الأخصائي النفسي عابد: مظاهر العنف تفشت وتستوجب حلا جذريا

تشهد البلدات العربية تزايدا مقلقًا في آفة العنف والجريمة الأمر الذي يهدد المجتمع العربي في الداخل، في ظل تقاعس الشرطة وعجزها عن لجم هذه الآفة الخطيرة.

الأخصائي النفسي عابد: مظاهر العنف تفشت وتستوجب حلا جذريا

عابد

تشهد البلدات العربية تزايدا مقلقًا في آفة العنف والجريمة الأمر الذي يهدد المجتمع العربي في الداخل، في ظل تقاعس الشرطة وعجزها عن لجم هذه  الآفة الخطيرة.

ويرى الأخصائي النفسي أسامة عابد من قرية البعنة، التي تعيش أجواء مقلقة جراء تفشي آفة العنف فيها في الآونة الأخيرة، أن ظاهرة العنف آخذة بالانتشار بصورة مقلقة في المجتمع العربي، قائلا إن "جذور السلوك العنيف تعود إلى خليط من العوامل الوراثية والانفعالية والاضطرابية والاجتماعية والتربوية، فتلعب العوامل الوراثية والغريزية المتمثلة بدوافع الإنسان في البقاء والتملك والسطوة، والانفعالية المتمثلة بالخوف الدفين في أعماق المعنف والكبت والغضب والشعور بالخجل والدونية والإحباط والاحتقار والإهانة، والاضطرابية المتمثلة بالاضطرابات الشخصية والسلوكية والنفسية والعقلية، أما العوامل الاجتماعية فتتمثل بدور القيم والعقائد والمثل والعادات والتقاليد وطبيعة العلاقات الاجتماعية وخاصة الأسرية وكيفية حل المشكلات والأزمات الأسرية".

العنف مرفوض مهما كانت دوافعه، وما هو إلا آفة لا سبيل لتسويغها وينبغي محاربتها في جذورها وأشكالها

ويقول عابد إنه "من البديهي القول أننا معاً نقف ضد العنف، ونستنكر أية ممارسة عنيفة، بصرف النظر عن موجباتها وغاياتها. فالعنف مرفوض مهما كانت دوافعه، وما هو إلا آفة لا سبيل لتسويغها وينبغي محاربتها في جذورها وأشكالها. ولكن السؤال: هل الاستنكار وحده بكافٍ لإنهاء هذه الآفة؟. إننا نعتقد أن الاستنكار وحده لا يُنهي الآفة، وأن المطلوب هو فهم هذه الظاهرة الظاهرة فهماً دقيقاً وعميقاً وصولاً لبلورة إستراتيجية ومشروع جماهيري متكامل، يستهدف إنهاء هذه الظاهرة من جذورها. وهذه محاولة لفهم وتفسير هذه الظاهرة. وهنا ينبغي أن نفرّق بين محاولة الفهم ومحاولة التبرير. فإننا نعمل على فهم هذه الظاهرة ولا نبررها. فنحن نرفض العنف والإرهاب مهما كانت دوافعه وغاياته، ولكن المطلوب في هذه اللحظة هو فهم وتفسير الظاهرة. وما سنقوله هو محاولة في الفهم والتفسير، ونرفض رفضاً قاطعاً تبرير الإرهاب أو تسويغ العنف. فنحن دينياً وأخلاقياً وإنسانياً ووطنياً، نقف ضد كل أشكال العنف والقتل، ولا نرتضيه، ونعمل معاً من أجل إنهائه من فضائنا ومجتمعنا. فالعنف كأي ظاهرة مجتمعية، هو بحاجة إلى تعريف دقيق، وتحديد علمي ومعرفي لمسبباته وعوامله وموجباته، وذلك لأننا لا يمكن أن نحدد طبيعة الجذور والعوامل التي أفرزت هذه الظاهرة دون تفسيرها تفسيراً علمياً دقيقاً."

أسباب العنف في المجتمع العربي ليست وليدة الصدفة

وعن أسباب العنف في مجتمعنا العربي يقول إن "العنف، بكل مستوياته وأشكاله، ليس وليد الصدفة أو الفضاء المجرد، وإنما هو نتاج عوامل وأسباب عديدة. من أهم العوامل والأسباب التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة العنف وبروزها في الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي هي الأسباب السياسية وهي عديدة والمؤشرات تؤكد أن المشهد السياسي الراهن يعيش الكثير من المشكلات البنيوية والهيكلية، التي لا تؤثر على راهن مجتمعنا فحسب، بل على مستقبلهم ومكاسبهم الحضارية. وبسبب هذه الأزمات والمشكلات البنيوية التي يعانيها المشهد السياسي، تعمل الكثير من النظم والمؤسسات على ممارسة أنواع العنف كلها لتجاوز نقاط الضعف البنيوية. وبدلا من أن تبحث هذه المؤسسات عن حلول حقيقية وواقعية لهذه الأزمات، فإن استخدامها للعنف يزيد من حدة المشكلة، ويوفر لها المزيد من أسباب وعوامل الحياة. ومن الطبيعي تماماً أن ينتهي إقفال الحقل السياسي أمام المجتمع، بأعمال القمع وتقييد الحريات وهضمها، إلى دفع هذا المجتمع إلى سلوك مسارب أخرى للتعبير عن مصالحه وحقوقه، وإلى ممارسة الاحتجاج على تسلط المؤسسة المتغوِّل، أي على العنف الرسمي بعنف مضاد، قد يستعيد فيه المجتمع مخزونه الرمزي وتقاليد المقاومة لديه- وقد جربها حديثاً مع الاحتلال- لتحصيل حقوقه. وينبغي أن ندرك تماماً معنى أن يشعر قسم من المجتمع بالغبن والاضطهاد، ويفقد الثقة في العملية السياسية برمتها، وفي مدونة النزاعات والمنافسات السلمية، وخصوصاً حينما يكون مرجعه الثقافي عسير الانفتاح على منظومة السياسة الحديثة) فرؤية متزنة وواعية ورشيدة للكثير من نماذج العنف في الفضاء العربي تجعلنا نعتقد أن هناك أسبابا سياسية مباشرة لبروز هذه الظاهرة. وهذا بطبيعة الحال لا يسوِّغ ممارسة العنف، ولكننا بحاجة إلى تحديد دقيق لأسباب هذه الظاهرة. ولا شك أن انعدام الحياة السياسية الوطنية السليمة، وغياب أطر ومؤسسات المشاركة الشعبية في الشأن العام، ولَّد مناخاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يزيد من فرص الانفجار الاجتماعي، ويساهم في إقناع العديد من أفراد القطاعات الاجتماعية المختلفة بخيار العنف. وهذا يقود إلى حقيقة أساسية من المهم التنبه لها دائماً؛ وهي أن العنف أداة يستعين بها القاهرون والمقهورون، وإنْ كان ذلك بمقادير مختلفة ولغايات متباينة. ولا ريب أن وجود توترات ظاهرة أو كامنة بين الدولة والمجتمع في الفضاء العربي، يساهم عبر تأثيراته ومولداته في بروز ظاهرة العنف. وقد عبَّر هذا التناقض والتدهور عن أعلى تجلياته المادية، في انفلات غرائز العدوان المتبادل بين مكونات الحقل السياسي في مشاهد متلاحقة من العنف والإقصاء المتبادل، إلى درجة باتت فيها العملية السياسية عاجزة- أو تكاد- عن أن تعبر عن نفسها في صورة طبيعية، أي كفعالية تنافسية سلمية، وإلى الحد الذي كاد فيه العنف- المادي والرمزي- أن يتحول إلى اللغة الوحيدة التي يترجم بها الجميع مطالبه ضد الجميع. (وعلم الاجتماع السياسي المعاصر يفرّق اليوم بين الدولة القمعية، ويرى أن الدولة التي تلتحم في خياراتها ومشروعاتها مع مجتمعها وشعبها هي الدولة القوية، حتى لو لم تمتلك موارد طبيعية هائلة. فالدولة القوية حقاً هي التي تكون مؤسسة للإجماع الوطني وأداة تنفيذه، وتنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا. ولا ريب أن الدولة القمعية- بتداعياتها ومتوالياتها النفسية والسياسية والاجتماعية- هي من الأسباب الرئيسة في إخفاق المجتمع العربي في مشروعات نهضتها وتقدمها؛ لأنها تحولت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدرات الأمة وإمكاناتها في قضايا غير مهمة، ومارست التعسف والقهر لمنع بناء ذاتية وطنية مستقلة) فالإخفاق السياسي- سواء على صعيد مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع- دفع باتجاه النزوع إلى التعبير عن الأهداف والغايات والمصالح بالعنف المادي والرمزي؛ بحيث إن غياب العلاقة السوية والعميقة بين السلطة والمجتمع يدفع في المجتمع العربي إلى تبني خيارات ومشروعات فوقية - قسرية، وفي المقابل فإن المجتمع في ظل هذه الظروف يعبر عن نفسه وخياراته بامتلاك أدوات العنف واستخدامها. فيتحول الفضاء السياسي والاجتماعي العربي، من جراء هذا التوتر والتباين، إلى وعاء للعديد من النزاعات المجردة من القيم الإنسانية والأخلاقية، واللاهثة صوب مصالح آنية وضيقة. وفي أحشاء هذا التوتر تترعرع مشاريع العنف والإقصاء، وتتسع دائرة التناقض والتصادم، وتزيد فرص الانتقام وممارسة التعسف بحق الآخر. وهكذا نصل إلى مسألة أساسية؛ وهي أن أحد الأسباب الرئيسة لبروز ظاهرة العنف، هو غياب حياة سياسية سليمة ومدنية في المجتمع العربي. لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثار والتوحش في السياسة مهما كانت الإيديولوجية التي تسوغ له ذلك، ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه. وإن النهج السياسي المعتدل، الذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على ضبط نزعات العنف، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع".

العوامل الاقتصادية- الاجتماعية تساهم في انتشار العنف في بلداتنا العربية الفقيرة

إن العوامل الاقتصادية- الاجتماعية تساهم بشكل كبير عي انتشار العنف في بلداتنا العربية الفقيرة، وقد أجاب الاخصائي النفسي أسامة عابد على ذلك قائلا: "لو تأملنا في وقائع العنف في الوسط العربي لرأينا، ودون عناء وصعوبة، أن إخفاقات التنمية والتفاوت الصارخ في مستويات المعيشة والبطالة وتدني مستويات الحياة والعيش الكريم، من الحقائق التي تساهم في بروز ظاهرة العنف في الوسط العربي. لذلك نلحظ، بوضوح وفي العديد من القرى والبلدات العربية، أن القاعدة الاجتماعية التي تعتمد عليها جماعات العنف، وتوفر لها الكادر البشري والحماية، هي مدن الصفيح وأحزمة البؤس التي تضرب طوقاً رمزياً ومادياً على كبريات المدن العربية. فلا يمكن أن نغفل الأسباب الاقتصادية والعوامل الاجتماعية في بروز ظاهرة العنف؛ وذلك لأن (آليات العنف تتحرك صعوداً وتصعيداً بالتناسب مع هبوط مؤشرات التنمية وتدهور معدلات التوازن في توزيع الثروة وتكافؤ فرص العمل!). إن البنية التحتية للعنف قائمة في معظم البلدات العربية - على ما فيها من تفاوت درجي- لكن صيرورته ظاهرة مادية يومية رهن بتوافر بنية فوقية هي إيديولوجيا العنف، ونعني بها -على وجه التحديد- الإيديولوجيا السياسية التي تسوِّغ لجماعة من الناس أهدافاً لحراكهم الاجتماعي، وتنتج لهم أطراً لتعبئة الطاقة الاجتماعية، والتعبير عنها. وهو ما ينطبق أمره على أي مشروع سياسي آخر يحتاج كي ينتقل من القوة إلى الفعل، بلغة أرسطو، أو من الفكرة إلى الواقع، بلغة ماركس، إلى توافر درجة ما من التناسب والتوافق بين الشروط الموضوعية والشروط الذاتية. وعلى ذلك فإن في جوف كل مجتمع عربي عنفاً أو شكلاً من العنف: أما جارياً أو مؤجلاً، طالما كان ثمة، في القاع الاجتماعي - الاقتصادي، ما يهيئ له المناخ والأسباب) فالتدهور الاقتصادي يقود إلى تصدعات اجتماعية خطيرة، وبدورها (التصدعات الاجتماعية)، توفر كل مستلزمات بروز ظاهرة العنف في الفضاء الاجتماعي. فليس مستغرباً أن تتحول حالات التهميش الاقتصادي إلى قنبلة قابلة للانفجار. فماذا ننتظر من ذلك الإنسان الذي لا يملك أدنى ضرورات حياته، ويفتقد إلى نظام الرعاية والحماية الاجتماعية، ودولاب الحياة المتسارع يزيد من ضنكه وصعوباته. فالمجتمعات المهمشة التي تعيش الضنك في كل مراحل حياتها، هي مجتمعات مريضة؛ لأنها ببساطة لا تحيا حياة طبيعية. والمجتمع الذي تعيشه، سلوكه العام مضطرب، تغشاه الأزمات الفجائية في كل مجال، تتفجر أحداثه العامة بشكل هبَّات وانحرافات جماعية، ولا يبقى له وسيلة للتعبير عن معاناته إلا باستعارة أساليب القمع الممارسة ضده ذاتها. إنه المجتمع المرشح للعنف بكافة أشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤدي إلى الأمن، بل إنهما الأرضية الاقتصادية الاجتماعية لبروز حالات التمرد والعنف. إن ظاهرة العنف في المجال العربي هي ظاهرة مركبة، نشأت عن اجتماع جملة من العناصر والأسباب وتضافرها على النحو الذي لا يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب أو عنصر واحد دون سواه. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا ضمن شبكة العوامل والأسباب التي أفضت إلى بروزها وأدت إلى ظهورها. والعُنف كوسيلة يُتخذ العنف وسيلة لإخضاع الآخر لتحقيق أغراض فردية أو جماعية شخصية أو رسمية، والواقع يُشير إلى تعرض الكثيرين لصنوف محددة من العنف بسبب الهوية الجنسية أو بسبب الأصل العرقي والطائفي أو المستوى الثقافي والإقتصادي أو الانتماء الفكري والسياسي".

معالجة آفة العنف لا تكون إلا بمعالجة الأسباب

وحول سبل مكافحة هذه الظاهرة الخطيرة، يقول إن "معالجة تلك المشكلة لا يكون إلا بمعالجة تلك الأسباب والبحث في نشر ثقافة تربوية عند الآباء والمربين والمدرسين في كيفية التعامل مع الاشخاص وتوجيههم بعيدا عن الشدة والعنف".

التعليقات