تجريم حياة الأقلية العربية الفلسطينية والحالة الكولونيالية../ د. سهيل حسنين*

يقترح المقال الحالي توفير تحليل لقضية العنف والجريمة في وسط المجتمع الفلسطيني من منظور العلاقات والتفاعلات السياسية الحاصلة بين الأغلبية المهيمنة وبين الأقلية القومية وفي ظل الهجمة السياسية الموجهة خاصة منذ انتخابات 2009 والذي نتيجتها يهيمن اليمين على الرأي العام الإسرائيلي. يحاول المقال الحالي برهنة أن الأغلبية العبرية تحاول تعريف وتحديد العنف والجريمة من خلال عملية تصعيد وتضخيم وربط جرائم خرق النظام والعنف بالعربي فقط من خلال الاستناد على إحصائيات التي تنشئها الشرطة والمتأثرة بأيديولوجيات ومصالح ضيقة وغريبة. بالتالي يستنتج المقال أن هذه الأغلبية تبني العلاقة بين العربي والعنف قصدا وكجزء من ثقافة السيطرة والحالة الكولونيالية هادفة تجريم وعسكرة الحياة اليومية للفلسطيني

تجريم حياة الأقلية العربية الفلسطينية والحالة الكولونيالية../ د. سهيل حسنين*

مقدمة

يعتبر التطرق للجريمة والعنف في وسط الأقليات القومية من المهام الصعبة والشائكة، وخاصة حينما يتشابك الجانب الجنائي مع الجانب السياسي. هناك اتجاهان على الأقل لفحص هذه القضية: فالاتجاه الأول يركز على   الأقليات نفسها من ناحية مواقفها وتصوراتها تجاه ما يحدث بين أفرادها، والاتجاه الثاني يتمحور حول ردود فعل الأطراف الرسمية وعقلية الأكثرية الحاكمة.

تبرز هذه المقالة الحاجة الملحة إلى تفكيك وتشريح تصورات ومفاهيم تستخدمها أجهزة السيطرة والى فهم "أساليب التعرية والإيذاء" المنظمة ضمن سياسات ما يسمى بـــ "الاحتلال المدني" (1) وكيف تحاول هذه الأجهزة تجريم وعسكرة حياة الأقلية على مستوى الأيديولوجي، وذلك من خلال ربطها بالعنف وعلى مستوى إجراءات السيطرة، التي تؤدي إلى تكوين إحصائيات شرطية تبرهن عملية التجريم.

 

الوعي الرسمي: أيديولوجيات سياسية وتصورات نمطية

بشكل عام هنالك اهتمام قليل في قضايا الانحراف والجريمة العادية على المستوى الجماهيري والسياسي. يصبح الإجرام أمر رسمي بارز حين تداخل عناصر أيديولوجية وسياسية، عندها تتعالى أصوات السلطات الرسمية التابعة للأغلبية اليهودية في لصق العرب بميزة العنف والجريمة. مصدر أغلبية المعلومات المتوفرة حول الانحراف والجريمة في المجتمع الفلسطيني هي الشرطة التي تغذي بدورها الصحافة العبرية والعربية  بالأخبار المنظمة وبواسطة الناطق باسمها.  

 تنحصر علاقة الجريمة بالعربي المنتمي لأقلية أصلية في الوطن في أربعة ظروف أساسية، من الأهمية الوعي لوجودها لكي نفهم ماذا يحصل اليوم من ردود فعل رسمية اتجاه حالات القتل والمتاجرة بالأسلحة التي تحصل في المجتمع العربي المحلي. أولا: هنالك أفعال التي يتم تعريفها بواسطة السلطات بالجرائم، وهذه الأفعال تنحصر بما يسمى "خرق النظام العام" أو "التحريض" أو الانتماء لمنظمات "غير شرعية".  ثانيا: النظر للعربي ودائما أنه الفاعل للجريمة وبينما النظر لليهودي كالضحية، وخاصة في حالات العنف والاغتصاب والسرقات والسطو والمخدرات. يتم تعريف هذه الأفعال بواسطة السلطات كــ "جرائم قومية أيديولوجية والمرتبطة والنابعة من استعداد سياسي لدى الفاعل". ثالثا: الجريمة العادية والأكثر بروزا هي حالات القتل ومحاولات القتل والقتل على شرف العائلة. ورابعا: الأفعال التي يتعاون في تنفيذها عرب ويهود، حيث التصور القائم لدى السلطات أن العربي هو تاجر المخدرات واليهودي هو المستخدم للمخدرات؛ العربي هو السارق واليهودي هو الضحية؛ الزاني هو العربي والزانية هي يهودية وخارق النظام هو عادة عربي. هذه الأمثلة تعكس التصور النمطي والفكر الأيديولوجي الذي يوجه سياسية السلطات الإسرائيلية في تعاملها مع العربي في مجال الجنائيات والقضاء. 

من الأهمية التمييز، في هذا السياق، بين رد فعل الأغلبية النابع من ظروف موضوعية (بالفعل يحصل ارتفاع على مستوى الانحراف الاجتماعي في وسط العرب) وبين رد فعل النابع من عوامل غريبة (عوامل ليست مرتبطة بالجريمة والعنف وإنما بعوامل عقائدية). تظهر تجارب تعامل الأقلية العربية مع الأغلبية اليهودية أن التفسير الأكثر مناسب لإبراز العنف والجريمة في وسط الأقلية يتبع لنوع رد الفعل الثاني، حيث أن المرجعية المسيطرة  حين ربط العربي بالعنف والجريمة هي المصالح السياسية أو بما يسمى "الأمنية": يعني النظر لقضايا العربي كجزء من الصراع اليهودي الفلسطيني- العربي. التصور أن العربي هو المجرم وهو العنيف هو تصور المستند على أيديولوجيات سياسية والتي تعتبر الأساس للتخطيط والتنفيذ في تعامل السلطات مع العرب، حيث أن هذه العقائد هي الموجهة لترويج  قصص حول علاقة العربي مع العنف ولتسويق الفكرة أن الشرطة عازمة، كأسلوب للتغطية، في بناء وحدات شرطية جديدة أو إضافة ميزانيات أو استخدام طرق وأساليب جديدة لمواجهة عنف العربي.

 

جرائم المكانة السياسية

عندما نتحدث عن الجريمة والعنف في وسط أقلية سياسية من الأهمية عدم البلبلة بين مفهومين: الجريمة والسياسة. لكن في أحيان كثيرة تتطرق قيادة الأغلبية في إسرائيل لأفعال جنائية صرفة وعادية كأفعال على خلفية أيديولوجية قومية، أو تتطرق، كمثال آخر، لأفعال يومية عادية من حياة العربي كأفعال جنائية. فعندما ينفذ العربي فعاليات احتجاجية تحاول الشرطة وباقي أجهزة السيطرة ربطها بالطابع الجنائي، وبالتالي تعتقل العربي المحتج وتحول أفعاله لجنائية. تنظر دراسات وأبحاث في مجال علم اجتماع الانحراف وعلم الاجتماع الجنائي (2) للاعتقالات كشكل من أشكال الإحباط والسيطرة الاجتماعية، انعكاس لسياسات التي تنظر إلى إستراتيجية العسكرة  كمجموعة من الأدوات التي تستخدمها أجهزة الأغلبية، لصيانة وحماية سيطرتها وهيمنتها على فئات الأقليات، التي تعتبرها مهددة.

يمكن التمييز، في هذا الصدد، بين ثلاثة أنواع من الأفعال التي تعتبرها هذه الأجهزة كجرائم: (1) جرائم جنائية عادية (سرقة، محاولة قتل، قتل، الخ). (2) جرائم سياسية صرفة (الخيانة، الجاسوسية، العمالة، الخ) و (3) جرائم المكانة السياسية (مسيرة احتجاجية، مسيرة بمناسبة حدث سياسي، على سبيل المثال).

ما يهم المقالة الحالية هو النوع الثالث المسمى "جرائم المكانة السياسية" وهي جرائم المرتبطة بهوية الفاعل ومكانته القومية، بالتالي فهي لا تعتبر في الحياة اليومية للفاعل كغير قانونية وشرعية. البحث الوحيد، الذي يعتبر تحديا علميا لباحثة يهودية (3)، يركز على كيفية تجريم حياة العرب منذ 1948 خلال الحكم العسكري من خلال التركيز على المكانة السياسة للفاعل (أي انه عربي) والتي تقرر هل هو مجرم أو غير ذلك. وفق هذا البحث، ففي السنوات 1948-1966 (فترة الحكم العسكري في المناطق العربية) كان 30% من المتهمين في الجرائم ، وفق إحصائيات الشرطة، عرب ( 3 أضعاف من نسبتهم في إسرائيل آنذاك) في حين أن نسبة الجرائم ذات المكانة السياسية كانت 40% من مجمل هذه الاتهامات الجنائية. هذه الأفعال تعتبر عادية بل شرعية من منطلق حياة الأقلية السياسية ولكن بسبب تواجد الحكم العسكري أصبحت هذه الأفعال ذات طابع جنائي. فخلال فرض الحكم العسكري تم تقييد حرية وحركة المواطنين كطريقة للسيطرة على العربي، بالتالي بمجرد تنقل العربي من منطقة إلى منطقة يتم اعتقاله واتهامه بجريمة جنائية، وبالتالي فآلاف من السكان العرب تم اعتقالهم واتهامهم وإدانتهم وحجزهم في السجون لعدة سنوات. من هنا نرى أن أفعال عادية للعربي أصبحت جريمة يعاقب عليها القانون، بالتالي تم تجريم الحياة العادية للعربي بسبب هويته.

 وما يحصل منذ 2009 خاصة، أن الأكثرية اليهودية تقوم بسن القوانين التي تحد من حركة وحرية الفلسطيني فــ "قانون النكبة"، على سبيل المثال، يجرم حياة الفلسطيني مجرد مشاركته في زيارة للقرى المهدمة منذ 1948. إن أغلبية الجرائم المسماة "خرق النظام العام" هي أفعال تعكس المكانة القومية للفاعل العربي.

يؤدي اعتقاد الأغلبية الحاكمة أن أفعال العربي هي جرائم مهددة لمصالحه إلى فرض أجهزتها بشكل متباين على فئات سكانية مختلفة (عرب مقارنة باليهود) وبالتالي تنتج هذه الأجهزة عملية تجريم لحياة السكان والذين تعتبرهم هذه الأجهزة مهددة لهم.

في أحوال كثيرة، تمثيل بارز للأقلية العربية في الإحصائيات الجنائية لا يعكس الحقيقة أنهم مجرمون وعنيفون بالمعنى البسيط  للكلمة. لا تعكس هذه الإحصائيات تغييرا على مستوى سلوك أفراد الأقلية، إنما تغييرا في سياسة تكوين وفرض القوانين. أي أن التركيز على وصمة العربي أنه الأكثر إجراما وعنفا نابع من نظرة الأغلبية وخاصة القيادة الحاكمة وليس نابعا من أنهم حقيقة مجرمون وعنيفون. تحصل هذه الوصمة في سياق ما يسمى "ثقافة السيطرة"، ومن ضمنها عملية إنتاج الإحصائيات الجنائية.  

 

الإحصائيات في خدمة السياسات والعقائد

يعتبر تطبيق القانون في وسط الأقلية القومية عملية تشريع لعدم المساواة ووسيلة  لفرض السيطرة السياسية، ليس بالضرورة أسلوبا لحماية الحقوق المدنية للأقلية. إن تطبيق القانون كما تراه الشرطة في وسط هذه الأقلية ينتج إحصائيات يتم استخدامها لتأكيد ولصيانة أفكار الأغلبية بشأن علاقة أفراد الأقلية مع العنف والجريمة. من الأبحاث الهامة والوحيدة هو بحث (4) يتطرق للجريمة في وسط العرب الفلسطينيين وتحليلها من منطلق نظرية السيطرة الاجتماعية ومن خلاله يتم النظر للإحصائيات كمقياس لا يعكس الحقيقة الاجتماعية أو الكمية المفترضة للسلوك الإجرامي وإنما تقيس عمليات السيطرة الاجتماعية. يستنج هذا البحث أن الإحصائيات الجنائية محدودة الضمان ومشكوك فيها. بالتالي من الضرورة، حين تحليلها، فحصها بحذر لأنها فعلا تقيس العلاقة بين هوية الفاعل (المعتقل) وبين فعاليات أجهزة السيطرة. الاستنتاج الهام الذي يود المقال التركيز عليه هنا أن هنالك صعوبة قصوى في تفسير الإحصائيات الجنائية في أوضاع سياسية كما هو الحال في وسط المجتمع الفلسطيني منذ 1948.  وفق هذا الحال، من المفترض النظر لأجهزة السيطرة الجنائية كسيطرة سياسية، من ناحية أن تطبيق القانون وسط أقلية يتخذ طابعا عسكريا. يحاول تطوير هذا الاتجاه النظري كثير من الأبحاث التي أجريت في مجتمعات تعتبر فيها الأقليات عنوانا للقمع والإحباط (5).        

 تتبنى الشرطة هذا الطابع العسكري التي تصنف أيا من الحالات يمكن تعميمها على وسائل الإعلام بواسطة الناطق باسمها. من البديهي القول أن أغلبية الصحافة العبرية وجزء من العربية المحلية تلعب دورا جوهريا في نشر الأفكار والعقائد التي تؤامن بها الشرطة.  هنا أريد التنويه لعدة ملاحظات حول الإحصائيات الشرطية:  فالإحصائيات الشرطية هي بناء لواقع قد يكون بعيد كل البعد عن حقيقة العنف والجريمة في مجتمع محدد؛ حيث تعكس ردود فعل رسمية تجاه فئة سكانية المعرفة كمهددة لقيم أو مصالح أيديولوجية لأغلبية حاكمة، التي بدورها تبني وتطبق القانون. تعتبر ردود الفعل هذه مقاييس وفقها يتم تعريف وتصنيف أي الأفعال هي الجنائية وأي منها ليس جنائية.  هنالك أربعة مقاييس، على الأقل، التي تحدد مميزات الجريمة ومميزات المجرمين في وسط فئة سكانية محددة هي: (1) مدى الجريمة: وجود فارق شاسع بين الانحراف الحقيقي في المجتمع وبين حالات الجرائم المعروفة للشرطة، (2) شكل الجريمة: تركيز ردود فعل الأجهزة الرسمية مثل الشرطة على بعض الأفعال وتجريمها، وعدم إبراز أخرى (مثل التركيز على قضايا القتل التي تحدث في الوسط اليهودي، أو القضايا التي تكون ضحيتها يهودا؛ التركيز على تجارة الأسلحة في حال أن مصدر الأسلحة هي الضفة الغربية أو عبر الحدود)، (3) اتجاه الجريمة: التركيز على اتجاه محدد من الجرائم، مثل اتجاه الجرائم السياسية أو "الأمنية" و (4) تواتر الجريمة: التركيز على أفراد ذوي سوابق "خرق النظام العام" أو سوابق سياسية "أمنية". 

إضافة إلى ذلك، فالإحصائيات هي نتاج للقرارات المتخذة في كل مرحلة من مراحل التعامل مع الملفات أو الأشخاص فعدد المعتقلين أكثر من عدد المتهمين ومن عدد المدانين، وهنالك الجرائم المكشوفة التي فيها المجرم والضحية واضحون مقارنة بالجرائم التي فيها معروفة فقط الضحية وهناك الشكاوى لحدوث جريمة بدون معرفة الفاعل.

تعكس إحصائيات الشرطة، ومنذ العام 2007 توجه واضح وثابت بشأن فتح ملفات جنائية ضد معتقلين عرب وخاصة في مجال التهم المرتبطة بما يسمى "خرق النظام العام" ومجال التهم "الأمنية" وتهم في مجال العنف الجسماني والقتل في حين أنه حصل انخفاض في السنوات 2007-2010 لعدد الأشخاص الذين  اعتقلوا وحقق معهم بتهم جنائية بشكل عام. هذه المعطيات تعكس حصول زيادة بنسبة 8.4% في نسبة العرب في الإحصائيات الجنائية في العام 2009 (وفق جلسة خاصة للجنة الداخلية حول العنف والجريمة في "الوسط العربي" بتاريخ 14/5/2010) يقابله انخفاض وفق المعطيات الأخيرة للعام 2010. 

يشكل العرب 51% للعام 2007 من مجموع 143،450 مجموع عدد الأشخاص الصغار والكبار والذين تم اعتقالهم نتيجة لنشاط شرطي و 50.2% للعام 2008  (150،077 شخص) و- 50% ( من مجموع 151،438 شخص) للعام 2009 و50% للعام 2010 (149،855 شخص) - (وفق إحصائيات الشرطة- تقارير سنوية 2007-2010). الرسم البياني التالي يظهر نسبة المعتقلين العرب (الذين تم التحقيق معهم) لكل 1000  من السكان العرب مقارنة بنسبة المعتقلين اليهود  لكل 1000 من السكان اليهود للسنوات 2007-2010:

 

المصدر: كتاب الإحصاء السنوي للشرطة للسنوات 2007-2010، الأرقام 35-38.

 

تعكس بيانات هذا الرسم البياني، الفارق الشاسع بين نسبة المعتقلين العرب مقارنة بنسبة المعتقلين اليهود لكل 1000 نسمة، من تعداد السكان لكل فئة. هنالك تفسيران مفترضان حول هذه البيانات: الأول- يعكس هذا الفارق الشاسع أن الجريمة والعنف في وسط العرب هو أمر واقعي ويعكس ما هو موجود وبالتالي هنا الشرطة هي فقط مطبقة للقانون. التفسير الثاني يفترض أن هذا الفارق يعكس كثافة النشاط البوليسي في المجتمع الفلسطيني مقارنة بنشاطها في المجتمع اليهودي وبالتالي بطبيعة الحال تميل الشرطة إلى اعتقال أعداد اكبر من العرب نتيجة لمكانتهم القومية. تتبنى المقالة الحالية التفسير الثاني وتحاول برهنته. السخرية والهزلية القائمة هنا وفق التفسير الثاني هو أن هذه البيانات تعكس مدى الجهد الشرطي في وسط العرب في حين أن شعارات وأقوال قادة الشرطة، قادة الأمن الداخلي والقادة السياسيين يسوقون التصور أن الشرطة لا تعمل بشكل كاف في وسط هذا المجتمع أو أن العرب غير متعاونين مع الشرطة وبالتالي هادفين الضغط أكثر بقصد تكثيف نشاط الشرطة. هذا المثال يعكس جليا كيف يستخدم قادة الأغلبية أيديولوجياتهم التي تهدف لزيادة السيطرة على الأقلية ومن خلال تكثيف العمل الشرطي والذي يعني زيادة عدد المعتقلين العرب وفي أحيان تكون هذه الاعتقالات غير مبررة، كما سنرى حين التطرق لإحصائيات المتهمين الذين قدم بحقهم لوائح اتهام.

من الأهمية الأخذ بالحسبان نوع الأفعال التي توجه بحق المعتقلين الذين تم التحقيق معهم في السنوات 2007-2010 وهي كالتالي:

 

 

% ضد الأمن

% ضد النظام العام

% ضد جسم وحياة الإنسان

% ضد الأخلاق

%

آخر

%المجموع

العدد الكلي

2007

عرب

يهود

 

10.2

 1.0

 

48.3

34.2

 

22.1

16.9

 

9.4

18.9

 

10.0

29.0

 

100

100

143،450

70،290

73،160

2008

عرب

يهود

 

9.0

1.0

 

49.9

33.7

 

11.7

25.7

 

9.6

18.3

 

19.8

 21.3

 

100

100

150،077

75،339

74،738

2009

عرب

يهود

 

8.4

0.8

 

49.2

34.1

 

13.4

24.2

 

10.3

20.6

 

18.7

20.3

 

100

100

151،438

75،719

75،719

2010

عرب

يهود

 

9.2

0.9

 

48.1

34.8

 

13.9

24.5

 

8.9

20.2

 

19.9

19.6

 

100

100

149،855

74،928

74،927

المعدل

عرب

يهود

 

9.2

0.9

 

49.3

34.5

 

14.4

23.4

 

9.1

19.6

 

18.0

21.6

 

100

100

594،820

296،276

298،544

المصدر: كتاب الإحصاء السنوي للشرطة، أعداد 35-38 للسنوات 2007-2010.

 

تظهر هذه البيانات أن حوالي 60% من التهم الموجه للعرب مرتبطة بخرق قوانين ما يسمى "الأمن والنظام العام" مقارنة بـــ 35% لدى اليهود، وهذه البيانات تدحض مقولة الشرطة أن العرب دون اليهود يتميزون بالتهم المرتبطة بخرق النظام. كذلك تعكس هذه البيانات أن الشرطة تركز لدى العرب خاصة على الأفعال المرتبطة بــ"الأمن والنظام العام" لما تعتبر هذه الأفعال تهديدا لهم حسب تصوراتهم، ولذلك فالنشاط الشرطي، وفق الافتراض التفسيري أعلاه، يركز على هذا النوع من التهم الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد في عدد الملفات الموجه للعرب. بالنسبة للتهم المرتبطة بالعنف الموجه لجسم وحياة الإنسان، فالبيانات تعكس أن النسبة هي أعلى لدى المتهمين اليهود (23.4%) مقارنة لدى المتهمين العرب (14.6%) وهذه البيانات تدحض تصورات الشرطة التي تركز على ربط العربي دون اليهودي بالعنف وبإيذاء الإنسان.

من الأهمية الأخذ بالحسبان أن هذه الإحصائيات لا تفصل بين عدد المعتقلين الجنائيين في مناطق 1948 وعددهم في مناطق محتلة منذ 1967 والتي تم ضمها لإسرائيل (القدس الشرقية والجولان)، حيث من المعروف ومن المتوقع أن النسبة البارزة من التهم الموجه للمعتقلين في هذه المناطق مرتبطة بــ"الأمن والنظام العام"،  وبالتالي دمج إحصاءات جنائية لمناطق محتلة مع إحصائيات جنائية لفلسطينيي 1948 يعطي تصورا خاطئا.   

هل تعكس هذه المعطيات واقع المجتمع الفلسطيني في مجال الجريمة والعنف أم تعكس سياسة الشرطة التي تعمل على تكثيف عملها ونشاطها في وسط العرب عامة أو في مناطق محددة ونتيجة لإضافة قوى عاملة او تغيير في سلم الأولويات؟؟  صحيح أن من الصعب إيجاد الأجوبة القاطعة حول تفسير هذه الإحصائيات الجنائية ولكن التوجه القائم هو أن جهاز تنفيذ القانون يميل إلى اعتقال عدد اكبر من العرب وخاصة في زمن الذي يتم فيه وضع "النظام العام" والعنف في سلم أولويات النقاش الجماهيري والرسمي، وفي الوقت الذي يتم فيه ربط العنف والجريمة مع الإنسان الفلسطيني. إن هذا التوجه يعكس ميل جهاز الشرطة في الدولة إلى لصق جرائم العنف والجرائم الصعبة على الأقليات القومية كليما من خلال شعاراتها في الأروقة المختلفة وفعلا من خلال نشاطاتها وإحصائياتها. 

من خلال مراجعة بعض الأبحاث العبرية حول الجريمة في وسط العرب نجد أنها تستخدم الخطاب التقليدي وتعكس العقلية القالبية للهيئات الرسمية من حيث تركيزها على إحصائيات الشرطة في هذه المرحلة، وتحاول هذه الأبحاث تفسير الارتفاع في مدى الجريمة والعنف لدى العرب بالرجوع لأسباب المرتبطة بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية خاصة. يتوصل أحد هذه الأبحاث (6) إلى أن لدى العرب ارتفاع ملحوظ في الجرائم العنيفة وبثلاثة أضعاف ما يحصل لدى اليهود. يوضح بحث آخر (7) أن 40% من العرب متهمون في جرائم "ضد الأمن" في العام 2009 مقارنة بالعام 2008. هنالك بحث آخر والذي يحاول التركيز على "العربي العنيف" حيث يستخدم إحصائية شرطية ووفقها أن العرب يشكلون 60% من التهم الجنائية (8) ويبرهن الباحث أن هذا الارتفاع نابع من الأيديولوجيات الإسلامية التي تدعم العنف، على حد تفسيره. من الضرورة القول في هذا الصدد أن مجرد تطرق هذه الأبحاث لإحصائيات الشرطة كحقائق هي عملية خاطئة، وبالتالي يمكن النظر لهذه الأبحاث العبرية كجزء من ثقافة سيطرة الأغلبية على الأقلية.

في جميع الأحوال، تعكس هذه الإحصائيات نوايا وأيديولوجيات مكونيها وتعكس نتائجها القمع والسيطرة. تقترح المقالة تبني اتجاهين لتفسير هذه الإحصائيات الشرطية: الأول-  أن جزءا من الإحصائيات تعكس نشاطا يقظا للشرطة خاصة في الأفعال التي تعتبرها "أمنية" والثاني- أن جزءا من الإحصائيات هي مصطنعة وهذا التفسير هو واقعي ويؤكده تقرير داخلي للشرطة. ففي أعقاب شكوى موجهة لمراقب الدولة من حركة "اومتس" (حركة تعتني بالعدالة الاجتماعية والقضائية) ومضمونها أن إحصائيات التي تصدرها الشرطة غير واقعية وأن هنالك ضباطا في محطات الشرطة وفي المناطق المختلفة يضخمون عدد الملفات الجنائية بهدف تبرير عملهم ونجاحهم (حدشوت، 8/7/2010) بالتالي يظهر التقرير الداخلي للشرطة وبالفعل أن إحصائيات الشرطة في الملفات الجنائية هي كاذبة ومزيفة ومضخمة ومصطنعة بقصد  إظهار أن الشرطة تنجح في نشاطاتها ولكي يبرر رجال الشرطة ترقيتهم في وظائفهم. ولذلك فقد تم فتح آلاف من الملفات الجنائية وخاصة في السنوات 2006-2010 وإغلاق معظمها بسبب عدم توفر الأدلة (هارتس، 7/11/2010). فقد تم، على سبيل المثال، إغلاق 60% من ملفات "حمل سكين"  في العام 2010 في حين أن 86.5%  من هذه الملفات تابعة لمحطات الشرطة في المنطقة الشمالية (بالطبع هذه المحطات هي ضمن مناطق عربية). يعكس هذا المثال كيف تضخم الشرطة إحصائياتها لكل تبرهن أنها تنجح، وبالتالي لكي تحصل على ميزانيات وقوى عاملة إضافية. وبالطبع تعني هذه الإحصائيات "الكاذبة" اعتقال الآلاف من العرب زورا وبتهم مختلفة منها حمل السكاكين (التي هي ضمن تهم العنف ضد جسم وحياة الإنسان) ومنها تهم "خرق النظام العام". هذه الإحصائيات غير الواقعية تعني ضغوطا على واضعي السياسات الإسرائيلية أن العرب هم عنيفون، وبالتالي هنالك حاجة للموارد الإضافية والإضافية ومزيد من الاعتقالات ومزيد من الإحصائيات المزيفة وهكذا دواليك.

يقال أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" ولكن هذا القول وكما يبدو لا تؤامن به أجهزة السيطرة العبرية لأنها تؤامن بأن العربي هو مجرم وعنيف حتى بمجرد الشك أو مجرد اعتقاله وهذا هو مبدأ "التنميط العنصري" الذي تم التطرق إليه سابقا.

 

عسكرة بكل ثمن ومن دون منازع

هل ما يحصل من حالات عنف هنا وهناك في قرى ومدن عربية هي العامل للفزعة السياسية لأجهزة عبرية وهي المبرر لإعلان تشكيل "وحدات عسكرية" الواحدة تلو الأخرى والذي لا مثيل لها منذ الحكم العسكري في الجليل والمثلث والنقب؟؟ لفهم ما يحصل لا بد من فحص العلاقات بين ممثلي "الأغلبية الحاكمة" و "الأقلية العربية" في سياق أخلاقي إضافة إلى السياق التاريخي والسياسي. تظهر الدراسات أن النمطية مستخدمة بشكل عام لدى رجال الشرطة حين تعاملهم مع الأقليات والتي تؤدي إلى ربطهم بمميزات محددة وهذا بما يسمى بــ"التنميط العنصري". عادة، وصمة "الأغلبية" تجاه العربي هي أنه عنيف وهو تاجر المخدرات وتاجر الأسلحة وهو السارق والزاني والضحية هي من "الأغلبية" عادة. وهذه الوصمة تصبح أساس ثقافة سيطرة والتي نتائجها هي محاولة عسكرة "الأقلية" من منطلق القيم والأخلاق. إضافة إلى ذلك، فغاية ممثلي "الأغلبية" هو تجريم "الأقلية" وهذا أمر ليس مرتبط بحالته المحددة وإنما هو متوفر في بلدان "أكثر أخلاقية!!!" مثل بريطانيا وأميركا فالأقليات هناك ومنذ عقود، وفق دراسات عديدة، هم عنوانا لما يسمى ب "عسكرة فوق العادية" (9). فالعسكرة غير العادية هي ربط أنواع من العنف والجريمة بمناطق وفئات محددة، تشكيل كثير من الوحدات واستخدام أساليب غير عادية، إظهار إحصاءات الاعتقالات "غير العادية" وإظهار أن "الأقلية" تشكل معظم هذه الاعتقالات وثم التغطية الإعلامية العربية واليهودية المستمرة لحالات عنف وقتل وسرقة فاعلها هو عربي وضحيتها هو عربي أو يهودي ومصدرها بيانات تصدرها الشرطة بدون توقف.   

إن العسكرة والتجريم هما جزء  من ما يسمى بــ  "حالة كولونيالية" (10) للدولة العبرية التي تركز على إهمال المتطلبات الحياتية الضرورية للعربي وعلى إهمال لغته العربية في الحيز العام ورؤية حياته من منظور "أمني" ومنظور القوة والسيطرة (وليس من منظور توفير خدمة) من خلال عدم التردد في اتهامه بعنفه وجريمته ضد نفسه وضد الآخرين (والتي هي حقيقة ليست بجريمته وبعنفه) وربما هذه الحالة ستـنسيه إنسانيته وأرضه (هذه هي حالة كولونيالية تذكرنا بالنكبة والشتات). والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: هل ما ينشر عن عنف وجريمة العربي هو خطر وجودي لواضعي السياسات اليهودية؟ وهل التركيز على "العربي- الآخر المختلف" من جهتهم هي محاولة لتجاوز الصراعات الداخلية المتفشية في المجتمع اليهودي والمؤسسات الحكومية نتيجة لتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ وهل التركيز على العربي نابع من الشعور والخوف من فقدان السيطرة التي تعني، وفق  تصورهم، فقدان "الآخر" والذي يرونه تحت هيمنتهم إلى حين وفي إطار الدولة العبرية المنشودة؟ والرمزية في هذه الحالة الكولونيالية أن شعور الحاكم بفقدان سيطرته على "الآخر" معناه فقدان السيطرة على الأرض وهذا ما لا يريده. وهنا يبرز البعد الإنساني والبعد الجغرافي الايكولوجي، فالفلسطيني يحب وطنه ويحب إنسانيته، وبالتالي عملية تجريمه قد تفقده، من منطلق تصور المهيمن، هذا الحب حيث يبدأ الشعور أن تواصله مع نفسه ومع بيئته الإنسانية والايكولوجية تضعف بل تنهار، ويبدأ الشعور أن المكان الذي يحيطه ليس بمكانه الذي اعتاد عليه، وهنا يبدأ شعور بالغربة حول إنسانيته وحول وطنه الجغرافي والايكولوجي الآخذين بالنفاذ وفي ظل السياسات الخانقة الأخرى في مجالات حياتية يومية وفي ظل القوانين التمييزية المقترحة وهذا ما تصبو إليه حقيقة هذه الأغلبية.

 

المستقبل المنشود

يقترح المقال الحالي توفير تحليل لقضية العنف والجريمة في وسط المجتمع الفلسطيني من منظور العلاقات والتفاعلات السياسية الحاصلة بين الأغلبية المهيمنة وبين الأقلية القومية وفي ظل الهجمة السياسية الموجهة خاصة منذ انتخابات 2009 والذي نتيجتها يهيمن اليمين على الرأي العام الإسرائيلي. يحاول المقال الحالي برهنة أن الأغلبية العبرية تحاول تعريف وتحديد العنف والجريمة من خلال عملية تصعيد وتضخيم وربط جرائم خرق النظام والعنف بالعربي فقط من خلال الاستناد على إحصائيات التي تنشئها الشرطة والمتأثرة بأيديولوجيات ومصالح ضيقة وغريبة. بالتالي يستنتج المقال أن هذه الأغلبية تبني العلاقة بين العربي والعنف قصدا وكجزء من ثقافة السيطرة والحالة الكولونيالية هادفة تجريم وعسكرة الحياة اليومية للفلسطيني.

في حين ان قضية العنف والجريمة في وسط العرب ناتجة من الحالة الكولونيالية التي يعاني منها العربي والتي تعني سياسات التمييز ومحدودية الفرص والغربة الاجتماعية والسياسية والسيطرة على هويته الفلسطينية. إن الحالة الكولونيالية تعني وجود ثقافة سيطرة شاملة في حين أن العنف والجريمة هي حالة واحدة من هذه الثقافة وبالتالي فلتغيير الوضع لا بد للأغلبية من تغيير هذه الثقافة والتي تحدد علاقاتها السياسية مع الأقلية وهذه المهمة هي مستحيلة في ظل مقترحات القوانين اليمينية التي تعني زيادة العنصرية والتمييز المنهجي ضد أصحاب الأرض الأصليين. أما بشأن المجتمع الفلسطيني فمن حقه المطالبة بتوفير الأمن الشخصي لكل مواطن ومن حقه المطالبة بتوفير شرطة من أدوارها المحافظة على النظام ولكن من منطلق مصلحة وحاجيات المجتمع نفسه. هذه المطالب هي ضرورية لكنها تبدو بعيدة المنال لأنها بطبيعة الحال تتناقض مع ما تسعى إليه الأغلبية الحاكمة. وبالتالي، وفي ظل الحلول الجذرية بعيدة المنال يبقى متوقعا من أفراد هذا المجتمع وخاصة قيادته: (1) الوعي لمكونات جهاز وتكنولوجيا الضبط وعلاقته بحالة العنف والجريمة (2) الوعي لنوايا وأفعال ونتائج ممثلي هذا الجهاز والوعي لعملية شرعنة أقوال الأغلبية من خلال دعمهم لها و- (3) التعامل مع إحصائيات جنائية رسمية بحذر وشك شديدين.                

 

  

مراجع:

(1) Segal, R.,  & Weizman, E. (2003). A Civilian Occupation: The Politics of Israeli Architecture. New York: Verso.

(2) Oliver, P. 92008). Repression and crime control. Mobilization: The International Quarterly, 13 (1): 1-24.

 (3) Korn, A. (2000). Military Government, Political Control and Crime: The Case of Israeli Arabs. Crime, Law & Social Change, 34(2): 159-182.

(4) Cohen, S. (1989). Crime, Justice and Social Control in the Israeli Arab Population. Jerusalem: Institute of Criminology, Hebrew University. 

(5) Shaw, M. et al., (2000). Crime and Policing in Transitional Societies. Johannesburg: University of Witwatersrand.

(6) רטנר, א' ופישמן, א' (2009). ניתוח מיקרו ומאקרו של אלימות בישראל 1980-2007. אוניברסיטת חיפה: מחקר המוגש למשרד המידע.

(7) רונן, י'  (2010). נתונים על הפשיעה בחברה הערבית בישראל.  ירושלים, הכנסת: מרכז המחקר והמידע.

(8) סלע, י' (2010). עבריינות לאומנית בקרב ערביי ישראל- ג'יהאד בשם אללה. מגזין המזרח התיכון. 8 (אוקטובר 2010).

(9) Hall, S., Critcher, C., Jefferson, T., Clarke, J. and Roberts, B. (1978). Policing the Crisis: Mugging, the State and Law and Order. London: Macmillan.

 (10) روحانا، ن. وخوري، أ. (2010). اشتعال الكرمل والحالة الكولونيالية. فلسطين (ملحق السفير) العدد 8، (15 كانون الأول 2010).

التعليقات