المعمر أبو حميد شاهد على العثمانيين والبريطانيين والنكبة

لقد تخلت الدول العربية عن الشعب الفلسطيني في النكبة، بل تآمروا علينا واستهزءوا بنا، ونحن فقط من قاوم وحاول الدفاع عن فلسطين، ونحن لليوم نحمل غصن الزيتون بيدنا والبندقية على كتفنا، نمد يدنا للصلح ولكن لن نتنازل عن الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف

المعمر أبو حميد شاهد على العثمانيين والبريطانيين والنكبة

قد لا نجد في كتب التاريخ الحديث ما تملكه ذاكرة المعمر الفلسطيني الحاج محمد موسى تركي عواد (أبو حميد) من طمرة، وما ترويه تجاعيد وجهه من حكايات عاشها خلال 103 أعوام، شهد فيها ثلاث حقب تاريخية، بداية من عهد الحكم العثماني ومرورًا بالانتداب البريطاني، والاحتلال الإسرائيلي. ولا يجد المعمر 'أبو حميد' صعوبة في رواية تاريخ فلسطين وجغرافيتها قبل النكبة لكل من يزوره بمنزله في مدينة طمرة، فذاكرته “الحديدية” تسعفه دائماً في إيجاد إجابة دقيقة لكل سؤال يُطرح عليه.

الحاج عواد لا يزال يتمتع بصحة جيدة إلا أنه أصيب بكسر في رجله منعه منذ سبعة أشهر من التوجه للمسجد، وبالرغم من أنه أجرى عملية في عينيه ويرى بعين واحدة، إلا أنه يحاول جاهدا قراءة القرآن. لديه من الأبناء أربعة توفي اثنان منهم، وسبعة بنات (نجمة، حميد، فتحية، ادمة، فدوى، فاطمة، فلة، فهيمة، عدنان (رحمه الله)، وليد وفهيم).

الحكم العثماني وإهانة العربي في البلاد

أبو حميد، المولود عام 1913، يصف جنود الأتراك في فترة الحكم العثماني بأنهم كانوا قساة القلب ولا يتراجعون عن إطلاق النار على كلٍ شخصٍ لم ينصع لأوامرهم، وأشار إلى أنه 'كان يتم إرغام الفلسطنيين الخدمة في صفوف الأتراك مع إهانتهم، فالجندي العربي مهان والجندي التركي مُكرم، بحيث كان يُستغل الجندي العربي لبناء الخنادق وحمل العتاد والأدوات التي يتم استخدامها لحفر الأنفاق على ظهره، أما الجندي التركي فكان يستخدم الخيل للتنقل'.

 كان محمد الطفل شاهدًا على «ظلم الأتراك»، فوالده موسى تركي، كان واحدًا من رجال العسكر التركي، الذين أُجبروا على طاعة الأتراك قسرًا. صغيرًا كان عندما هاجم الجنود الأتراك بيت العائلة، وتحدثوا إلى والدته متسائلين عن مكان اختباء والده موسى، وعندما أجابتهم باندفاع: «شو بدكم مني، منين أخلقوا؟! بس سمع فيكم هج». نظر إليها العسكر نظرة احتقار، وقال قائدهم: 'بالقوة راح تعترفي وتم ربط والدته بحديد الحصان الذي معهم، صرخت: «واللهِ لأشكيكم لخالي أبو حمادي». قاطعها العسكر: «مين قلتي؟!»، ردت: «خالي محمد حمادي من شفاعمرو». ولأنّ خالها كان متصرف منطقة الشمال وله مكانته في صفوف العسكر تركوها وذهبوا.

التعلم في الكتاب

وعن فترة الطفولة والتعلم قال الحاج أبو حميد، في العام 1918 وبعد خروج الأتراك كان عدد سكان مدينة طمرة 1000 مواطن، فقد عاد والده موسى التركي، الذي حارب إلى جانب الأتراك لأكثر من أربعة عشر عامًا، بينما هو (محمد) كان لا يزال طفلاً في السادسة من عمره، قام والده بإرساله للتعلم في بيت الشيخ عبد المرزوق مريح وهو خطيب الجامع في القرية آنذاك، كان ينطلق مع رفاقه يحملون كل منهم صاعا من القمح، وهم حفاة تنخزهم الحجارة والأشواك وآثار الصبار المتناثرة في المكان، يسلمون الدفعة اليومية للأستاذ ويختارون مكانهم على الحصيرة المفروشة أرضا، وذكر بأنه في تلك الفترة كانت تتعلم معهم فقط طفلتين هما هدى محيي الدين وبلقيس أحمد الحاج، اللتان كانتا تجلسان على مقعدين في زاوية المكان، وهما الوحيدتان اللتان كانتا تجيدان القراءة في تلك الفترة، حيثُ تعلم هؤلاء جزءًا كبيرًا من القرآن الكريم قراءة وكتابة.

العمل في حيفا

تزوج محمد موسى عواد عام 1935، من تركية عبد الرحيم تركي عواد، ابنة عمه التي تصغره بسنتين، بدأ محمد عواد (أبو حميد) عمله في الريفنري عام 1939، بعد أن توسط له أحد أقاربه في بلد الشيخ، فقد استلم وظيفته هو وزميله محمد سليمان وحسن أبو سليمان مريح وهما أيضًا من طمرة، وقال: 'لم تكن قد شُقت شوارع في طمرة، لهذا كنا نتوجه أحيانا مشيا على الأقدام إلى منطقة الريفنيري في حيفا، وأحيانا كنا نقف على منطقة 'بير الطيرة' في مدخل طمرة ننتظر باصا قادما من سخنين أو من منطقة الشمال، وكان الباص يصل إلى منطقة 'السعادة' وهي منطقة 'تشيكبوست' حاليا وتقع شرقي مدينة حيفا كانت تعود لـ'بلد الشيخ' التي تم تهجيرها عام 1948، وإنشاء بلدة يهودية مكانها وهي 'تل حنان'، كما كان يسكن المنطقة سكان أغراب في بلدة اسمها 'هواسة' قريبة من منطقة حيفا.

قتل 39 يهوديًا في الريفنري أدى لتدمير قرية 'بلد الشيخ' بالكامل

يقول الحاج أبو حميد: ' تفجرت الأحداث الدامية بين العرب واليهود عام 1948، بعد استشراس عصابات البلماح والهجاناة الصهيونية في قتل المواطنين العرب، واستهدفت قرية بلد الشيخ القريبة من طمرة لأهميتها بحيث أُعتبرت إحدى مراكز المقاومة الفلسطينية لاجتماع كبار الثوار الفلسطنيين بها ومن ضمنهم عز الدين القسام، وقتلت العصابات الصهيونية  60 مواطنًا من القرية، ومن ثم تم تهجير وتدمير غالبية بيوتها، ووقعت أحداث قرية الشيخ بعد عملية الريفنيري التي قُتل بها 39 يهوديًا واختفاء شخص واحد، وقد وقعت عملية الريفنيري انتقاما لقتل 6 عمال فلسطينيين وجرح 42 آخرين في الرفينري ايضًا.

اجتياح العصابات الصهيونية لطمرة

وتابع الحاج أبو حميد: 'بعد عملية الريفنيري والقضاء على قرية بلد الشيخ، واصل اليهود هجومهم على شكل ثلاث عصابات للجيش الصهيوني هي(الهجاناة، الشتيرنج والليحي)، إلى طمرة وتم استدعاء الكثيرين للتحقيق معهم في أحداث العملية، وكنت واحدا منهم خاصة أنني عملت في هذا المكان، إلا أنني لم أقتل أي، وتم استعداء مهندس يدعى 'خالسين' عمل معي في فرقة 12 في الريفنيري وشهد بأني لم أكن قاتلا في هذه العملية، ومع دخول العصابات الصهيونية حاول عدد من الثوار والمقاومين الدفاع عن طمرة، ولم يتمكنوا فصعدوا إلى منطقة 'الصنيبعة' وهي منطقة وعرية شرق مدينة طمرة وبقينا لمدة أسبوع هناك، وبدأت معاناتهم تظهر مع عدم تحملهم العطش الشديد في تلك الفترة، حاولت التوجه أنا وأخي إلى لبنان إلا أن زوجتي كانت حامل فلم نتمكن'.

المقاومين والثوار من طمرة

وأضاف أبو حميد: 'جرت مواجهات عنيفة في معظم القرى العربية فكانت قرى مجد الكروم والرويس والدامون والبروة وميعار أقرب القرى الفلسطينية لطمرة، وتم تهجير عائلات تلك القرى إلى طمرة وكابول وسخنين والقرى المجاورة، وفي تلك الفترة قَتل الثوار سمسار طمراوياً معروفاً، والذي ساعد اليهود في بيع الأراضي. وكان يأتي إلى بيتي محمد الحاج طه مريح للتخطيط والمشاورة في أمور الثورة والمقاومة وأبنائه فتح أبو بدران وطه مريح، وقد أخبرت محمد الحاج طه نقلا عن أحد كبار الحاخامات من اليمن والذي عمل ابنه معي في الريفنري بأنه ستشهد فلسطين حكما يهوديا وبعد سبعين سنة سيزول هذا الحكم'. وبدأ الحاج 'أبو حميد' بإجراء عملية حسابية لعدد السنين وما تبقى لزوال حكم اليهود في الدولة.

عام 1948، طمرة ترفع الراية البيضاء

بدأ الحال يسوء مع أهالي طمرة في المناطق الوعرية، وعندما لم يعد بإمكان الأهل تحمّل العطش، توجه أحمد حميد ذياب من طمرة إلى مسؤولين في المنظمات اليهودية وهما يئيل وشريت كوهين وقالوا بأن أهالي طمرة سيستسلمون، فكان صبري الحسن هو الأول، حيث رفع حطته البيضاء على العصا، وعندما سلّم أبناء القرية تركت سيارات اليهود المكان، وعاد الطمراويون إلى بيوتهم، بينما التجأ أهل الدامون وأهل ميعار إلى طمرة وغيرها من القرى المجاورة، وسكنوا هناك، فيما خرج أهلُ قرية البروة إلى قرى الجديدة والمكر ومجد الكروم وإلى أماكن اخرى يسهل الوصول إليها، والوحيدون الذين لم يتركوا بيوتهم هم أبناء قرية مجد الكروم.

الحكم الصهيوني

يقول أبو حميد: 'مع بدء الاحتلال الصهيوني لم تنتهِ الويلات فقد صارَت الأوضاع أصعب، تحوّلت المناطق العربية إلى سيطرة عسكرية، وصارَ الحاكم العسكري هو الذي يعطي التصاريح لتنقل العرب من مكانٍ إلى آخر، فإذا ما كنت تحتاج إلى التوجه لقرية كابول التي تبعد مئات الأمتار عن طمرة كنت بحاجة لتصريح، كذلك أن تتوجه لطبيب كان عليك انتظار التصريح، أما أنا فكنتُ أحصل على تصريحٍ شهري للعمل في الريفنري، كان الحاكم العسكري ظالمًا إلى أبعد الحدود فقد حُرم الكثيرون من الحصول على تصاريح، وبذلك خسروا أرضهم وممتلكاتهم وخيراتهم، وصارَ كل شيءٍ مباح وفق رغبة الحاكم العسكري'. ويرى الحاج أبو حميد أيضًا بأنّ حياة الفلسطيني تتراوح بين الاحتلال والتعلق بالأمل، والذل والحزن وانتظار فجرٍ جديد 

واختتم أبو حميد حديثه بالقول: 'لقد تخلت الدول العربية عن الشعب الفلسطيني في النكبة، بل تآمروا علينا واستهزءوا بنا، ونحن فقط من قاوم وحاول الدفاع عن فلسطين، ونحن لليوم نحمل غصن الزيتون بيدنا والبندقية على كتفنا، نمد يدنا للصلح ولكن لن نتنازل عن الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف'.

 

التعليقات