في لقاء حصري: فياض يتحدث عن 41 عاما من الأسر والمنفى

بعد واحد وأربعين عاما من الأسر و المنفى، وما يعتبره بمثابة الموت البطيء والوجع المؤبد، اد إلى مسقط رأسه في قرية المقيبلة في منطقة المرج، قبل أيام، بعد أن أبعد عنها قسرا مدة دهر من الزمن وأكثر

في لقاء حصري: فياض يتحدث عن 41 عاما من الأسر والمنفى

بعد واحد وأربعين عاما من الأسر والمنفى، وما يعتبره بمثابة الموت البطيء والوجع المؤبد، عاد إلى مسقط رأسه في قرية المقيبلة في منطقة المرج، قبل أيام، بعد أن أبعد عنها قسرا مدة دهر من الزمن وأكثر.

التقيناه بعد تكرار المحاولات في منزل العائلة متكئا على عكازه، ويحدق في أسفل العكاز الذي يتنقل به ويحمل جسده الثقيل. مثقل بالغربة والاغتراب وأوجاع المنفى والنكبة والنكسة ومغادرة بيروت المقاومة، ويلامس صفحات الأرض التي حلم بالعودة إليها ويلعق عكازه ترابها بخطوات حزينة وكأنه لا يصدق ما ترى عيناه.

ويتنقل في زقاقات وأحياء البلدة يرتشف القهوة لدى هذه العجوز وذاك الشيخ، ويتأمل وجوه الأطفال. لكنها ليست الصورة المحفورة في ذاكرته. فالصورة انقلبت مع عسف الزمن، ويتوه بمعالمها 'الحديثة' متفقدا معالم الماضي.

هو الكاتب والمناضل توفيق فياض الذي عاد إلى أرض الوطن بعد معركة قانونية في المحاكم الإسرائيلية دامت قرابة الـ13 عاما تصدرها المحامي المعروف محمد دحلة، وبعد أن كان قد أمضى في الأسر في السجون الإسرائيلية مدة أربعة أعوام، امتدت من العام 1969 لغاية عام 1974، لتطوف به الحياة وتتقاذفه في سلسلة محطات من المنافي والقهر والوجع من مصر إلى عمان، إلى بيروت لتزرعه فاجعة الغربة مدة ثلاثين عاما في تونس التي يصفها بالموت البطيء بل أقسى من الموت ذاته.

وكان قد أطلق سراحه في العام 1974 في عملية تبادل للأسرى بين الإسرائيليين والمصريين بعد أن أسر بتهمة تقديم الخدمات لصالح مصر عبد الناصر مع رفيقه الأسير المرحوم عبد الرحيم قرمان من قرية إبطن قضاء حيفا.

البلد لا تشبه البلد لكن الناس توحدوا حولي وحول المعنى

جالسناه في بيت شقيقه غازي فياض غرب البلدة برعاية ابن أخيه إسلام فياض بطاح الذي يرافقه ويرعاه.

افتتح توفيق فياض حديثه بالقول: 'لم أتعاط مع الصحافة، لكن عندما أعلموني أن اللقاء مع موقع عرب 48 قلت أهلا وسهلا، فأنا متابع لحد ما، وموقعكم معتمد خارج البلاد'.

ويمضي: 'إنها العودة. نعم هي العودة، لكني ما زلت أريد أن أبحث عن الأشياء لأصدق، وأستوعب كل ما تغير وتبدل، القرية لم تعد قرية، والريف لم يعد ريفا بكل الدلالات البسيطة والعفوية، اشتهي رائحة الطابون، أو أن أسمع نهيق حمار أو نباح كلب، أو صوت ناي، ولن يتخيل إنسان مع كل بلاغة الكلام عمق هذا الشعور خصوصا عندما تختلط عليك المشاعر والأشياء، وتتوارد أمام ناظريك الصور من الماضي وكل الموروث الذي التصقت في ذهني ووجداني وواقع الصور والحال اليوم.. البلد لا تشبه البلد، والصورة التي عايشتها تختلف تماما، والناس لا يشبهون الناس الذين أعرفهم لكني تعرفت على الكثيرين من أبناء هذا الجيل من خلال قوة الذاكرة، وقدرتي على التشبيه بملامح آبائهم وأمهاتهم'.

وحول المنفى قال إنه أصعب من الموت، فالاقتلاع هي أبشع جريمة إنسانية ترتكب بحق الإنسان.

وأضاف فياض: 'عدت للمقيبلة لكني لم أجد البلد، لم أجد المقيبلة، رغم أنهم احتضنوني بحرارة منقطعة النظير. اجتمعوا جميعا حولي، وحاولت تشخيصهم من خلال التشبيه..على سبيل المثال صادفتني شابة في الشارع، وصافحتني فقلت لها مباشرة أنت بنت حسنة، ومع غيرها حصل كذلك وشبهت الكثيرين، وأصبت. هذا ناتج عن الحب الكبير والعميق لآبائهم وأجدادهم ولبلدي، فأنا أختزن الصور الأصيلة لهم، ومن جهة أخرى أشعر بالصدمة من المتغيرات الاجتماعية والثقافية الكبيرة التي أراها، وأنا حزين لأني لم اعش هذه الفترة في بلدي.

الثمن باهظ.. ولو بقيت لكنت من كبار كتاب العالم

يكفكف دمعه الذي تقطعه بسمة تخفي وراءها تاريخ المرارة، ويضرب كفه بركبته، ويمضي ويقول 'الثمن الذي دفعته من أجل فلسطين غال، وأغلى من رصيدي الأدبي، ولو بقيت هنا لكنت من كبار كتاب العالم، لكن الشتات أثر لحد كبير على إنتاجي الأدبي'.

وحول القول إن المنفى يشكل مصدر إلهام وإبداع، أجاب بانفعال وقال: 'هذا غير صحيح على الإطلاق، لأني كاتب لا أحمل حقيبة. يمكن أن ينطبق هذا القول على الشاعر، مثل محمود درويش، ولكن لا ينطبق على الأدب، إذ على الكاتب أن يقلع زيتونة ليأخذها للمهجر ليستطيع الكتابة عنها، ومن هنا تبدو صعوبة الكتابة في المنفى وبعيدا عن الوطن، باستثناء الكتابات الوجدانية، لأني ولو بقيت هنا لوصلت بعيدا في مجال الإبداع'.

واستطرد وقال: 'سكنت مع محمود درويش في شارع بفزنر 41 بمدينة حيفا، وكانت شقيقتي منيرة تدرس في الناصرة، وتأتي إلي كل أسبوع، وكانت تجمع قصاصات الورق التي أكتب عليها، وأرميها. وبعد سجني، وبعد أن ابعدت إلى مصر، وصلتني سيدة ذات يوم تسأل عني هناك وتحمل ظرفا فيه كل هذه الخربشات التي جمعتها منيرة، ومن هذه الورقات كتبت أجمل القصص الصغيرة 'مجموعة البهلول' لأنه كانت جذورها هنا في فلسطين، وبداياتها هنا بالوطن ومنها 'الشيخ لاغي الملكط'، وهي قصة مركبة جدا لأنها تقطير لقصة كبيرة.

آخر نظرة للوراء

في العام 1974 كنت متمردا في سجن شطة، ورافضا للإبعاد عندما علمنا به ضمن صفقة التبادل مع الجانب المصري، والتي تمت بحسب غولدا مئير لتسهيل فرص السلام مع مصر مستقبلا بعد أن اعترض على الصفقة رئيس المعارضة مناحيم بيغن، في حينه، بالقول كيف يمكن مبادلة إسرائيلي بإسرائيلي'.

وحول لحظة النفي، قال: 'عندما أخذوني من سجن شطة لم يخطر ببالي أنني سأتحرر من السجن، حيث نقلت إلى غزة، وفوجئت هناك بوجود الأسير المرحوم عبد الرحيم قرمان في نفس المركبة. وكانوا قد نفوه أيضا. وعندما عرفنا بقضية التبادل رفضت ذلك إلا أنهم رفضوا إعطائي هويتي وجواز سفري، وتوجهوا بي نحو الصحراء لتسليمي للجانب المصري. وعندما أراد الطرف المصري استلامي وأنا مكبل اليدين بقيود بلاستيكية التي انغرست بلحم المعصمين، استفز الضابط المصري المتواجد تعامل الإسرائيلي معي بتعال وفظاظة، وهجم على الضابط الإسرائيلي يصرخ بوجهه. وعندها أحضر الضابط سكينا ليقطع القيد تعامل معي بلطف، وأنا ألقي النظرة الأخيرة للوراء حيث عرفت أنني خسرت الوطن، والدموع تنهمر من عيني. وبعد أن مكثت فترة قصيرة في مصر التقيت بالقيادة الفلسطينية هناك، ومنهم أبو عمار وأبو جهاد، وطلبوا مني الذهاب إلى بيروت، وهكذا فعلت. وبعد أن انتكست الثورة عام 1982 والخروج من بيروت انتقلت إلى منفى آخر في تونس إلى حين عدت إلى أرض الوطن، بعد أن فتحنا معركة العودة التي تصدرها المحامي محمد دحلة منذ 13عاما.

وفي بيروت تزوج فياض من فتاة لبنانية، إلا استشهدت في قصف إسرائيلي أصاب منزل العائلة في بيروت. وبعد أن استقر به المقام في تونس تزوج من فتاة سورية، وأنجب منها ولدان وابنة، ولا يزالون يقيمون في تونس. ويؤكد في هذا السياق على أن معركته القادمة ستكون لمّ شمل عائلته.

وأنهى حديثه بالقول 'أحاول أن أستوعب الأمور تدريجيا في ظل هذا الاحتضان الرائع من أهل بلدي. وحقيقة لم أتوقع هذا الحب، وهذا الاحتضان الذي جمعني بأهل بلدي، وهذا المجتمع لا يجتمع إلا على الحب'.

------------

* موقع عــ48ـرب سيجري لقاء آخر مع الكاتب في موعد قريب

التعليقات