الأب خوري ينثر ذكرياته حول أم كلثوم في باريس

اللاهوت والفن وأربعين على رحيلها :الاب د.فوزي خوري يستذكر سيدة الغناء العربي.

الأب خوري ينثر ذكرياته حول أم كلثوم في باريس

أم كلثوم..أتت لباريس ومصر معها

رحلت سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم قبل أربعين عاما ولا زال صدى اللحن والكلمة والأداء المتفرد يهيمن على مسامع ووجدان الملايين لاسيما من عايشها في سنوات النهضة الثقافية والقومية مع صعود الناصرية وهم لا زالوا أحياء بيننا.

الأب د. فوزي خوري من قرية فسوطة بالجليل الأعلى في أواخر الستينيات من العمر كان أحد المحظوظين الذين حظوا بسماعها ومشاهدتها في عام النكسة 1967 عن كثب، وذلك عندما كان الاغتراب يلف فلسطينيي الداخل مع انقطاع التواصل مع محيطهم العربي وفضائهم الثقافي.

ويستذكر الأب تلك العلامة الفارقة التي نقشت في وجدانه قيمة عليا ولحلمه لوحة من الموروث الأصيل الذي يخشى عليه من الاندثار في غمرة الاجترار والاستهلاكية القاتلة، 'عرب 48'، حاور الأب الخوري حول أهم ما يحمل في طيات الذاكرة الجميلة.

 الأب خوري: حققت حلمي في باريس ببضعة أمتار عن سيدة الغناء العربي

استذكر الأب د. خوري صفحة من ذاكرة الشباب والتوق لمرحلة من النهضة الثقافية وللفن الاصيل وقال: 'كنت طالبا أدرس في باريس في العام 1967 ،ومن خلال شغفي بالفن والثقافة والأدب العربي أطلعت على سيرة أم كلثوم عبر مجموعة كتب وعرفت أن كل مرة تكون مصر دخلت مرحلة وطنية كانت أم كلثوم تكون بالطليعة،  وكانت سيدة الغناء العربي صديقة لصفية زوجة سعد زغلول الذي أعطاها الدعم وكذلك الوزير طلعت حرب الذين وفروا لها التشجيع و الدعم المالي والمعنوي لانهم شاهدوا فيها صوت صادق للشعب المصري والعربي، ونحن انتظرنا بشغف سماع اغانيها، وفي هذه الحقبة الناصرية ومع بروز ميدان رحب للإبداع وأيضا  نهوض فريق كبير من المبدعين الملحنين مثل القصبجي وزكريا أحمد والحفناوي وكوكبة كبيرة ونوعية من المؤلفين والملحنين وكانت الروح الوطنية حاضرة على الدوام في أعمالهم'.

ولفت الأب خوري إلى خلفية تشكل هذا الحس الوطني والثقافي لديه قائلا: 'كان المثال الأعلى لنا منذ الصغر هو مطران العرب 'غوريغوري حجار'، وهو أصغر مطران بالعالم في سنوات الأربعينيات وتوفي مبكرا، لكنه هو من أعطى الخط السياسي الاجتماعي للكنيسة ككنيسة عربية فلسطينية، والمطران حجار هو من تكلم في عام     1936 أمام الهيئة الملكية ودافع عن عروبة فلسطين، كما إننا تربينا على الحس الوطني بتأثير الشخصيات التاريخية ومنهم جماعة الأرض، مثل حبيب قهوجي وصبري جريس وغيرهم، وأم كلثوم مثلت لنا الحس الوطني الفني في أوج صعود الناصرية والمشروع القومي الذي كنا ننتمي له'.

الأب خوري واعطني حريتي بعد الأطلال

أما حول الحدث الأهم الذي يستذكره بتفاصيله تحدث الأب خوري: 'خلال تجوالي في شوارع باريس شاهدت إعلانات حول إحياء حفل لأم كلثوم في قاعة 'الاولمبيا'، عرفت أن ثمن التذكرة 30 فرنك، وقمت بشراء التذكرة رغم أن مخصصي التعليمي كمصروف لا يتعدى الـ40 فرنك شهريا، لكن شغفي جعلني لا أكترث لذلك، وقلت أن المال تعيده الرجال، أما أم كلثوم فلن يعيدها المال وهذه الفرصة الوحيدة التي قد احظى بها'.

وأضاف الأب خوري: 'حضرت أم كلثوم على المسرح وأنا في حالة شوق يصعب وصفها وكانت ترتدي فستان 'دنتيل' أخضر مصمم على الطريقة الفرعونية لأنها أرادت أن تذكرنا إنها أتت لباريس ومصر معها، وعندما أطلقت عنان الحانها صدح صوت بأوج تألقه وجماليته وغنت 'أنت عمري'، وكانت مفاجئة للمستمع بالتفاريد الجميلة في المقطع الثالث من الأغنية، وفي الأغنية الثانية والمعبرة قلبا وقالبا هي أغنية 'الأطلال' التي غنتها بملء جوارحها وعزيمتها، وأذكر إنها كررت مقطع أعطني حريتي 6 مرات، وكان الجمهور في حالة هيجان بين المرة والأخرى لما لهذا المقطع من دلالة على الوضع العربي بعد نكسة عام 1967 ، كما إنها في المقطع التالي أعادت الثقة للجمهور عندما عبرت عن حبيبها 'شهي الكبرياء''.

وتابع: 'كانت تريد أن تذكر المواطن العربي بما يجب أن يقوم به بالنهوض من حالته الحاضرة نحو الإرادة الفاعلة، وأما الأغنية الثالثة كانت أغنية 'بعيد عنك' من الحان بليغ حمدي وهذه الأغنية حظيت بمشاهدتها عن مسافة قريبة جدا منها بعد أن وجدت فرصة لتغيير مكان جلوسي وفصلتي بضعة أمتار قليلة عن سيدة الغناء لأشاهدها تغني وتؤدي بكامل الروح والجسد، واستذكرت قول الشيخ أبو العلاء محمد  أوائل أساتذتها عندما قال 'البنت دي تغني بكل جوارحها'.

'سلو قلبي' للرسول العربي موحد القبائل..

وواصل الأب الخوري ربطه بين الفن والثقافة والانتماء وقال: 'لا يمكن الحديث عن أم كلثوم بمعزل عن الإشارة لسمات تلك المرحلة الخاصة من تاريخ العرب الحديث وفكرة الاستقلال والتخلص من كل أشكال الاستعمار التي مثلتها الناصرية والتي ترافقت مع نهضة ثقافية في الفنون والأدب والموسيقى التي مثلت حالة إبداعية انسجمت مع فكرة بناء الأمة والثقافة التي كانت وبقيت هي الأساس من هذا الموروث الذي يحفظ روح الأمة، ومعروف أنه عندما تم غزو بور سعيد كانت أغاني أم كلثوم تبث مباشرة من الإذاعة، مثل أغنية 'والله زمان يا سلاحي' والتي كانت من خلالها تشحن الشباب المصري وتذكر بها الأنبياء  عيسى ومحمد 'كثوريين خالدين'، كما إنها غنت اللغة العربية وقربتها للناس، حيث غنت القصائد الدينية لأمير الشعراء، أحمد شوقي، وعبر اللحن وقوة الكلمة وروعة الاداء كان السامع يتذوق جمالية اللغة، وعلى سبيل المثال قصيدة حافظ إبراهيم 'وقف الخلق ينتظرون جميعا ابني قواعد المجد وحدي'، كذلك كنا نلمس روح الغناء الصوفي والديني عامة، وأنا حتى كمسيحي كنت أشعر عندما تغني قصائد مديح الرسول العربي 'سلو قلبي' وغيرها، كنا نلمس إنها كصورة تغني لموحد القبائل العربية وعندما قدمت أغاني فلم رابعة العدوية كنا نشعر بجمال الحياة الروحية وواقع الناس ووجعهم وكيف أن هذا الوجع لن يدوم'.

حالة الانحدار وعلاماته تظهر بالموسيقى..

وحول النهوض والافول قال الأب خوري: 'بعد سبعينيات القرن الماضي نستطيع القول إن الحال الإبداعي  هذا دخل إلى حالة انحدار شديد، واستوحي من أقوال العلامة ابن خلدون الذي وضع مفهوم العمران البشري كحركة تطورية دائما إلى الأمام حتى من خلال النكسات، ومن أروع ما قاله في فترته، إن العمران في حالة انحدار تظهر علاماته قبل كل شيء في الموسيقى والغناء وهذا ما شهدناه في سنوات السبعينيات في ضعف الروح الوطنية وغياب الابداع مع طغيان الموسيقى والغناء الاستهلاكي وخصوصا مع غياب الملحنين والمؤلفين العباقرة والمبدعين'.

وأضاف: 'طبعا هذا لا ينفي وجود مواهب شابة وجميلة يجب تشجيعها لأنه يبقى الإنسان المعاصر يتوق لهذا التراث الرائع والخالد، واسوق مثال فان الشعر الحديث قد أبدع لدى رموزه الكبار بنفس قوة الشعر القديم، لكن للأسف فان الموسيقى المعاصرة والغناء لم يفعلا نفس الشيء علما أن موسيقي مثل سيمون شاهين استطاع أن يستفيد من الغرب لكنه يستفيد ويعتمد كبار الملحنين العرب أمثال القصبجي والسنباطي وغيرهم، وبالتالي أعتقد أن على المستوى المحلي يحتاج ميدان الموسيقى والفنون إلى أكثر إبداع ودعوة إلى تجديد الوحدة العربية، وهذا يكفل تجديد الموسيقى والغناء كما في باقي الميادين الثقافية'.

رجل الدين والمسافة بين اللاهوت والفن

وحول هذا اللقاء بين الدين والاهتمام الكبير بالفن، قال الأب خوري: 'لا بد وإن يستهجن القارئ إن شخصا مثلي، كرجل دين ودكتور في علم اللاهوت العقائدي وعلم الديانات أن اهتم أيضا بالفن والأدب، لكن أنا أجده طبيعيا لأن الإنسان وقبل كل شيء هو ابن بيئته، وكثيرة هي القيم التي تحتويها القصائد المغنا حتى الدعوة إلى الحب الحقيقي هو فضيلة يوطد أسر المجتمع ويدعو العائلة أن تعيش بالإخلاص المطلوب، فالحب بين الوالدين هو أول رسالة تربوية يعطيها الأهل لأبنائهم، كذلك هو مفهوم الوطنية الصادقة وهو الذي يتأصل في التراث والقناعة الوطنية للانطلاق إلى لعب دورنا كعرب في قلب الأسرة البشرية كما فعلنا بالماضي، وإذا كان ابن خلدون آخر ظاهرة حضارية عند العرب فقد أصبح القاعدة الأساس للحضارة المتطورة عند الغرب'.

 

 

 

التعليقات