الصيّاد سعدو زينب: لنا بحرُ يافا!

وما كان ليختلف حالُ الصيادين الذين عايشوا النكبة، عن حالهم اليوم بعد مرور 65 عامًا على النكبة، فما عايشه الصيادون ومنهم والد الصيّاد سعدو زينب – عطا – لم يتغيّر كثيرًا عما يعيشه اليوم ابنُ الخمسينَ عامًا، "فالاحتلال الذي حارَب الصيادين وغيّر معالم البحر والشطآن، هو نفسه الذي حاربنا في لقمة عيشنا طوال الوقت"، "هذا أقلّ ما أقوله عما جرى ويجري من مضايقة وتجويع لطردنا من يافا، وتحويلنا إلى عبيدٍ، في خدمة السيّاح".

الصيّاد سعدو زينب: لنا بحرُ يافا!

ما أجمل وأقسى قصيدة يافا، التي تحكي وجع صيادي يافا، تقولُ كلماتُها، التي كتبها ولحنها الأخوان رحباني:  "أذكر يوما كنت بيافا، وشراعي في ميناء يافا، يا أيام الصيد بيافا، نادانا البحر ويومًا صحو فهيأناه المجدافا./نلمح في الخاطر أطيافًا عدنا بالشوق إلى يافا، فجرًا أقلعنا زبدًا وشراع، في المقلة ضعنا والشاطئ ضاع، هل كان الصيد وفيرًا؟/وغنمنا منه كثيرًا قل من صبحٍ لمساء نلهو  بغيوب الماء".

وما كان ليختلف حالُ الصيادين الذين عايشوا النكبة، عن حالهم اليوم بعد مرور 65 عامًا على النكبة، فما عايشه الصيادون ومنهم والد الصيّاد سعدو زينب – عطا – لم يتغيّر  كثيرًا عما يعيشه اليوم ابنُ الخمسينَ عامًا، "فالاحتلال الذي حارَب الصيادين وغيّر  معالم البحر والشطآن، هو نفسه الذي حاربنا في لقمة عيشنا طوال الوقت"، "هذا أقلّ ما أقوله عما جرى ويجري من مضايقة وتجويع لطردنا من يافا، وتحويلنا إلى عبيدٍ، في خدمة السيّاح".

كالموسيقى الآتية من أعماقِ هذا المكان، كانت أمواجُ بحرُ  يافا، تتلاطم بعضها ببعض، فيبدو المنظرُ ساحرًا عظيمًا، ولهذا البحر عالي الأمواج نكهة لذيذة، أطيبُ من الشهدِ، مذاقٌ حلوٌ جعل الصيّاد اليافاوي سعدو زينب (50 عامًا)، لا يبرحُ المكان، وإن اضطُرَ يشعُر بالغرق لو فارق البحر وشطآنه.

عاشقُ البحرِ .. صيّادٌ منذ الولادة!
سعدو، صيادٌ ماهر، ورث مهنته أبًا عن جَد، وعشق بحر يافا، فقرر ألا يبرح ميناء يافا مهما ضاقت بِه سُبُل العيش، فقد بنّى غرفة صغيرة لينام فيها، وبالكادِ يعودُ مرة أو مرتين حين يشتاقُ لرؤية عائلته، لكنُه منشغلُ طوال الوقت بالصيد وبمتابعة قضايا الصيادين، مِن الغرفة التي خُصصت، كزاوية للصيادين العرب في يافا.

يحدثني سعدو عن ارتباطه بالبحر: "أنا مولعٌ بالبحرِ منذ كنتُ صغيرًا - بل منذ الولادة- طوال الوقت كنتُ ألتصقُ بجسد والدي الصيّاد ذي التجربة الطويلة، وأسترق النظر إلى البحر وزرقته، فأشعرُ أنّني في دُنيا لا تشبهها جنة، وكان الجميلُ أنّ بيتنا القديم كان قريبًا من شاطئ البحر، فكنتُ مدمنًا على رائحة البحر، وعند كلّ صباحٍ أمرُ على البحر أسترق نظرة ثم أواصل سيري الى المدرسة، وزاد الحُب للبحر  بعد اقترابنا أكثر من الميناء، فنحنُ نقيمُ اليوم في العجمي، ولا يفصلنا عن البحر إلا خطواتٍ، لكنّ الدولة ضيّقتها علينا كثيرًا وجعلتها بيننا وبين البحر جدارٌ فاصل، يُميتُنا قبل الوصول إليه فيُحيينا".

"في طفولتي لم أكنُ منشغلاً عن البحر بشيء، فكنتُ أهربُ من المدرسة، بالقفز  أنا وزملائي حيثُ الشِباك غير محدّد والمدرسة غير مسوّرة، فنجد أنفسنا نترك مدرستنا "حسن عرفة" –لنعدو باتجاه الشاطئ، فإذا ما سألني والدي عن دروسي، أؤكد له أنني قمتُ بواجبي على أكمل وجه، لكنه لم يكن يعلم أنني لم أفعل شيئًا سوى القفز من شِباك مدرستي، عدوًا باتجاه البحر، ثم القفز مجددًا بين أمواج البحر  لأعود إلى البيت منهكًا بعد رحلة عدوٍ وسباقٍ محموم مع بعض الأصدقاء، والأهم أنّ الحقيبة فارغة مِن الواجبات، وكُنتُ أنامُ منهكًا، وأظلُ أحلُمُ بيومٍ آخر أعتلي فيه السفن من جديد، واستمتع بالتطاير بين أمواج البحر في رحلةِ سباحةٍ جديدة، يومَ غدٍ".

يضيف سعدو: "أذكرُ من أيام طفولتي تلك السفن الكبيرة التي كانت تعمل في الميناء، حيثُ كان الميناء تجاريًا، إضافة إلى وجود عدد من الصيادين، وكُنا نحاول نحنُ الصغار، الدخول إلى الميناء بأحجامنا الصغيرة، لكنّ الخوف مِن الحُراس كان يمنعنا، ثم اخترعنا طرقًا بديلة، فكنا ندخل بالتهريب، ونُبحر  في السفن الكبيرة، ونقفز  من جسر إلى آخر، ونسبح قليلاً، ثم نعود لنتسلق المراكب الكبيرة".


"كبرتُ في حضن البحر، كنتُ سعيدًا بهذه العلاقة، ثم كبرتُ وصِارت مهنتي ومصدر معيشتي هي الصيد، ومع هذا المستقبل، زادت التضييقات التي نواجهها نحنُ الصيادين في ميناء يافا، كانت بداية المعركة عندما قررت وزارة المواصلات اعتبار الصيادين العرب "شلة من الزعران"، وقلّة من الفلسطينيين الذين يريدون احتلال الميناء، فاستعملوا القوة،  لإجبارنا على الخروج من المكان، كان ذلك في العام 1984، عندما اندلعت مواجهات صاخبة، وتدخلت قوات من حرس الحدود والشرطة التي استعملت العنف والضرب والإيذاء والسجن، لتبعدنا عن المكان، عِلمًا أنّ مدير ميناء يافا، هو  نفسه مدير ميناء تل أبيب. وكان العنف السلطوي شديدًا، فشدّ من عزمنا وإصرارنا على البقاء في المكان" وقررنا عندها: "ما نطلع لو شو ما صار". وقد استعنّا بالمحامين العرب وبالشخصيات المهمة في يافا للوقوف إلى جانبنا ومؤازرتنا في محنتنا، وبفضلهم نجحنا في تحصيل بعض الحقوق التي لا زالَت السلطات الإسرائيلية تحاول سِرقة منجزاتنا التي دفعنا مقابلها مِن أجسادنا ووقتنا وراحتنا".

اتفاق غير مُرضٍ!
عن الاتفاقية التي وصلت اليه المجموعة المُفاوضة حدثني، سعدو زينب: "بعد المد والجزر حول مصيرنا كصيادين عرب في ميناء يافا، قُمنا بإقامة جمعية منتخبة للصيادين، تمثلنا جميعًا، وتوجهوا لنا بطلب التفاوض، عارضين علينا الحصول على ثلث الميناء، وإقامة جسور وتطوير المكان، بينما حصلوا هم (المسؤولين والصيادين اليهود)، على ثلثي الميناء، قاموا بتحويله إلى مزارٍ سياحي يدر عليهم الأموال الطائلة، وصارَ  البحرُ  يستقبل المتنزهين، الذين يعتلون المراكب الكبيرة، التي تجلبُ لهم الخيرَ والأموال الطائلة، بينما نحنُ ندفع مبلغًا (مخفضًا)مقابل الثلث الذي حصلنا عليه، لكننا حُرمنا مِن نعمٍ كثيرة، يتمتع بها الصيادون اليهود، زملاؤنا في المهنة، ما نلناه لم يكن سهلاً، بل هي معركة ساخنة خسائرها فادحة، ومظاهرات وصلت تل أبيب وأروقة الكنيست لتحصيل حقوقنا الشرعية، علمًا أنّ عدد العائلات العربية التي تعيش من الصيد تصل إلى نحو 300 عائلة".

ويتابع سعدو: "هدأت المواجهة، لكنّ التضييقات مستمرة حتى اليوم، والاستجوابات لا تتوقف، وكأنهم نادمون أنهم سمحوا لنا بالبقاء في مكانِ عملنا، ولا يطيبُ لهم أنا نقوم بتحصيل لقمة عيشنا، ويثيرهم، أننا نحصّل بعض الأموال، في وقتٍ كان بإمكانهم تحويل الثلث الذي نملكه، إلى مركزٍ سياحي يدر عليهم الأموال الطائلة، فتزيد المطاعم الفاخرة والمحال التجارية المختلفة، بدلاً مِن "المخازن" التي حصلنا عليها بعد جهدٍ نضاليٍ طويل، علمًا أنّ هذه المخازن هي أملاكُ المزارعين الفلسطينيين الذين كانوا يعملون في جمع البرتقال، وأجملُ ما في الزاوية التي أقيمُ فيها لأستريح بعد يومٍ متعِب، أنّ المكان مرصوف بالحجارة التي تُلائم الجو البارد، والذي ساهم المزارعون في بنائه للحفاظ على الحمضيات وخاصة البرتقال اليافاوي، ليبقى طازجًا وكأنه موضوعٌ في ثلاجاتٍ كبيرةٍ تحفظُ هذه الثروة الزراعية الرائعة".

"نحنُ الصيادون اليافاويون في هذه الأيام العصيبة، والحالُ ليسَ جديدًا علينا، فمنذ احتلال المكان، ونحنُ نُعارك على بقائنا، وبالكاد نحصل على رزقنا ورزق أبنائنا، ففي بعض المواسم، والأيام يعصفُ بِنا شُحُ البحر مِن الأسماك، ويقابله استخفافٌ كبير من المسؤولين اليهود، إذ لا يكفيهم المبلغ الرمزي الذي ندفعه لهم، فها هم يخططون طوال الوقت لإخراجنا من الميناء، بكافة الطرق المُتاحة، بوسائل قذرة تتمثل بالتضييق علينا وعلى مكسبنا من عرق جبيننا، وما أدلُ على ذلك من توقيفنا في كل صباحٍ أمام الحاجز المقام عند الميناء، تمامًا كما لو أننا نقف أمام حاجز  إيرز العسكري، وملزمون بعرض بطاقتنا الشخصية، وتفريغ حمولتنا من مراكبنا الخصوصية، والعودة بها إلى الخارج، وفي أرض الميناء، نعملُ صيفًا وشتاءً، لكنّ أمورًا بسيطة نحتاجها لا نجدها". وزادت عنصريتهم عندما سيطرت بلدية تل أبيب على ميناء يافا، بعد عملية تبادل الأراضي بين المنهال (دائرة أراضي اسرائيل)، ووزارة المالية مقابل بلدية تل أبيب، التي لا ترى أننا بشر  وجذورنا منزرعة في المكان، وبات همها الأساسي هو اقتلاعنا من جذورنا".

أنا وبحرُ يافا رفاق حزنٍ وفرح!
"بين وبين البحر أسرارٌ تختلط بين الحزن والفرح، مَن مثله يفهمني؟! إنه الوحيد الذي يسمع شكواي، ويشاركني فرحي" ويتابع: "في كل صباحٍ أشمُ رائحته فيفرح القلب، وأنظُر اليه من فوق مركبي لأشعرُ بأمانٍ ليس مثله أمان، أما الصيد في بحر يافا فهو حكاية قاسية، أحيانًا أعود الى بيتي خاوي الوفاض، ولا حتى سمكة واحدة في اليد، وفي يومٍ آخر، تمتلأ الشباك بالأسماك، فعادةُ الصيادين في بحر يافا، أن تكون الغلة مرتبطة بأحوال الطقس وتقلباته، فمع العواصف والأمطار  وارتفاع أمواج البحر، يتعطل الصيدُ، لكنّ المكان يظلُ بيتنا وحياتنا".

عن حال الصيادين يتابع سعدو: "لا يُسمح لنا نحنُ الفلسطينيين، صيادي يافا بالعمل في مجال السياحة، ولا بامتلاك المراكب الكبيرة، بل ينحصر عملنا في صيد الأسماك، علمًا أنّ بعض السفن وقِلة هم العرب الذين يشاركون هواة الصيد في رحلة بحرية، مقابل مبلغٍ من المال في عباب البحر".
"أما أنا وأمثالي فقد يحالفنا الحظ ذات مساء أو صباحٍ في يومٍ صافٍ، بالعودة مع غلةٍ وفيرة من الأسماك، لكن في ظروف أخرى، أعود بالمخاسر  إلى بيتي، فالبحر متقلب المزاج، والأسماك فيه تسبحُ أحيانًا بعكس تيارنا"- يضحك.


ويحدثني سعدو عن أنواع المراكب التي تُبحر  في يافا، التي تصطاد الأسماك فيقول: "هناك نوع اسمه "عدد بَيُوت، ويتم تجهيزه في المساء ثم سحبه في ساعات الصباح، حيثُ يُلقى بالشباك إلى البحر ويتم إشعال ضوء فتتدافع الأسماك نحونا  وفي الصباح نرى الشباك تلتف حول الغلةِ الوفيرة من الأسماك، وهناك نوعٌ آخر يدعى (شولشيل)، مع شبك عينٍ صغيرة، فيها تلفاز صغير لرؤية الاسماك، وحين تقفل الشباك تغلق حدود الشبكة لتستقر الأسماك في الداخل. ثم هناك نوعٌ من المراكب آخر  (ترولات)، وهي التي تحارب وجودنا نحنُ الصيادين العرب، حيثُ تجر  شباكها خلفها طوال الوقت تتمايل في عباب البحر، وهي التي تقتلُ الأسماك، وتسطو عليها، وهي ملكٌ للصيادين اليهود فقط.

يقول سعدو: "طالبنا نحنُ الصيادين العرب في يافا بإقامة سوقٍ لبيع الأسماك للزبائن، بشكلٍ مباشر، لنحصل على مكسبٍ مادي أفضل، لكنّ الجهات المسؤولة رفضت طلبنا".

حين سألته لماذا؟! ردّ سعدو: "لأننا فريسة سهلة للجميع، كلهم يريدون أكلنا، قتلنا، التاجر  وصاحب الدكان، والمسؤولون عن الميناء".

يعود لهدوئه فيقول: "أما السوق التي نصدّر لها، وتستفيد من عملنا،  فهي أسواق غزة، التي فُتحت منذ العام 1969، وتقوم المركبات التجارية الكبيرة، بإيصال البضائع (أي صناديق الأسماك الجاهزة، وهي بالأساس أسماكٌ صغيرة الحجم، ويتم ايصالها بطريقة أو بأخرى لأهلنا في غزة، بأسعارٍ مخفضة".

يافا حلم الفلسطينيين جميعًا
عن يافا يتحدث الصياد ابنُ المدينة: "لقد زرتُ عواصم أوروبية كثيرة، لكنني لم أجد أروع من هذه البلاد، ولم أجد بحرًا أجمل من بحر يافا، وهو المكان الذي يمتلئ بذكريات عائلتي وأجداد أجدادي، الذين أخذوا الأوراق التي تثبت ملكيتهم للبيوت وهربوا، فصاروا لاجئين في الغربة، أما نحنُ الذين نعيش هُنا في يافا، فإننا نسكُن في بيوتٍ هي بيوتنا، لكنّنا ندفعُ لشركة "عميدار" مقابل إقامتنا، هي أموالٌ يسرقونها مِنا، كما سرقوا بيوت أهلي والأجداد".

يتابع سعدو: "مع ذلك لن أترك هذا المكان، ولن أترك الصيد في يافا، رغم أنني أحب التجوال في المدن الفلسطينية، وأحبُ زيارة عكا وحيفا، في رحلةٍ صيدٍ قصيرة، لكنني أعشق مدينتي أكثر، وأحب عملي المُستقِل، الذي لا يتدخل به أحد ولا يغصبني أي كان على فعل ما لا أريد فعله. ولم أشعر يومًا بالندم لاختياري مهنة الصيد، إلا أنني أشعرُ بالضيقِ الشديد بسبب التعامل العنصري للسلطات المسؤولة وخاصة وزارة الزراعة التي تسعى إلى محاربتنا، وتتمنى لو نرفع أيدينا ونخسر معركة البقاء، لكن ذلك لن يحصُل أبدًا، فكيفَ ننثني عن نضالنا ونحنُ أصحابُ حقٍ".

وواصل سعدو: يطيبُ لوزارة الزراعة الاكتساب من استيراد الأسماك كما تفعل اليوم حينما تشتريه من السنغال والسودان وغيرها من الدول، بينما تسعى لثنينا عن كسب رزقنا بالحلال، وها هم يعطون رخصة السياقة للمراكب البحرية (اليخوت)، وهي الممنوعة في البلاد، بينما يسحبون رخص عدد من الصيادين من أبناء يافا.

ووصف يافا بقوله: "هي أجمل بقعة في الكون، بحرها يردُ الروح وهواءها ينعش القلب العليل، إنه بحرنا، ولن نبرحه أبدًا، مهما زادت عنصريتهم وكراهيتهم لنا، ولن ينجحوا في تفريغ يافا من سكانها العرب مهما كان المخطط مدروسًا ومتقنًا، ومهما كان الثمن الذي سندفعه مقابل ذلك".  وختم بقوله: "لنا بحرُ يافا، وسنبقى في يافا"، أما لسانُ حالي فيُردد ما كتبه الأخوان رحباني: "وسنرجع.. نرجع يا يافا".

التعليقات