في الجيش.
بحث بريك، الذي أجراه بناء على طلب من الشيخ موفق طريف الرئيس الروحي للطائفة الدرزية والمجلس الديني الأعلى، يكشف معطيات خطيرة بعد فحص 117 حالة انتحار، حيث أشار بأن نسبة حالات الانتحار بين الذكور وصلت إلى %89 ونسبة الإناث %11، وأشار بأن من بين نسبة الإناث كانت هناك حالات قتل أو كما أسماها "إجبار على الانتحار".
وتطرق البحث إلى الفئات العمرية للمنتحرين وبيّن بأنّ ربع المنتحرين تتراوح أعمارهم بين 14 – 19 سنة و%30 منهم حتى سن 24 سنة، وأضاف بان %13 من المنتحرين الدروز هم من طلاب المدارس، وان %18 من الجنود الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي أو الشرطة.
وجاء في البحث أن من بين الأسباب التي تؤدي إلى ظاهرة الانتحار؛ طبية ونفسية واجتماعية وربما بسبب الإحباط الذي يواجهونه نتيجة لتعامل مؤسسات الدولة معهم. واعتبر بريك ان مؤسسات الدولة لا تعالج هذه الظاهرة، ولا توليها أية أهمية.
على أثر هذا البحث، عُقِد مؤخرًا اجتماع بحضور عدد من مشايخ المجلس الديني الدرزي الأعلى، حيث عرض الدكتور سليم بريك نتائج البحث وذكر أهم المُسببات لوقوع هذه الحالات، وكيف يُمكن تفاديها ومعالجتها والتعامُل مع مُخلفاتها ، وأكّد أنهُ على ثقة من أن مُعطيات البحث واستنتاجاته قادرة على خفض نسبة المنتحرين في الطائفة الدرزية والتي وصلت إلى ما يقارب ضعف النسبة العامة في إسرائيل.
نهى بدر: الإحباط من أهمّ دوافع الانتحار، والشباب الدروز الأكثر تعرضًا له في ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية

تعكف الأكاديميّة نهى بدر، مديرة الكلية القطرية، على إعداد رسالة دكتوراة حول ظاهرة انتحار الشباب العرب الدروز مقارنة بأقرانهم الشباب العرب من الطوائف الأخرى وباليهود في البلاد، وتبدي قلقها الشديد من حجم انتشار الظاهرة، لا سيما وأنّها تعتبر أنّ أهم أسباب الانتحار هو الخدمة العسكرية الإلزامية، التي تعمّق من حالة الاغتراب لدى الشباب الدرزي وتمسّ صلب مركبات هويته وقيم العروبة لدى الطائفة المعروفية.
وتقول: "ما دفعني لهذا التخصص هو حجم الظاهرة المتزايد والمقلق والحزن الكبير على هؤلاء الشباب الذين يصطدمون بواقع مفروض، ويضعهم في حالة من الضياع وعدم القدرة على تحديد هويتهم وهذه "البلبلة الذاتية في تحديد الهوية"، علمُا أنني أعلم أنّ التفكير بالانتحار موجود دائمًا لدى كثير من الناس لكن الأمر الأخطر أنّ هذا التفكير أصبح يدخل حيز التنفيذ الفعلي وبتزايد مؤلم"، وأضافت "اطّلاعي على النظريات العلمية مكنني من القدرة على الربط بين أسباب الانتحار؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث أنّ البيئة من شأنها أن تلعب دورًا في تشجيع الانتحار فهناك عوامل الإحباط المتوفرة في البلاد عامة ولدى العرب الدروز لوضعيتهم الخاصة التي تجعلهم أكثر عرضة للإحباط وانسداد الأفق أمام الشباب".
كما أشارت بدر إلى ما أسمته "المأزق السياسي في البلاد الذي يجعل الآفاق مسدودة، وغموض ومجهولية حول المستقبل، مما يؤدي بالشعور بالقلق الدائم وانعدام الأمان الفردي والجماعي، فهناك صراع وعنف مستمر في منطقتنا، ناهيك عن العنف الرمزي"، واعتبرت بدر أنّ هناك انتحارات يومية ليست بالضرورة انتحارات فعلية بل نفسية ومعنوية خصوصًا لدى النساء، واعتبرت بدر أن للأهل دور كبير في بثّ الإحباط لدى الأطفال، الأمر الذي يجب أن يلفت إلى أهمية تحصين وتعزيز ثقافة ومكانة المرأة الاجتماعية والنفسية لتربية جيل سوي.
كما عددت بدر أسبابًا أخرى للانتحار منها: الانتقال السريع من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع عصري منفتح تغلب عليه الفوضى أحيانَا، مما يؤدي إلى حالة تشوّه وانعدام لتوازن الشخصية، إلى جانب الانكشاف لوسائل الإعلام غير الخاضعة للرقابة وسوء استخدامها، لاسيما شبكات الانترنت.
ذلك طبعًا إلى جانب الوضع الاقتصادي وصعوبة المعيشة وتفشي البطالة وانعدام الفرص بسبب التمييز العنصري، حيث يشكّل ذلك أرضية خصبة لانحدار الشباب نحو آفات اجتماعية مثل السموم والكحول والعنف والجريمة، وغيرها من العوامل مثل صراع الاجيال واختلاف المعايير والمفاهيم وانعدام التوازن بين الأصالة والمعاصرة.

سليمان دغش: التجنيد الإجباري أحدث تشوهًا حادًا في نفسية الشباب


الشاعر سليمان دغش، وهو مناهض للتجنيد الإجباري، عبّر عن قلقه البالغ مما اعتبره استمرارًا لسياسات التمييز العنصري التي تلقي بظلالها على مجمل مناحي حياة العرب عامة والدروز على وجه الخصوص، ووصف ظاهرة الانتحار بالحالة المحزنة لأن الشباب الدروز يدفعون ثمنًا مضاعفًا، وذلك بسبب حالة التشوه الثقافي والقومي التي تتصل بالسياسات التي أقصت العرب الدروز عن محيطهم الطبيعي كعرب، ووضعتهم في خانة ملتبسة على مستوى الهوية والانتماء حيث أصبح الشباب الدرزي يعيش حالة من الضياع والإحباط المعنوي والنفسي، لاسيما بعد تسريحه من الجيش، واكتساب العادات السيئة خلال هذه الخدمة، واعتبر دغش أن سن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية منذ العام 1956على العرب الدروز كانت نقطة انطلاق لسلخ أبناء الطائفة عن شعبهم العربي وعملية غسيل الدماغ وضرب مكونات العروبة لديهم.

الشيخ علي معدي: ثلاث سنوات من الجندية تقصف ربيع الشباب

الشيخ علي معدي، رجل دين ورئيس لجنة التواصل الدرزية، تطرق إلى الأحكام الدينية والأسباب الدنيوية بشأن الانتحار وقال: "رغم كل الأسباب لكننا لا نبرّر الانتحار وكل الديانات السماوية حرمت قتل النفس بغير حق، فكم بالحري عندما يقتل الإنسان نفسه، فهذا ظلم وعدم إيمان بالله"، وأضاف "لكننا مطلعون على الضغوط المعيشية والاقتصادية والاجتماعية لدى شبابنا العرب عامة، والدرزي على وجه الخصوص، لا سيما أزمة التجنيد الإجباري التي تنزع 3سنوات من ربيع الشباب وتشكّل عامل ضغط وإحباط كبيرة حيث ينعكس ذلك على تحصيله العلمي والمعيشي ولا يتمكن من شق حياته وبناء مستقبله، ومن جهة أخرى فإنّ هؤلاء الشباب معرض للتدهور الأخلاقي بسبب المؤثرات من ثقافة وسلوكيات لا تلائمنا، ونتيجة لذلك يكون الشباب عرضة للآفات دون ضوابط وروادع حيث يصبح كل شيء مباحًا لديهم"، واعتبر الشيخ معدي أنّ المسؤولية رغم إمعان المؤسسة في سياساتها العنصرية هي مسؤوليتنا جميعا من المدارس والأهل ورجال دين وكافة الفعاليات و المؤسسات العربية في البلاد.

د.أمل جمال: علينا أولا مواصلة العمل لإلغاء التجنيد الإجباري ليتسنى للشباب التطور الطبيعي

يعتبر د. أمل جمال، ابن قرية يركا وهو محاضر للعلوم السياسية في جامعة تل ابيب ومدير مركز "إعلام"، أنّ الأزمة بنيوية وليست طارئة، بل متعلقة بمأزق المفارقات القيمية والعملية معًا، كما يعتبر أنّ القطيعة بين الواقع الاجتماعي الثقافي المحافظ جدًا وبين متطلبات الواقع العصري في حالة المواجهة المباشرة تشكل إشكالية كبيرة في عملية التطور الطبيعي. ويقول: "إن مرحلة التعليم الثانوي لدى الشباب الدرزي الذي ينتقل بعدها إلى واقع ليس له أي صلة أو معرفة مسبقة به من شأنه أن يعمق حالة الإرباك والتشوه لدى هؤلاء الشباب، خصوصًا على مستوى العادات والتقاليد والقيم الأساسية".
ويعتبر د.جمال أنّ حالة المواجهة بعد الخروج من مجتمع قروي محافظ إلى الجندية ليست منوطة فقط بمنظومة عسكرية قسرية قاسية، وإنما بتغيير جذري بأنماط سلوك اجتماعية أساسية أيضًا للتماشي مع ما هو سائد ومألوف في المجتمع اليهودي، الأمر الذي يتسبب بفجوة إدراكية معرفية ونفسية من الصعب على الشاب الدرزي أن يتعامل معها لانعدام آليات وطرق المواجهة لديه، ويقول: هذا يؤدي بدوره إلى أفق مسدود وعدم التمكن من التعاطي مع هذا الواقع الأمر الذي يحصر بالتالي هذا التفكير في إمكانيات قطبية، أي غما اندثار الشخصية أو الانحلال والذوبان في الواقع الجديد، أو المأزق النفسي السوداوي وفي بعض الحالات لا يملك الشباب أدوات لتجاوز الأزمة، ليترجم ذلك بالتالي إلى حلول متطرفة، وذلك ليس بالإقدام على الانتحار فقط بل أيضًا بتقمص صورة الآخر بسلوكيات مثل تغيير الشكل واللغة والاسم وغيرها.
ويضيف د.جمال: عند عودة الشباب من الجندية لبلداتهم التي تفتقر إلى توفير آليات المواجهة البناءة مع هذه الأزمة وانعدام الوعي للظاهرة تؤدي إلى تفاقم مثل تلك الحالات وقد تؤدي إلى تزايد ضغوطات نفسية إضافية تدفع نحو الهلاك، وبالتالي اعتبر د.جمال أن الظاهرة تحتاج إلى إدراك أكثر باعتبارها إشكال ثقافي إنساني عام، وعدم حصرها في عائلة المنتحر، وبالتالي أكّد أنّ هذه هي مسؤولية الجميع، في تكثيف الاجتهادات لخلق مناخ تطور طبيعي أمام الشباب وهذا يشترط أولا إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية.



 

التعليقات