النكبة شهادات لا تنتهي: عصي على النسيان..

كان عمي يحدثنا هذه الأحاديث في أمسياته، وهو يجلس مزهوا بيرغوله ورائحة تمباكه الأصلي تملأ المكان. يتحدث عن هذه البلاد وحبه لها، ويطلب الدوالي والزعتر وزيت الزيتون وقليل من خلطة الأعشاب للشاي والجبنة العربية وزقاليط اللبنة والزينون الأسود من خيرات بلادنا. وكلما حان موعد الرحيل يودعنا بقلب يعتصر ألما ويقول: (يا من درى يا من يعيش.. بصير إلنا نرجع السنة الجاي ولا كيف). وكانت تتساقط دموعه مدرارة على وجنتيه، وهو يحضننا واحدا تلو الآخر كأنه وداعه الأخير في كل مرة

النكبة شهادات لا تنتهي: عصي على النسيان..

أستميحك عذرا ايتها الكاتبة ميشال سعادة لاقتباس عنوان كتابك عنوانا لمقالتي هذه التي انهالت بها ذاكرتي الحية حين أطلت علينا ذكرى النكبة السادسة والستين لفلسطين من جديد، لتعيد وتجر الحنين إلى الماضي المدثر بالألم والحزن، وتوقظ تلك الحكايات الموشحة بالقهر والصور المبعثرة التي ترقد في أروقة الأفئدة موجعة للتشريد والحرمان والقهر والظلم لأهلنا المنكوبين، عن حكاياتهم المنسية وأحلامهم الموؤودة وأمنياتهم الضائعة، حكايات الجارة وقعدة الخلان، سهراتهم وأشعارهم وأكلاتهن وخبزات أمي اللي انحرقوا في يوم من الأيام.. وطير السنونو اللي عشش في سقف الدار.. وما عرف لا شو جرى ولا شو صار.

محيطات من الذاكرة والمشاهد المحكية تمتزج فيها العبرات بالضحكات لتكتب لنا التاريخ لأناس عصفت بهم يد الجلاد وعاثت فسادا في أرضهم ومالهم، وسرقت أحلام طفولتهم وخنقت الصرخة في حناجرهم.. العمر الذي رحل.. الجرح الذي لم يندمل.. والطفولة المفقودة.. كل هذا ( عصي على النسيان) وتأتي الذكرى لتعمق فينا الحنين إلى الجذور، وتحملنا الأمانة جيلا بعد جيل كي لا ننسى مهما طال الدهر والزمن أن "الدار دار أبونا"، وأن الجيل القادم هو الأمل المنشود.

وعلى سفوح هذه الذكريات ترتسم حكاية أبي وعمي أبو سالم الذي "كبّوه" مرتين، وعاد أدراجه في الظلام إلى الوطن، وعاش ومات فيه. وعمي الذي هجر وعاش النكبة عدة مرات، ومات غريبا حزينا محروما من أن يدفن في أرض الوطن فلسطين.

أبو سالم عمي محمد مطر المغترب هجر إلى خارج الوطن، وعاش متنقلا مثقلا بجراح الغربة ما بين لبنان وسوريا وأمريكا وأبو ظبي، وعاد ليدفن في لبنان، حدثنا في زياراته عن أحداث 48 فقال: حين جاء اليهود في عام النكبة، 48، جمعوا الناس على ساحة العين التي ما زالت وسط البلد، وانتخبوا عشرة أشخاص وطخوهم على ساحة العين، وخوفوا الناس. كنت حينها شابا متزوجا حديثا ولي طفل. أخذوا كمان مجموعة من الشباب، وكبوهم عجنوب لبنان، منهم أخوي أحمد.. أبوي قلي انهزم يا محمد هون ممكن تموت.. وفي 29/10/48 طلعت من البلاد، ووصلت أنا وعيلتي الرميش.. وهناك قعدت، كانت العيشه مرة وذل وقهر.. وبعدين انتقلت لحلب سنة كاملة، وسكنت سنة وبعدين عدت إلى شاتيلا.. أخذنا شادر ننام فيو أنا ومجموعة من العائلات من اللي طلعوا. وساءت ظروف الناس في المخيم والشوادر.. لا أكل ولا شرب.. وكنا تحت رحمة وكالة الغوث.. نستنا شوية الطحين والرز والسكر يعطونا نطعمي ولادنا.. والناس محرومين.. والأهم من كل شي إنو الناس كان إلها أرقام.. واللي ما إلو رقم مالو إغاثة.. ( جملة لا يمكن نسيانها) وبعدين عملولنا هوية لبنانية لنضمن الإغاثة، وبعت ذهبات مرتي، وبلشت اشتغل وشوي شوي دبرت حالي.. وفي سنة 82 في الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وبعد مذبحة صبرا وشاتيلا تهجرنا مره أخرى، ونكبنا مرة ثانية، وسافرنا على أبو ظبي، ومنها لأمريكا، ورجعنا واستقرينا في أبو ظبي لليوم، بس ما بعنا بيتنا اللي بلبنان".

وقال جملة كثير مهمة: "يا عمي لازم تبني لك في كل بلد بيت.. ما دمت إنت فلسطيني..لأنك ما بتعرف شومخبى لك وفش أمان".

"وفي سنة 86 التقيت إخوتي في قبرص، وقعدنا هناك بعد ما حاولت أجي عفلسطين قبل مرة ورجعوني على قبرص بنفس اليوم، وما صرلي أشوفهن. وصلت المينا وشفتهن من القزاز، وشوحتلهن بإيدي بس ما خلوني أفوت ورجعوني، وأكثر شي بيقهرني إني ما ودعت أبوي وأمي عندما ماتوا، ولهيك دايما مشتاق لريحة أمي وأبوي وإخوتي وقرايبي وبيتنا ولمة الجيران والخلان على مصطبة الدار، وسلة العنب والتين، والصبرات وكواز الرمان.. ما في أحلى من بلدنا وريحة بلدنا ومية بلدنا".

"وكمان يا حسرتي.. إخوتي الاثنين ماتوا ما حضرت دفنهم، ولا مليت عيني منهم، ولا شاركت بتغسيلهم.. وهيك أنا خايف ليصير معي.. لأنو يا عمي اللي ما بموت بفلسطين.. بموت عحاله حزين.. ومره أخوي أحمد كان باعثلي قصيدة مسجلة عشريط، وفيها سلام وكلام وبكاني فيها وقال لي:
كتبت كتابي والبلاد بعيدة                 أيا نائما كيف المنام يطيب
كتبت بأن البعد غير حالتي                 وأما الفراق فوالله صعيب
والله ما كان الفراق بخاطري              لكن تقادير الزمان عجيب
تغربت عنكم أيا طول غربتي         أيا حسرتي إني أموت غريب
أموت ولا تدري الحبايب موتتي    ويدفنوني ولا يبكي علي حبيب
تمنيت حمال نعشي أخي ابن والدي  ولا يكون حمال نعشي غريب
ومخيطة كفني تكون والدتي       وتبكي علي بدال الدمع دم صبيب
أيا قلب لا تحزن وكن صابرا           لأن رسول الله مات غريب

أحمد اخوي كان صوتو حنون، وكان يقرا كأنه بحكي عني وعنه وعن اللي صار وبصير.. والله أعلم إذا قسم لنا نموت بهالأرض ولا وين.. يا رب تكتبلنا إياها موتة بين أهلنا".

كان عمي يحدثنا هذه الأحاديث في أمسياته، وهو يجلس مزهوا بيرغوله ورائحة تمباكه الأصلي تملأ المكان. يتحدث عن هذه البلاد وحبه لها، ويطلب الدوالي والزعتر وزيت الزيتون وقليل من خلطة الأعشاب للشاي والجبنة العربية وزقاليط اللبنة والزينون الأسود من خيرات بلادنا. وكلما حان موعد الرحيل يودعنا بقلب يعتصر ألما ويقول: (يا من درى يا من يعيش.. بصير إلنا نرجع السنة الجاي ولا كيف). وكانت تتساقط دموعه مدرارة على وجنتيه، وهو يحضننا واحدا تلو الآخر كأنه وداعه الأخير في كل مرة.

وفعلا أشد ما آلمنا هو أنه مرض، وعلمنا نبأ نقله لمشفى النور في أبو ظبي، وأنه طلب قبل أن يدخل في غيبوبة أن يرى عمي.. ولكن لسوء الحظ لم يتمكن عمي من السفر لمنعه بحجة "السفر إلى دولة معادية" إلى أن توفي. وكان الألم أكبر عندما نقل جثمانه وبعد ثلاثة أيام من الموت إلى لبنان ليوارى الثرى بجانب قبر زوجته في مقبرة أهل فلسطين ومخيم شاتيلا، وليحرم كما توقع من الدفن في بلده ووطنه... وتتحقق أشعار أبي "جال الغرايب يحملوا النعش".

أما أبي فقد ذاق الأمرين. وأذكر جيدا أحاديثه لي ولأولادي ونحن بجوار الموقد بابتسامته الهادئة وهو يقول: "طلعونا من هون، وحملونا بسيارات الشحن في الصندوق، والجنود حوالينا عالأطراف حاملين البواريد ومصلطة علينا. وما حسينا إلا هالسيارة وقفت ورفعوا الهيبر ولا إحنا سقطنا فوق بعض، واحد على الثاني زي كوم الرمل أو القش وراحوا... مشينا مشينا.. ووصلنا الرميش في لبنان.. بين هالوعور والشوك والبلان أكلنا.. وفي الطريق كان هناك حرامية كانوا يفكروا إنو معانا مصاري، وصاروا يطخوا علينا.. وبالقوه فلتنا اجرينا منهم. ونمنا تحت الخروبة، وثاني يوم الصبح عاودنا رجعنا على البلد.... 7 ساعات من الرميش لمجد لكروم بين الشوك والبلان والصخور عنفس واحد".

ويتابع: "وصلنا بالليل عالدار فتحت لي مرتي، ونمت بالتبان بين البالات، لأنها قالت لي بيجوا يدورا بالبيوت عالشباب.. ثاني يوم.. ولاد الحلال كنهن فسدوا علي أنا واللي روحوا معي.. أجوا عالدار وصاروا يدورا، وانهزمت من باب التبان وفتت عالدار، ونطيت من الشباك الشمالي عالحارة، والجيش لاحقني ويقوسوا علي.. الفشك كان يمرق من تحت إجري... وأنا إجريي أعلى من راسي من خوفي ليلقطوني.

"ورحت تخبيت بالجبل بالمغارة هذيك الليلة. وفي المرة الثانية زقطوني.. وأخذونا كبونا حد جنين في أراضي وعرة. وهناك.. إمشي بهالسهول إن كنك بتمشي..لا أكل ولا شرب.. وعقولة المثل "حلم الجوعان عيش". دخلت على أرض مزروعة فجل وبصل وبطيخ، وأنا كان باقي معاي كماجة يابسة.. قلعت راس فجل ووراسين بصل صغار وبدي أقطع لي بطيخة، ولا ناطور المقثاي جاي يركض.. لحقني كبشني.. وتباطحنا.. ولولا إني أقوى منه وعافيتي منيحة لكان قتلني عراس الفجل... شو بدي أقول لكم.. الجوع علمنا الشحاتة.. والعري علمنا الخياطة.. والله مرات كنا نضطر نشحد ويصدقوا إنّا شحادين من هندامنا وحالتنا اللي بتحزن حتى نوكل.. وشو نعمل والدار دار أبونا وأجوا الغرب يطحونا.. بس أنا وأكمّن شب من البلد منهم سالم كيوان، وابن عمتي إبراهيم علي الخليل، وأبو أسعد الخضر.. ظلينا طافشين.. من وعر لوعر، ومن سهل لسهل تمنا رجعنا عالبلد، ورحنا نمنا بمغارة باب الوادي، وصارت امك يابا تجيب لنا الأكل هي والنسوان لأنه في فسادين كثار كانوا يشتغلوا مع العسكر.. أول يوم نرجع.. ثاني يوم ييجوا يطوقوا الدار تنهن يكبشونا.. دايما كل دولة وإلها صولة ورجال.

"بس الحمد لله.. تحملنا وعاودنا رجعنا وعشنا بهالبلاد.. بأرضنا.. الحسرة على اللي ما رجع.. وإحنا هون قعدنا لهم زي مسمار جحا.. بحلوقهم.. ومن هالمراح ما في رواح.. من هون يابا عالقبر.. من مجد لكروم مالي طلعة.. أنا زي ما بقولوا: زي السمك إن طلع من البحر بموت، وأنا هيك يابا.. بس انشاء الله بتنحل هالقضية وبيصير سلام، وهالناس ترجع تعيش بأمان. لأنه ما بضيع حق وراه مطالب".

هذه هي كلمات أبي كان يحكيها عندما يسأل عن النكبة قبل أن ينهكه المرض ويلزمه الفراش. وطالما ترددت ذهني وسكنت بداخلي صورته وتكاوينه وألفاظه وهو يتحدث عن تلك الحقبة.. ومآسيها.. وعندما أصفو إلى نفسي وأتنقل في عباب الذاكرة.. حلوها ومرها.. ترتسم في مخيلتي وجوههم ( ابي وعمي ) وابتساماتهم وتسكن بداخلي، فتمتد سعادة خفية ممزوجة بالضحك والعبرات في آن واحد.. وفي مساحة من قلبي من أرواحهم الى روحي.. فلا يسعني إلا أن أدعي لهم بالرحمة، وأن يكونوا ممن تغمدهم الله بوافر رحمته وأسقاهم ماء الكوثر على ما تكبدوا من عناء وشقاء العيش لنعيش بأمان، وترتسم أمامي لوحه للشاعر توفيق زياد مرسومة بافتنان ومكتوب عليها قصيدته المشهورة: بأسناني – سأحمي كل شبر من ثرى وطني بأسناني.. ولن أرضى بديلا عنه لو علقت من شريان شرياني....

ولا يسعني إلا أن أقول: عليك مني السلام – يا أرض أجدادي
                                                                                                                                                  
 

التعليقات