الحاجة شيخة عادت إلى الكويكات

وتذكُر ام محمد، الحاجة شيخة، أنّ الخروج مِن البيت لم يكن سهلاً، كانَ الجو مخيفًا، الطائرات تقصفُ فترعِبُ البشر والحجر، كانَ أهلُ الكويكات يفرون هربًا، وحين مروا على قرية "عمقا"، شاهدوا أنّ أهل عمقا يركضون بنفس الاتجاه، نحو الوعرِ القريب".

الحاجة شيخة عادت إلى الكويكات

- ام محمد -

تعتزُ الحاجة ام محمد باسمها الكامل: شيخة محمد علي البيتم، كونه يرتبِطُ باسم والدها، الذي توفيَ بعد مرضٍ، وهي لم تزل بعدُ جنينٌ ابنةُ ثمانية أشهرُ، بينما لا تذكر في أيِ عامٍ وُلدت، إلا أنها – كما قالت- تُشارِف على الثمانين من عمرها، وقد وُلدت بعد ولادة شقيقتيها، إحداهما تكبرها بأربعِ سنوات، أما الثانية فتكبرُها بسنتين.
 
كانَ كُلُ شيءٍ جميلاً، بنظرٍ الطفلة شيخة، التي كانَ يحلو لها أن تلهو مع أحد أعمامِها الذي يُقاربها في العمرِ، قربَ البيت، أو معَ الحبشِ الذي كان يربيه عمها الثاني، وكانَ قبرُ والدها في قرية الكويكات، مزارُها الأول والأحَبْ، تشعُرُ أمام قبره، أنّه لا يزالُ حيًا يتحدَث اليها، بينما تُسِرُ لوالدها أنها سعيدةٌ بوجودِ عمها، زوجُ أمها ليحمي عائلتها المكوّنة من شقيقتيْن، ولكي لا تعود إلى بيتِ أهلها في البروة، وأنجبت والدتها علياء ووحيد.
كانَت الحياةُ هادئةُ وجميلةٌ في الكويكات، "قبل أن يأتي اليهود، ويحتلوا البلد".
 
تقول شيخة: "شقيقتاي كانتا قد تزوجتا قبلي، وحينَ حلّت النكبة، وخرجنا مِن بيوتنا لم نأخذ شيئًا معنا إلا القليل من الملابس نستر بِه أنفسنا، تاركين الحاكورة والتين، وبيتنا المسقوف بالبلان والخشب، وقد اغلقت المدرسة والجامع".
 
وتذكُر ام محمد، الحاجة شيخة، أنّ الخروج مِن البيت لم يكن سهلاً، كانَ الجو مخيفًا، الطائرات تقصفُ فترعِبُ البشر والحجر، كانَ أهلُ الكويكات يفرون هربًا، وحين مروا على قرية "عمقا"، شاهدوا أنّ أهل عمقا يركضون بنفس الاتجاه، نحو الوعرِ القريب".
 
باتت عائلة البيتم ليلة في الوعرِ وسطِ الأشواكِ، وحينَ لمحهم اليهود، لم ينجحوا بإخفاءِ أجسادهم، فلاحقوهم، وقصفوا مِن فوقهم "ليُرعِبوهم"، فواصلوا السير نحو يركا، لكن في عزِ الخوفِ تذكّرت الأمُ أنّ القمحَ "أمام الباب"، فقررَت العودة هي وزوجها إلى البيت، عادا فلم يجدا شيئًا، بينما جلسَ الآخرون بانتظارهما، لتعود الأم بعد فترةٍ وجيزة، بكفيْ حُنيْن".
 
ثم واصلت عائلة البيتم طريقها باتجاه أبو سنان، وهناك استقبلهم أحد الكِبار، ودعوهم الى السَكَنِ في "بَرَكِيّة" تأويهم، مكثت العائلة بضعة أشهُر، وخلالها لجأت إحدى شقيقات شيخة وزوجها إلى لبنان، وحينَ ملّ أهل أبو سنان من اللاجئين، أرسلوا إلى اليهود أنّ اللاجئين يزعجونهم بكثرتهم، فحضرَ اليهود وأخذوا شيخة وأحد اعمامها، وشقيقتها المتزوجة وآخرين مِن أهلِ عمقا والكويكات، ورموا بهم إلى مرجِ ابنِ عامر، ومِن هُناك حضرت الباصات لتأخذهم إلى بلدة جنين.
 
ثم بدأت مسيرة اللجوءِ إلى لبنان- تقول شيخة. وتتابع: "مكثنا في جنين تسعة أيام، ثم انتقلنا من جنين إلى الأردن، ومِن هُناك إلى لبنان، وقد سبقنا إلى لبنان، شقيقتي وزوجها، اللذيْن ذاقا مرارة التهجير، ليستقرا نهائيًا في لبنان، أما أنا وعمي فنجحنا بالعودةِ إلى أبو سنان، بعد أيامٍ أمضيناها لدى أقربائنا في لبنان، وعند العودة مررنا ببلدتيْ "معصوبة" و"حانيتا"، ثم واصلنا طريقنا باتجاه الكابري، ونحنُ نتخبطِ بالوحلِ وبالمطرِ الغزير، وشارفنا على بساتين الكابري، ثم وصلنا أبو سنان، ووصلنا بعد نحوِ شهرين – على ما أذكُر- بعد أن "تشحشطنا" وذقنا الأمريْن، في طريقِ العودة".
 
وتواصل ام محمد سردَ ذكرياتها فتقول: "بعد فترةٍ وجيزة طلبَ أحد شُبان عمقا يدي مِن عمي، زوج امي، ليتحول اسمي إلى شيخة محمد البيتم –رضا، سكنا في يركا، وقد انجبتُ ستة أولاد، قبل أن يُسجن زوجي، لا أذكر في أيِ سنة، لكنني أذكُر أنّ مسلحًا حضر إلى بيتنا وأعطاني صورتيْن لشقيقتَي ورسالة من لبنان، وحينَ عَلِمَ الاسرائيليون حكموا على زوجي بالحبسِ خمسِ سنوات، لكنْ ابنتي الصغيرة كانت في ما يقارب العاشرة من عمرها، طلبت من الحاكم العفوَ عن والدها، فهو المعيل الوحيد للعائلة، وفعلاً منحه عفوًا بنصفِ المدة، وهكذا كان، مِن يومها انتقلنا مِن يركا إلى كفر ياسيف، اليوم لديَ مِن الأولادِ أحدَ عشرَ ولدًا، تسعُ بناتٍ وثلاثةٌ مِن البنين، بينهم طبيبٌ وتاجران ناجحان، والحمد لله".
تتنهد ام محمد بعد حكايتها، وتُبرِق عيناها، حابسةً دمعة كادت تسقُط، حُزنًا على أشياءَ كثيرة، بينها أنها "لاجئة في وطنها" وأنها "بعيدة عن شقيقتيْها"، وأنها بعيدة عن "بيتها في الكويكات".
 
ثم قالت فجأة: انتو وين يا احبابي وأنا وين/خواتي بعاد عني
بعاد ما تحصلكو رهاوِين
وأنا لأبكي وأبكّي كل مِبتِلي
رحنا ع الغربة وما لايتْنا
وعدنا رجعنا على بلدنا
رجعنا تنوصي ولد ولدنا
اوعو يا حباب للعُرب تودونا
 
تواصل ام محمد حديثها بالقول: "كانت الحياة أحلى بكثير، مبسوطين كُنا، اليوم الأهل صاروا يعادو بعض".
 
وعن عودتها إلى الكويكات تقول: "ان شاء الله نرجع ونموت ببلدنا، عللوا فضل من الله، نموت ببلدنا، قرب قبر ابوي".
ثم تتذكر حال قبر والدها فتقول: "وجدنا قبر والدي محطم بلا تواريخ، ودائمًا أزور الأرض، وأتذكر البئر أحجار البيت، أينَ كُنا نسكن، وماذا كُنا نأكُل، وأحفادي يؤمنون أنّنا عائدون".
 
تسكُت ثم تقول: "لا يوجد ظلم أكثر من الظلم الذي تعرضنا له نحنُ الفلسطينيين، هُجرنا ونحنُ بأحلى منام، لقد أخافونا بدير ياسين حين قالوا أنّهم يضربون الأولاد هُناك ويشقون بطون النساء، ويحرقون الصغار والكبار".
 
عن شقيقتيْها قالت: "التقيتهم قبل سنتين في عمّان، كانَ اللقاءُ مفرحًا، أما الفراق فكان صعبًا ومُرًا، تركنا بعضنا ونحنُ نبكي الفرقة".
 
ثم أنهت كلامها بالقول: "ان شاء الله نرجع ع بلدنا، ترجع فلسطين بدنا نموت ومنشفش بعضنا، انشلع قلبنا ما نغدر نعمل اشي. الحكومات مش غادرة تعمل، احنا بدنا نغدر؟ ان شاء الله نرجع ع ترابنا".

التعليقات