صيادو عكا: "ليت الزمان يعود يومًا"!

في مثل هذه الساعة المبكرة، وفي عزّ موسم الصيف، كانَ يحلو لصيادي عكا اعتلاء قواربهم والانطلاق بِها في عباب البحر، وكان الوقود يكفيهم لساعاتٍ طوال، يقضونها في التقاط أسماك البحر بأنواعها المختلفة، ومع كُل نوعٍ جديد مِن الأسماك، كان قلب الصيّاد يخفق بفرحٍ كما لو أنه ملك الدنيا كلها، "كيف لا؟ وهواء عكا يردُ الرُوح للمنهك بعد رحلةٍ بحرية جلبت معها مؤونة أسبوعٍ كاملٍ، ومبلغًا محترمًا مِن المال يسترُ الحال ويُفرح العائلة" هذا ما قاله أبو حسن (ادريس الحتحوت) صيادٌ عكاويٌ عريق، قبل أن يرتشف قهوته ويصمت.

صيادو عكا:

في مثل هذه الساعة المبكرة، وفي عزّ موسم الصيف، كانَ يحلو لصيادي عكا اعتلاء قواربهم والانطلاق بِها في عباب البحر، وكان الوقود يكفيهم لساعاتٍ طوال، يقضونها في التقاط أسماك البحر بأنواعها المختلفة، ومع كُل نوعٍ جديد مِن الأسماك، كان قلب الصيّاد يخفق بفرحٍ كما لو أنه ملك الدنيا كلها، "كيف لا؟ وهواء عكا يردُ الرُوح للمنهك بعد رحلةٍ بحرية جلبت معها مؤونة أسبوعٍ كاملٍ، ومبلغًا محترمًا مِن المال يسترُ الحال ويُفرح العائلة" هذا ما قاله أبو حسن (ادريس الحتحوت) صيادٌ عكاويٌ عريق، قبل أن يرتشف قهوته ويصمت.

أما أنا فكنتُ أراقبه وهو يجلسُ أمامي بابتسامةٍ ذليلة، وهو يُشيرُ إلى المجموعة الجالسة في المقهى، وجوهٌ عابسة، مهمومة، "هؤلاء كانوا يضحكون للبحرِ فيبتسم لهم، أما اليوم فما عسانا نحكي، عن ماضٍ ليته يعود مِن جديد، هُنا في هذا المقهى في وسط عكا القديمة، بدأت علاقتي بالصيد، وهُنا اليوم أبكي على ما مضى".

في هذا الرُكنُ المنزوي في أزقة عكا القديمة، لا زالَت نكهة القهوة "تفحفح" فتداوي العليل، وجُلّ المارين مِن أمام المكان هم عربٌ، ينظرون إلى الوجوه فيعرفون أنّ هؤلاء هم قلبُ هذا المكان، هُم جسرُ الوصول إلى عكا.

وتغني أم كلثوم كعادتها بصوتٍ منخفض، تشغلُ قليلاً مِن تفكير مسني عكا، الذين يرتبون أوراق الشدّة أمامهم بصمتٍ جلّي، بعضهم نفخ نفسًا طويلاً من أرجيلته ثم عاد ليعدّ أوراقه ثانيةً.

وفي أضيقِ زواريب عكا جلس الحاج ادريس حتحوت (77 عامًا) قبالتي وراح ينظر إلى المارين تارةً، ويجيبني على تساؤلاتي علّه كما قال "يعود إلى الماضي الجميل".

كان يتحدث إليّ فأخاله يجلس قبالة البحر ويروي حكايته: "ولدتُ عام 1935، وفي النكبة كنتُ ابن 13 عامًا، أبحرَ شقيقي الأكبر إلى لبنان، أما أنا وأخي الأصغر وثلاث شقيقات فكُنا مع والدي نعيشُ في دكانٍ عند آخر هذا الحي قريبًا مِن هُنا، وفي ليلةٍ لمع نجمها قلتُ لوالدي أنني سأتعلم مهنة الصيد، عملتُ مع عائلة الحلواني، علمًا أنني لا أجيد القراءة ولا الكتابة كوالدي، ولا مهنة لي غير الإبحار وصيد الأسماك، وحين باعَ أبي دكانه صرُت أنا المعيل في البيت". "في مهنة الصيد تقلبت أحوالي، في البداية كانَ هديرُ البحرِ قويًا يحملُ معه غلّةً وفيرة مِن الأسماك مختلفة الأجناس، لكن لاحقًا شاخَ البحرُ وكبرتُ أنا فما عادَ الحالُ يكفي وما عادت رزقة العيالِ تكفيها بضعُ سمكاتٍ أغرفها من قاعِ البحر".

يتابع أبو حسن: "معظمُ العرب في عكا اعتاشوا على صيد الأسماك، كُنتُ في كل صباحٍ ألتقي بالمئات مِن العكاويين المنطلقين إلى البحر برأسِ مرفوعة وبسمة تملأ الوجه،  وما كان يزعجنا طقسُ عكا، الذي يسفع الوجوه فيزيدها احتراقًا وسمارًا، بل كان يطيبُ للصغار والشباب منهم القفز إلى الماء كالأبطالِ، كالأسماك التي لا تعيشُ بدون البحر، ينتعشون وترتد اليهم الحياة من جديد".

"أما الصيّاد فكان مشغولاً بمركبته، وصنارته المقصّبة، التي تغيّرت وصارت أكثر قوة وخفّة في الوزن، هكذا سار الصياد بتطوراتٍ عصرية علّه يسبق الزمن، لكن الحال توقف ماديًا ونفسيًا أيضًا، في ظل وجود عملية حصارٍ للصيادين والضرائب الباهظة غير المبررة المفروضة على الصيادين العرب، خوفًا من الاقتراب من "منطقةٍ أمنية"، ومع التضييق وسوء الحال وشُح الأسماك في البحر وثمنه الباهظ، والوجبة الملوكية التي تصل إلى 300 شاقل، بينما يعتمد باعة السمك في عكا هذه الأيام على الأسماك المجففة، ولهذا تركتُ المهنة وأصبحتُ عاطلاً عن العمل، يكفيني ما أصرفه مِن مبلغٍ زهيد، وما عسى المُسن في عمري أن يشتري، ليستعيد أيامه الخوالي؟!".

"ليت الشباب يعودُ يومًا"

يسرح أبو حسن بخياله وكأنه يمخر عباب البحر وبصوتٍ خافت يقول: "للبحر وأمواجه ذكرياتٌ جميلة منذ الصبا، وللفنار  في عكا صورةٌ لا يمكن محوها من ذاكرة العكاوي، يكفي النظر من هناك إلى مدى البحر الواسع لتشعر أنك في جنة الرضوان، أحلُم أحيانًا لو أنّني أسترد حياتي من جديد وأقفز كالشباب إلى البحر أشكو متاعبي ويحتضني كالأبِ الحنون".

ثم عاد إلى واقعه: "تزوجت وكوّنت أسرة كبيرة، تزوجُ أبنائي وبناتي وأنجبوا أحفادًا، وكلهم يحبون عكا مثلي، أشعرُ أن دمي الذي يسري في شراييني أصله من بحرِ عكا، وكذلك هُم."

"لكن اليوم تبدل الحال، صارَ البحرُ يبكي أسماكه التي فارقته، جاءت مراكبٌ كبيرة "الكوبرا" أتت على الأخضر واليابس، لكن الأسماك لم تعد تبيض وتتكاثر كما كانت، وماذا يفعل الصياد العكاوي أمام هذا؟! إنّ رحلةً بحرية لإحضار بعض سمكاتٍ لا تتجاوز أصابع اليد تتطلب كمية بنزين كبيرة، وفي نهاية اليوم، كنتُ أعوُد إلى البيت مع خسارةٍ وخوفٍ أن أحظى للأسف بمخالفةٍ تصل إلى ثلاثة آلاف شيكل من رجال الخفر".
يعود إلى ماضيه: "معظم عائلتي شُردت إلى لبنان يوم النكبة، وذهبت أربع شقيقات لي برفقة أزواجهن، أقمن في بيروت، ورحلن إلى الأبد، ولم التقيهن ولو صدفة".

"ما عاد بالإمكان إعادة ما كان، ولا عودة من رحلوا. وأظنك تصدقيني القول أنّ الذي يتكسّر لا يعود مِن جديد، كهذه "الزجاجة" كيف لها أن تلملم شظاياها مِن جديد؟! أنا كذلك، وبات لقاء الأحبة حُلمًا صعبَ المنال، لكنّها سنة الحياة".

سألته: لماذا لم تبحث عن مهنةٍ ثانية، بعد الصعوبات التي مررتَ بها؟!
"يصعب علي العمل في مهنة أخرى". يُشير إلى كرسيه: "هنا في هذا المقهى يحلو لي مراقبة الأصدقاء في مثل جيلي والزائرين من أبناء الحي أو السيّاح الذين أراهم للمرة الأخيرة ربما، لكنني أحمد الله أنني أعيش على راتب التقاعد".

"ماذا لو تركت عكا؟!" سألته، فردّ بصرامة: "أعوذ بالله، هل أترك مسقط رأسي، رأس مالي؟! لا أبدل عكا وبحرها بمال الدنيا، صحيحٌ أنني أجبرتُ على ترك بيتي الذي سكنته العائلة في زقاق الحي، لكنني منذ ساعات الصباح وحتى عصر اليوم أقضيه هُنا، على هذا الكرسي، أو يحلو  لي "التدرُج" في زواريب عكا، حتى أصل إلى الناحية الغربية، أشمُ نسيم هواء البحر فأنتشي لأسبوعٍ كامل".

وختم كلامه: "من يستطيع إخراج عكاوي من بيته، من أمام بحره، بالقوة وبالتهديد؟!! أليس هنالك قانون وحقوق ومنطق؟! اللهم إلا إذا كان هُناك مَن يسترخص مُلكه فيبيعه، لكن لا أعتقد أنّ أحدًا يستطيع إجبارك على التخلي عن عكا - نبض قلبك وحياتك، عن بدايتك ونهايتك".

مصطفى زكور: كلما كبرتُ ازددتُ عشقًا لبحر عكا!

تحت مظلة في الميناء البحري في عكا، التقيتُ بالصياد مصطفى زكور (66 عامًا)، ابنُ عكا، عمر مهنته أكثرُ مِن خمسة عقود، حيثُ بدأ الصيد وهو بعدُ في الـثانية عشرة من عمره، يجلسُ في المكانِ المخصّص للسيّاح الذين ينتظرون دورهم في المراكب المُبحرة، لكنهم في ظهيرة صيفٍ حار، كانوا قلّة، وعليهم الانتظار طويلاً حتى يزيد عددهم لينطلقوا تحت قيادة البحار مصطفى زكور في مركبه، وفي أجواءِ فرحٍ خلقته اسطوانة بأصواتِ مغنين عرب وموسيقى صاخبة تُراقص المركب والبحر والرّكاب.

يقول الصيّاد زكور: "تعلمتُ المهنة من جدي، وعشقتُ البحر، كانت الحياة في الماضي أفضل، جميع الصيادين أصدقائي ويرضوْن بما قسم الله لنا، على قلته، لكننا اليوم، رغم التقدم الحضاري، الذي سهّل العمل اليدوي بفضل الأجهزة، لكنّ الوضع زاد سوءًا".

تساءل زكور: "كيف سُمح لأصحاب المصانع بتلويث البحر بصناعاتهم لستُ أدري؟! لماذا لم تعد الحكومة تريد أسماك عكا لستُ أدري؟ كُنا نُدخل مئات الأطنان، وصارت الاف الأطنان تُستورد من الخارج على شكل "علب سردين" ولم يعودوا بحاجتنا، ما عاد يُشبعهم بحرُ عكا، صارَ كالشارع، ممرًا للعابرين، ومحطة انتظار قبل الإبحار، لذلك غيرتُ مهنتي، صرتُ قائدًا بحريًا على مراكب سياحية، علّنا نكسب غلتنا بعرقِ جبيننا، بدلاً من البطالة".

صيادو عكا جياع!

يقول زكور: "نحنُ مزارعون، لكنني مقلٌ في الصيد، وحين أخرجُ لأصطاد لا أعرف كم ستكون الغلّة، بضعُ سمكاتٍ أو أكثر، وفي كل صندوق للسمك، هناك دلاّل، يأخذُ الأسماك والعمولة (8%). والدلاّل هو مَن يوزع السمك على الباعة كما يشاء أما الصيادون الآخرون فهم كثرٌ في عكا لكنهم جياع، فالسمك بدأ ينقرض، ولم يعد هناك سمك السردين ولا الفردية ولا البوري البحري ولا البلمود، والأخير يكفي لإعالة ثلاث عائلات في يومٍ واحد".

يضيف: "ليس صدفةً لقاءك بالصيادين في المقاهي بين زقاقات عكا، ماذا سيفعلون غير ذلك؟! إنهم لا يعرفون غير مهنة الصيد، وإن ابتعدوا عن بحر عكا، سيموتون جوعًا، ولا يفلحون تعلّم مهنةٍ أخرى، بل لا يروق لهم ذلك، لذا تجدينهم يحصلون على ضمان الدخل، ويقضون نهارهم في استعادة الذكريات".

ويتابع: "معهم حق، فالصيد في عكا مسألة متعبة، وخيرُ دليل أنّ هناك دفعات لا بُدّ من تخصيصها وإلا عادَ الصياد إلى بيته فارغ اليدين والجيوب، فهناك ترخيصُ سنوي للمركب، وهناك ضرورة لوجود فاحص، ورخصة للصيد وللسياقة، وفحص دائم للمراكب المُبحرة، والتأكد مِن تقنية الآلات فيها، وخيرُ الأيام هي نهاية الأسبوع، حيثُ تساهِم في تحسين الوضع عبر جولتين بحريتين في منطقة عكا وليس أبعد".

يُشير لي بإصبعه: "أما هذه السفن المُشرّعة الواقفة، فهي خاصة، للمقتدرين من وغالبيتهم من اليهود، إنها منطقة "المارينا" وهؤلاء البحارة يسافرون بحرًا عندما يطيب لهم أن يصلوا إلى تركيا أو قبرص أو فرنسا، وهي مجهزة بالمطلوب مِن التراخيص، والجي بي اس، مرشدهم السياحي الحديث، ويصلون إلى الصين، دون أن تعيقهم الإجراءات الأمنية، عكس أحوالنا. وخلال تجوالهم البحري، يتنقلون بين العواصم، يملأون مراكبهم بالاحتياجات ويزودونها بالبنزين".

يبتسم ويقول: "أما أنا أطول رحلاتي الشخصية فكانت إلى غزة بين الأعوام 1995 والعام 2005، حين كانت غزة في عزها، وبحرها يعجُ بالمسافرين والوافدين، غزة اليوم مُغلقة، وهي التي كانت تستورد الأسماك الصغيرة بنهم، خاصة سمك السردين، كُنا يومها نحمّل أكثر من 100 صندوق فوق مراكبها، أما اليوم، فأكثر من 30 صندوقًا نُضطر إلى رمي البقية في البحر أو في سلال النفايات".

صمت قليلاً، ثم تحدث إلى مجموعة من الصغار قائلاً:  "الرحلة بعشرة شيكل". ولما لم يلتفت اليه أحد، التفت إليّ وقال: "-كله رايح- كان عمري يوم كانت الحياةُ في عزها في أوائل العشرينات من العمر، اليوم لم أعد شابًا، ولا أطلب ما كنتُ أحصل عليه وأنا بعدُ في عزّ الشباب، يكفيني ما أحصل عليه من رضى الله، لا اعتراض، الحمد لله أنّ الحال ميسور وأبنائي يعيشون من هذه النعمة".

سألته: أتأسف على الوضع الحالي؟!
"لاء أبدًا، لا أأسف على شيء، ولي الشرف أنني من هنا مِن عكا، ومن ولد في بحر عكا، لا يمكنه أن يعيش في الصحراء، ولن أبرح المكان هُنا، لا أستطيع بلا بحر، وبلا نسيم البحر، سأظل هُنا، أعيشُ على ما يسره الله لي".

وماذا عن سائر الصيادين المعطّلين: "وضعهم سيء جدًا، يتساءلون كيف سيدفعون ثمن البنزين؟! بعضهم يقترض من المعارف، ليكمل نهاره، ويشعر أنه أنجز شيئًا يُحسب له، إنهم لا يريدون الخروج من عكا، ولا اختيار مهنة اخرى، روحهم في بحر عكا".

عن عدد العائلات التي تعتاش من صيد الأسماك قال زكور: "هناك حوالي الـ 50 قارب صيد بمختلف الأحجام وهي تشكل مصدر رزق لأكثر من 150 عائلة، علمًا أننا يومًا ما كُنّا ألفي صيّاد، أما اليوم فلم نعد نتجاوز المئتي شخص".

التعليقات