مدينة "التعايش" حيفا: قراءة في تركيبتها السكانية قبل احتلالها

إن جمال حيفا قد يكون هو الصفة الوحيدة الواضحة في هذه المدينة، وما عدا ذلك، وعلى الرغم من وجود أضداد وتنافرات في هذه المدينة، إلا أن شيئا فيها يمنع الصدام والتصادم

مدينة

في وصفهم لمدينة حيفا يتوقف الإسرائيليون في العادة عند ميزتين: الأولى هي جمال موقعها بين البحر الأبيض المتوسط وجبل الكرمل، والثانية تكمن في كونها مدينة التعايش التي يسكن فيها العرب واليهود بسلام منذ أكثر من مئة سنة، بحسب الرواية الصهيونية.

الميزة الأولى أنعمت بها الطبيعة على المدينة، ولا علاقة للإسرائيليين بها؛ أما الميزة الثانية، فإنها تحمل شيئاً من الصحة، لأن حيفا اليوم تحظى بشيء من السلمية مقارنة بمدن وبلدات أخرى تم تهويدها منذ النكبة، وهذه صفة تستحق البحث والتأمل، لكنني لن أتوقف عندها في هذه المقالة المختصرة. لذا سأكتفي بالقول إن جمال حيفا قد يكون هو الصفة الوحيدة الواضحة في هذه المدينة. وما عدا ذلك، وعلى الرغم من وجود أضداد وتنافرات في هذه المدينة، إلا أن شيئا فيها يمنع الصدام والتصادم. شيء وسطيّ في هذه المدينة يمنعها من التطور من ناحية، والسقوط إلى الهامشيّة من ناحية أخرى، وهذه قضية تستحق مقالة تحليلية أخرى.

سوف أتوقف في هذه المقالة، عند الكيفية التي تشكلت فيها التركيبة السكانية في المدينة، لتتناصف فيها المجموعة اليهودية في بداية الأربعينيات مع سكانها الأصليين، وتتفوّق عدديا عليهم عشية نكبة حيفا في نيسان 1948. وأدعّي أنه تاريخيا عاش في حيفا عرب ويهود، ولكن تغييرات سياسية واقتصادية لعبت دورا كبيرا في تغيير تركيبة سكان هذه المدينة. وكان للمشروع الاستيطاني الكولونيالي الدور الأكبر في زيادة عدد اليهود في المدينة، ولم تنتج، هذه الزيادة، فقط عن تغييرات اقتصادية دفعت إليها سياسات الدولة العثمانية ولاحقا الانتداب البريطاني.

استند في هذه المقالة إلى تحليل مواقف الحركة الصهيونية من توسيع منطقة نفوذ بلدية حيفا بين عامي 1935 و 1939، من خلال مناقشة ضم كل من 'كريات حاييم' وحي 'أحوزا' إلى منطقة نفوذ بلدية حيفا، ولكني سأتوقف في البداية عند بعض الإحصائيات عن عدد سكان المدينة منذ نهاية القرن التاسع عشر.

مع نهاية القرن التاسع عشر، عدد سكان حيفا تراوح ما بين 8000 الى 9000 نسمة، وفي عام 1918 وصل هذا العدد إلى نحو 18 ألفا. إذ شهدت فترة 1900-1914، وبسبب ازدياد نشاط المدينة الاقتصادي (بناء فرع سكة الحديد، ومشاريع بناء أخرى) تناميا سريعا في عدد السكّان، لم يكبحه إلا انفجار الحرب العالمية الأولى. وقد كانت حيفا، حتى ذلك الحين، مقارنة بمدن فلسطينية اخرى، وعلى الرغم من تنامي سكانها السريع، مدينة صغيرة وغير ذات أهمية. إلا أن مؤسسات التعليم المسيحية، التي أخذت بالازدياد، والاستيطان المديني الألماني ومدّ سكة الحديد، زاد من مكانتها في الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية.

وفي الفترة الواقعة ما بين 1918-1939، تغير طابع حيفا بصورة درامية، إذ تنامى عدد السكان من ما يقارب 24 ألف نسمة عام 1922، إلى نحو 106 الاف سنة 1939. وتشير الأدبيات أن التغيير الأضخم حصل من ناحية تغيير التوازن بين الجماعات السكانية، وكان من نصيب المجموعة اليهودية. إذ بينما شكل اليهود ثُمن (واحد من ثمانية) مجموع السكان تقريبا سنة 1918، فإن عددهم ازداد إلى الربع عام 1922، ومن ثم إلى الثلث عام 1931. وقد استمرت هذه الزيادة في السنوات التالية. فعلى سبيل المثال، بينما كان عدد اليهود في المدينة ما يقارب 16 ألفا عام 1931، وصل عددهم عام 1944 إلى 66 ألف نسمة.

إن الوقوف عند تردد الحركة الصهيونية في ضم كل من 'كريات حايم'، عام 1935 ومبادرتها وتصميمها على ضم حيّ 'أحوزا' عام 1939، وما رافق هذه المواقف من نقاشات، هو مثال واضح على تأثير التغييرات السياسية من ناحية، وتأثير المشروع الاستيطاني اليهودي في حيفا، من ناحية أخرى، على تركيبة السكان فيها.

تأسست مستوطنتا 'كريات بيالك' و'كريات موتسكين' عام 1934 ولم تكن لأي منهما رغبة في الانضمام إلى مدينة حيفا، بسبب وجود غالبية عربية فيها وفي إدارة بلديتها. بينما اختلف الأمر بالنسبة لمستوطنة 'كريات حاييم' والتي أقيمت عام 1933، وكانت أكبر المستوطنات في المنطقة، وكانت وبسبب عدد سكانها الكبير نسبيا، تواجه صعوبات في إدارة حياة سكانها اليومية. وقد بادر مقيموها إلى مناقشة فكرة انضمامها إلى نفوذ بلدية حيفا، داخل الأطر الصهيونية. وفي اجتماع عقد في أيار 1934، والذي وشارك فيه: مندوب عن المستوطنة، ومندوب عن الوكالة الصهيونية، وكل من شبتاي ليفي ودافيد هكوهن؛ أعضاء البلدية اليهود من بلدية حيفا، تقرر إقامة لجنة بمشاركة جميع الأطراف المعنية لفحص الإمكانية على جوانبها المختلفة، وعلى الرغم من أن غالبية المشاركين كانوا معارضين لفكرة الانضمام.

وبالتزامن مع ذلك، وعلى الرغم من القرار بتأجيل النقاش حول القضية، توجهت لجنة 'كريات حايم' إلى بلدية حيفا، لبحث طلب الضم، الأمر الذي أثار حفيظة عضو بلدية حيفا؛ دافيد هكوهن، ودفعه إلى توجيه رسالة غاضبة إلى أطر صهيونية معنية، ومن ضمنها القسم السياسي للوكالة الصهيونية. ومن أبرز مبرراته لرفض هذا الطلب كان ضرورة الحفاظ على استقلالية المستوطنة، مستشهدا بتجربة تل أبيب، التي لم تكن، برأيه، لتزدهر لو ربطت مصيرها بمصير يافا. ومن جهة أخرى ادعى أن الجهات المختصة ستتكفل بزيادة عدد اليهود في مدينة حيفا، من دون الحاجة إلى ضم هذه المستوطنة.

أما الحالة الثانية فكانت طلب لجنة حي 'أحوزا' إقامة سلطة محلية مستقلة، وكان ذلك في عام 1937. ولكن في هذه الحالة، اختلف موقف المؤسسات الصهيونية من سياسة الضم. وجاء في قرار لجنة 'الييشوفيم' (وهي لجنة أقيمت في حيفا، للتنسيق بين الأحياء المختلفة) 'أن الأسباب الأمنية والسياسية تحتّم علينا رفض إقامة مجلس مستقل، والعمل على ضم أحوزا إلى منطقة نفوذ بلدية حيفا'. في التبريرات إشارة واضحة إلى ضرورة حصول تغيير في ديموغرافية في مدينة حيفا، بشكل يزيد من عدد سكانها اليهود، وخاصة بسبب اللجان التي تبحث قضية تقسيم البلاد، وتحديدا لجنة وودهود التي أقيمت عام 1938 لهذا الغرض تحديدا. وقد تزامن هذا أيضا مع قلق دافيد بن غوريون على مستقبل 'الييشوف' اليهودي في حيفا، وكانت حيفا إحدى المدن التي شجّع تهوديها في تلك الفترة، آملا أن تُشمل، مستقبلا، في حدود الدولة اليهودية.

وفعلا هذا ما حصل، ففي 5 كانون الثاني أقيمت لجنة لبحث اقتراح الضم من قبل البلدية، ترأسها نائب حاكم المقاطعة البريطاني، بتوصية من الحاكم نفسه لتنصيبه في رئاسة اللجنة، وكان حاكم المنطقة نفسه مؤيدا لفكرة مشروع الضم. وفي شباط 1940، تمت المصادقة على مشروع الضم، ونشر القرار بخصوصه في الجريدة الرسمية لسلطات الانتداب.

وعلى الرغم من أن اياً من مستوطنات 'كريات حايم' أو 'كريات بيالك' أو غيرها لم تضم الى منطقة نفوذ بلدية حيفا، إلا أن الأدبيات المختلفة، ومن ضمنها الإسرائيلية، تشير إلى أنه وفي خضم الصراع على عدد السكان في المدينة، والتي زادت حدته بين العرب واليهود منذ بدايات أربعينيات القرن المنصرم، عملت المؤسسات الصهيونية المختلفة على شمل عدد سكان هذه المستوطنات إلى عدد سكان مدينة حيفا، رغبة منها في إبراز تفوقهم العددي، وترك الانطباع أن حيفا هي مدينة يعيش فيها العرب واليهود، ويتغلب عدد سكانها اليهود على سكانها العرب ولو بفارق بسيط. ترافق هذا مع حركة الاستيطان القوية التي اجتاحت المدينة منذ عشرينيات القرن العشرين. ومن هنا، وعلى الرغم من صحة الادعاء أن يهودا سكنوا حيفا منذ عشرات السنين، إلا أن زيادة عدد اليهود في حيفا، وبالذات منذ عشرينيات القرن الماضي، جاء في الأساس نتيجة مشروع استيطاني وليس نتيجة زيادة سكانية طبيعية.

عودة إلى "ملف حيفا"

التعليقات