محروس زبيدات.. قصة لشهيد العنف لم تُكتب بعد

هو العنف يضرب مجددًا بين ظهرانينا، نتألم ونحزن يومًا أو أسبوعا ونعود الى حياتنا "الطبيعية”، حتى الجريمة الجديدة لنتحدث عنها في حلقات التنفيس عن العجز. قابليتنا كمجتمع لارتكاب جريمة قتل تزداد يوما بعد يوم، ناهيكم عن ظواهر أخرى تنخر في جسدنا بشكل مستمر.أحيانا لا نرى الدور المركزي للسلطة أو النظام في إنتاج ما يحصل، وأحيانا أخرى نتعامل مع عنفنا تجاه بعضنا الناتج عنا وكأنه أمر عادي أو مطلوب. وأحيانا أخرى لا نعرف الضحية التي نحزن عليها ونتعامل معها كرقم جديد أو اسم جديد لحق بركب عداد يهدد قيمًا نحلم فيها أو نحاول المحافظة على ما تبقى منها.

محروس زبيدات.. قصة لشهيد العنف لم تُكتب بعد

المغدور محروس زبيدات

هو العنف يضرب مجددًا بين ظهرانينا، نتألم ونحزن يومًا أو أسبوعا ونعود الى حياتنا "الطبيعية”، حتى الجريمة الجديدة لنتحدث عنها في حلقات التنفيس عن العجز. قابليتنا كمجتمع لارتكاب جريمة قتل تزداد يوما بعد يوم، ناهيكم عن ظواهر أخرى تنخر في جسدنا بشكل مستمر.أحيانا لا نرى الدور المركزي للسلطة أو النظام في إنتاج ما يحصل، وأحيانا أخرى نتعامل مع عنفنا تجاه بعضنا الناتج عنا وكأنه أمر عادي أو مطلوب. وأحيانا أخرى لا نعرف الضحية التي نحزن عليها ونتعامل معها كرقم جديد أو اسم جديد لحق بركب عداد يهدد قيمًا نحلم فيها أو نحاول المحافظة على ما تبقى منها.
 

يعود إلى البيت ظهرًا بعد تمرين لكرة القدم التي أحبها، يستحم ويلبس أجمل ما عنده، ويخرج للقاء أصدقائه في المساء. قبل ذهابه للموعد المفترض يقصد هو وصديق آخر له إلى منزل في حي آخر بمدينة حيفا كي يحل قضية مضايقة فتاتين بشكل مستمر لأخته ماريا. يقصد محروس ابن الثامنة عشرة هذا المنزل للمرة الثانية بعد أن قام في مرة سابقة قبل شهر تقريبا بالتوجه الى نفس المنزل وحل القضية بشكل سلمي، موعودا بأن لا تتم مضايقة أخته ماريا التي أخفت تعرضها للمضايقة والإهانة والضرب كانت تتعرض له في كل مرة يرونها في الشارع لمدة سنة، الى أن أخبرت أخاها محروس القريب عليها، لكن هذه المرة السيناريو مختلف، والدة الفتاتين تطرد محروس وترمي عليه كرسيا، فيهم بالخروج بعد أن لم يجد مع من يتكلم. وهو خارج من المنزل يتلقى سكينا غادرة في أعلى يمين ظهره، يهرب صديقه الذي تعرض للضرب أيضا، ويهرب محروس النازف بشدة الى طريق آخر، بعد قليل يقع محروس أرضا وينزف حتى الموت المفاجئ في مساء يوم الجمعة الماضي.

القاتل لم يكترث لما حدث، ولم يطلب الإسعاف، صديق محروس لم يجده كون كل شخص منهم هرب في طريق مختلف، من خلال الصدفة وجدوا محروس مرميًا على الأرض. يُنقل الى مستشفى "رمبام”، يصل الأهل الى هناك بعدما وصلهم خبر الفاجعة، في غرفة الطوارئ يتفحص الأب مكان الطعنة فيجدها من الخلف، فيتأكد الوالد أنها طعنة غادرة كون محروس ابنه قادر على صد الطعنة لو كانت من الأمام.

فاجعة محروس هزت مدينة حيفا وكانت صدمة مهولة لكل من عرفه، خصوصًا لأصدقائه وأولاد صفه في مدرسة المتنبي، كيف لإنسان بسيط ومميز ومسالم أن يُقتل هكذا وبكل بساطة؟ لم يتصور أحد أن الموت في بلادنا أصبح بكل هذه السهولة، وممكن أن يطال شخصا مثل محروس الذي حارب كل حياته العنف ودعا للمحبة والسلم، فهو الذي أرسل مرة رسالة الى رئيس بلدية حيفا "يونا ياهف” يطالبه فيها بوضع حد لظواهر العنف المستشرية في المدينة. فمحروس شاب طموح جدا وموهوب، كان يحب الرياضة خصوصا كرة القدم، قبل فترة وصلته رسالة قبول للسفر الى اسبانيا للتدرب هناك كي يلتحق فيما بعد بأحد أندية كرة القدم الاسبانية للشباب، لكنه لم يسافر كي لا يترك عائلته.

موت الحياة سبق موته في الفيلم
لمحروس موهبة ايضا في التمثيل، وكان قد شارك في فيلم من اعداد مدرسة المتنبي والذي فاز بالمرتبة الثانية في مسابقة للأفلام القصيرة نظمتها بلدية حيفا، ومؤخرا حصل على القبول للدراسة في أكاديمية للتمثيل في مدينة تل ابيب.

اضافة الى ذلك، كتب محروس فيلما وأخرجه ومثل فيه تحت عنوان "القناع” الذي تدور أحداثه حول ثلاثة أصدقاء يرتدون الأقنعة ويقومون بمحاربة الآفات الخطيرة على المجتمع مثل العنف والتحرش والسرقة والمخدرات في ظل تقصير الشرطة بدورها لوضع حد لهذه الظواهر.

هذا الفيلم فاز في مسابقة للأفلام في المانيا وكان من المفترض أن يسافر محروس لاستلام الجائزة. كما كان يحضر لفيلم جديد تدور أحداثه أيضا حول العنف ويلعب محروس فيه دور ضحية العنف في الفيلم الذي سيموت، لكن موته في الحياة سبق موته في الفيلم.

هل أنا مخطئ؟
في بيت محروس يتوافد الناس لتقديم التعازي بشكل كبير، ويتحدثون عن القضاء والقدر وأن ما حصل لمحروس مكتوب من عند رب العالمين، أما في دفتره الخاص فقد كتب محروس أمنياته في الحياة باللغة الإنكليزية: "وظيفة وراتب محترم”، "منزل وصديقة”، "رخصة سياقة وسيارة”، "أصدقاء جيدون” و "أن أكون وأشعر بشكل جيد”، ثم تساءل في نهاية النص "هل أفعل شيئا خاطئا؟”.

وفي نص آخر كتبه يقول فيه إنه يريد أن يكون في قمة العالم ويرغب بالعيش في برشلونة بمنزل على الشاطئ، ويريد الهام الناس حول العالم ويختتم بالقول "ان تبتسم، أن تتحدى، أن تذهب حتى النهاية دون أي خوف، أن تحقق كل أهدافك”.

وفي رسالة ثالثة وُجدت في القرآن في غرفته، يُلخص محروس سنة 2011 ويشكر فيها عائلته وأصدقاءه على الدعم والمحبة، ويكتب أمنياته لعام 2012 جاء فيها: "حب + كل يوم تمرين + أمان = نجاح”.

محروس هو الذي رباني
والد محروس يتحدث عنه أمام المعزين بفخر واعتزاز لكن والألم يعتصره، يخبرك عن مفاجأته بنشاط وموهبة محروس، فهنالك العديد من الأمور لم يكن يعرفها عن ابنه قبل مقتله، وكم هو محبوب وفعال ونشيط في العديد من الأطر والمجالات. في الكثير من الأحيان كان يأتي عليه في الساعة الرابعة صباحا فيجد محروس ما زال مستيقظا، يجده يقرأ أو يكتب، أو يتمرن في غرفته، ويسأله الا تريد النوم؟ فيقول محروس "احنا خلقنا من شان ننام؟ بس أكبر بنام”.


- موفق زبيدات في غرفة ابنه (تصوير: فصل المقال) -

ويسهب الوالد في الحديث عن شخصيته وخصاله وكم كان مسالما ومحبا للحياة والناس، فإذ كان أحد أصدقائه يدخن، يمنعه عن ذلك ويكسر له السجائر، أو كيف كان يلبس الصليب ويذهب إلى الكنيسة وهو ليس مسيحيا، وكيف كان جو البيت مفعما بوجوده وحركته.

يتألم موفق زبيدات جدا وهو يتحدث عن ولده المغدور وهو جالس في غرفته وبين أغراضه، بداخله غضب كبير، ولم يخف أنه في البداية فكر بالانتقام لمقتل ولده، لكنه استدرك نفسه بعد ان استوعب رسالة ابنه كما يقول، رسالة سلام ومحبة إذ قال "محروس هو اللي رباني ووعاني على كتير أشياء بالحياة بعد موته”.

يخبرك كيف أن محروس كان يطلب منه العودة إلى بلدهم الأصل سخنين التي تركها الوالد بعد اعتقاله وهو دون سن البلوغ بسبب رفع العلم الفلسطيني في ذكرى يوم الأرض مما ادى الى سجنه ونقله الى اكثر من بلد. "هاي حلم محروس تحقق.. رجع على سخنين، دفتنو حد سيدو اللي هو أبوي اللي بحمل نفس الإسم محروس وهاي صورتو معلقها محروس بغرفتو.. واللي انقتل غدر زي ابني محروس ابني”.

يدرك الآن الأب لماذا كان محروس يخفي عنه قصة مضايقة ماريا، فمحروس كان يخاف على والده كونه أجرى عمليتي قسطرة، وأراد بنفسه حل الموضوع. لكنه يتحسر على غيابه ومقتله من قبل عائلة أتت من الضفة الغربية وأدخلتها اسرائيل الى حيفا وأسكنتها في المدينة كخدمة مقابل أمر ما قدمته لهذه الدولة، مشيرا الى تهاون الشرطة مع هذه العائلة فيما يتعلق بكل التجاوزات والمخالفات القانونية المعروفة عنها، مما دفعها الى اقتراف الجريمة الأكبر وهي قتل ابنه محروس.

لم أستطع أن استمر أكثر في المقابلة داخل غرفة محروس، فالوالد مشغول بالناس والاتصالات خصوصا وأن الأحزاب ولجان الأحياء والمؤسسات الأهلية في حيفا، بصدد تنظيم مسيرة كبيرة في تاريخ 7\5، اضافة للتعب واللوعة خلال الايام الاخيرة.

قصة محروس قصة كثيرين من أبناء شعبنا، الذين قضوا جراء اعمال عنف اصبحت بالنسبة لنا أمرا معتادا بأن نسمع عنها او نقرأ اخبارها، حتى أصبحنا نعدهم بالأرقام ولا نبحث عن قصة حياتهم، من كان يعلم ما كان سيصبح عليه محروس او غيره ممن فقدناهم، بعد فقداننا لمناعتنا كمجتمع أمام حالة غياب الأمان الناتجة عن تهاوننا بالتخلي عن قيم أساسية لأي مجتمع سليم.. فلو تظاهرنا وكتبنا من أجل محروس.. قصته لم تُكتب بعد حتى نحقق ولو شيئا بسيط مما حلم به محروس.

التعليقات