موسم وطقوس عيد الأعياد في مدينة حيفا../ روضة غنايم

يرقصون ويغنون على أطلال وأشلاء حي عريق، من رحمه خرج الأدباء والشعراء والفنانون، هجره أهله قسراً، واحتلت مدينته، عاش الناس فيه فيما مضى معاً دون تمييز بين الأديان، عاشوا كعرب تحتضنهم ثقافة وهوية فلسطينية واحدة

موسم وطقوس عيد الأعياد في مدينة حيفا../ روضة غنايم

في أيام السبت، طيلة شهر كانون أول من كل عام، منذ حوالي عشرين عاما، يصبح حي وادي النسناس "فرجة للناس"، يحولون بؤس الناس إلى "متحف عربي" للعرض بحجة "عيد الأعياد صانع السلام والتآخي بين الناس في حيفا".

يرقصون ويغنون على أطلال وأشلاء حي عريق، من رحمه خرج الأدباء والشعراء والفنانون، هجره أهله قسراً، واحتلت مدينته، عاش الناس فيه فيما مضى معاً دون تمييز بين الأديان، عاشوا كعرب تحتضنهم ثقافة وهوية فلسطينية واحدة.

جاء المحتلون واغتالوا مدينة حيفا، واتبعوا سياسة "فرق تسد" بين الناس، بعد أن دمروا معالمها الثقافية، الإنسان والحجر معاً... كانت هذه المدينة قبل النكبة مدينة غنية جدا في النتاج الثقافي، كان يصدر فيها ما يقارب من ثلاثين صحيفة ومجلة عربية، تتكدس في مكتباتها العامة الكتب والمجلات القادمة من كل أنحاء العالم العربي. ويؤمها أهل الفن من مختلف الدول العربية، أٌحيوا في مدينة حيفا حفلات لأم كلثوم، وحفلات أخرى لفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، ومنيرة المهدية، وحفلات للفنان الكبير يوسف وهبي الذي اعتلى خشبة مسارحها مرات عديدة، وامتلأت أيضا ًبدور السينما التي كانت تعج بالمشاهدين، كما انتشرت فيها المقاهي التي كان يرتادها المثقفون، من أبناء الطبقة الوسطى الذين ساهموا بجدارة في بناء وتطوير المدينة من الناحية الثقافية.

هذا المنتوج والمخزون الثقافي لا يظهر في "عيد التعايش"، ما يظهره المغرضون في هذا اليوم هو نوع واحد من تراثنا العريق يتعلق بالمأكولات فقط، حيث نرى في هذا اليوم أفواه الزائرين وهم يلوكون مختلف الأطعمة العربية، وكأنهم يتذوقون بها نشوة "التعايش" للحظات، خاصة من قبل اليهود الذين تطبع لديهم فكرة مفادها "أن طعام العرب لذيذ وشهي وهذا ما يفلحون بصنعه"، وكأن حضارة العرب تنحصر بالأطعمة فقط.

وبسبب العيد تُنصب الحواجز في الوادي، ويضطر سكانه وزواره في أيام السبت، إلى الخضوع للتفتيش عند عبور الحواجز، وتحيي هذه الإجراءات في نفوس أهل حي الوادي ذكريات قديمة وأليمة تذكرهم بأيام فترة الحكم العسكري، يعيشونها ويستنشقونها بصمت في خضم ضجيج العيد.

أسئلة كثيرة تُطرح في هذا السياق منها:
لماذا يقيمون منذ حوالي عشرين عاماً "عيد الأعياد" الذي يحمل ثلاثة رموز دينية؟ يرجعون عملهم هذا من أجل التعايش! وهل التعايش يكمن في الرموز أم في الأفعال والتطبيق؟ وهل علينا الرضوخ لسياسة "فرق تسد" المطروحة من خلال الرموز؟

يعلم القاصي والداني أننا نتعايش على هذه الأرض جنباً إلى جنب، وبدأنا نطلق على أنفسنا أننا "جيران" و"أولاد عم" منذ عام 48، ولهذا فإن السؤال المطروح لا يكمن في "التعايش" لأن التعايش قائم، بل بكيف نتعايش؟ وهل نستطيع أن "نتعايش"... ويكمن أيضاً بأبسط حقوق الحياة المهضومة التي لم نحصل عليها بعد؟

والسؤال الذي يجب طرحه أيضاً: هل تم تقييم هذا "العيد" ومدى تأثيره على كيفية "التعايش" بين العرب واليهود في حيفا؟

"عيد الأعياد" لا يستطيع صنع "التعايش" لأنه عيد مفتعل هدفه تبييض وجه المدينة أمام العالم لتحقيق المكاسب و الأموال الوفيرة من وراء الناس المساكين.

هذا اليوم بالنسبة لأهل الوادي هو يوم حصار، يسبب لهم الأذى المادي والمعنوي والاجتماعي، فبحسب أقوالهم، يتذمر العديد من التجار في هذا اليوم كبائع الخضار ومحل الكهرباء وتجار آخرين، يقولون إن الزبائن يفضلون في هذا اليوم عدم الوصول إلى الوادي بسبب الاكتظاظ، مما يعود بالخسارة عليهم.

ومن الناحية المعنوية، قال أحد السكان: أننا نضطر في هذا اليوم إلى ركن سياراتنا بعيدا عن الحي، ليتسنى لنا الخروج بيسر.
يضاف إلى هذا أن عملية التفتيش وإبراز الهوية شيء مقيت جدا، وقد طلبوا من أحد الشباب إبراز هويته، ولأنها لم تكن بحوزته منع من الدخول، ومن الطبيعي أن مثل هذه الإجراءات تعود بالأذى النفسي على المواطنين، ناهيك عن الإزعاج والأصوات العالية التي تقلق الجميع. 

والسؤال الأهم : لماذا يا "متعايشون" لا تفعلون هذا في حي "دينيا" في الكرمل؟ أو في البلدة التحتا أو حتى في شارع حسن شكري في ساحة البلدية؟
لماذا تحاصرون أهل الوادي طيلة شهر كامل وتعيّشونهم في وهم التعايش؟
هل عندما يشتري الزائر قطعة الكنافة بهذا يتعايش مع البائع؟ أو عندما ترقص مهرجة شبه عارية على شرفة بيت مهجور نتيجة الاحتلال يتضامن الزائر مع من كان يسكن داخل جدران البيت؟ أو عندما يصور السائح الحاجة حليمة وهي تجلس عند مدخل بيتها يتعايش مع ألمها؟ أو عندما يأكل المجدرة يتعايش مع التراث العربي؟
طرحت سؤالاً على مجموعة من الزائرين لوادي النسناس في هذا اليوم عن سبب مجيئهم، وكانت إجابتهم بأنهم يأتون ليستشعروا أجواء عيد الميلاد في حيفا بدلاً من السفر بعيداً إلى الدول الأوروبية. وأجاب أحدهم بأنه يأتي ليتذوق الطعام العربي لأنه يذكره بطعام والدتة المرحومة من أصول عراقية.
واضح من إجابتهم أنه "مجرد فرجة"، لا أكثر كما بينت في بداية هذه السطور.
 

التعليقات