درب الآلام في رحلة الشفاء من السرطان

بابتسامةٍ وترحابٍ استقبلتني جمانة زيدان في بيتها بكفر مندا، لمستُ فيها هدوءًا روحانيًا، رأيتُ سيِّدة قويّة وهادئة، عرفتُ أنها مريضة سرطان، لكنّها انتصرت عليه، بعد وجعٍ طويل وتجربةٍ مريرة، تخللها رحيلُ شقيقها عماد الذي شدَّ مِن إزرها ورحلَ قبل أن يهنئها بالسلامة.

درب الآلام في رحلة الشفاء من السرطان

جمانة زيدان

بابتسامةٍ وترحابٍ استقبلتني جمانة زيدان في بيتها بكفر مندا، لمستُ فيها هدوءًا روحانيًا، رأيتُ سيِّدة قويّة وهادئة، عرفتُ أنها مريضة سرطان، لكنّها انتصرت عليه، بعد وجعٍ طويل وتجربةٍ مريرة، تخللها رحيلُ شقيقها عماد الذي شدَّ مِن إزرها ورحلَ قبل أن يهنئها بالسلامة.

جمانة، أمٌ لأربعة أبناء، تعملُ في مهنة تعليم السياقة، هذه الوظيفة تتطلَّب قوّة شخصية وتحدٍ مِن أجلِ تحقيق النجاح. وهي السيِّدة الأولى في كفر مندا التي تُعلِّم السياقة، وهكذا تحولَت إلى عنوانٍ للسيدات اللواتي يرغبن بتعلُم القيادة.

كُلُ شيءٍ كان ممتازًا، خلال عملها، الأولادُ مجتهدون في دروسهم بمساعدة والدتهم، ترافقهم الوالدة حتى صفوفهم، وكُل ما هو مطلوب مِن ربةِ البيتِ كانت تفعله دون ملّل، وإلى جانبها وقف زوجٌ داعم ساعدها وساهم في دفعها للحصول على شهادة تعليم السياقة والمباشرة بالعمل.

الصراع مع مرض السرطان

بينَ ليلةٍ وضحاها وبتعبٍ شديد، تلقّت جمانة نبأ إصابتها بمرض السرطان، وفي التفاصيل الصغيرة والكبيرة، لم يَعُد مهمًا سرد التفاصيل لسيدةٍ انتصرت على نفسها وتحدَت المرض لتُشفى مِنه.

قالت جمانة زيدان لـ'عرب 48' إن 'شقيقتي وخالتي كانتا في ضيافتي، ليلتها طلبتُ منهما المبيت، خلال الجلسة العائلية قامت ابنتي بعملِ مساجٍ لخالتي، ولمسَتْ جسمًا صغيرًا في منطقة الظهر، قالت خالتي لابنتي لا تذكريني بها، أما أنا فقلتُ لخالتي لماذا أنتِ قلقة؟، أنا أيضًا لديّ ورمٌ صغير في منطقة الصدر، إنه أمرٌ عادي ولا يخيفني، فتدخلت شقيقتي، وأصرّت أن أذهب صباحًا إلى طبيب العائلة للاطمئنان، وعدتُها بذلك، لكنني نفسيًا لم أرغب بالذهاب، لكن تحت الضغط اضطُررت لزيارة الطبيب، الذي قال لي: ماذا نقول عن النساء اللواتي يجلسن في البيت ولا يقرأن ولا يكتبن؟، كيفَ تصمتين على هذا الأمر؟ قلتُ له لماذا تخيفني؟ ردّ قائلاً: اذهبي إلى غرفة الاستقبال وأخبري الممرضات أنّ الطلب عاجل، ليقمن بتعيين فحص لدى الجرّاح، فوجئتُ بطلبه، بينما رتّبت الممرضة موعـدًا لدى مدير المستشفى النمساوي، الدكتور إبراهيم حربجي. التقيتُه وطلب مِني فحص ميموغرافيا (فحص ثدي)، سألتُه: هل هناك شيء مُخيف؟ قال بالطبع هناك شيءٌ، لكنني لا أؤكِد ولا أنفي، فهناك جسمٌ غريب، لكنني لا أعلم إن كان سرطان أم دهن. شعرتُ بضغطٍ كبير، ارتفع الخوف لديّ مِن السرطان درجات، قال الطبيب: 'ما زال في أوله، سألته ما هو الذي في أوله؟ جملته المقتضبة أضاءت لي ضوءًا أحمر، فالفحوصات تحمّلك الكثير من العبء، خاصةً أنه من غير المتوقع أن أكون مريضة سرطان. انتظرتُ جواب الفحص، من يوم الجمعة حتى الخميس، أسبوع قاسٍ، صحيح أنني أجريتُ علاجًا كيماويًا وبيولوجيًا وثلاث عمليات جراحية، لكن كل ذلك لم يكن بحجم الأيام التي انتظرتُ فيها الإجابة التي تقرِّر مصير حياتي، عشتُ متاهة كبيرة'.

رحلة الآلام

وأضافت زيدان: 'لأوّل مرّة أعيش تجربة لم أكن أتوقعها، ما عشته كنتُ أسمع عنه من بعيد، يقولون 'كالأفعى التي تنهش في جسدي'، شيءٌ ما له فمٌ وأسنان يأكُل داخلي، وهكذا سيطرَ الخوف عليّ، بفمِ الأفعى التي تأكُلك من الداخل، خائفة ومتعبة، وتعيسة، أنظُرُ إلى جدران البيت، إلى أبنائي، هل يُعقل أن أتركهم وأرحل؟! أبلغتُ بناتي أنّني تعرضتُ لالتهابٍ في صدري.
وصلتُ إلى المستشفى النمساوي، التقيتُ بالموظفة المسؤولة، أخبرتها أنني أجريتُ فحص عيّنة سرطانيّة، وجئتُ لآخذ النتيجة، قالت لم تصلن أجوبة حتى الآن، قلتُ لها، لن أخرج مِن هنا، أنا قلقة منذ يوم الجمعة... أنا أموت، أريد الجواب حالاً، وبكيت، قالت الموظفة: 'لو كان الجواب لديّ لأعطيتكِ إياه، فتوجهت للدكتور لأسأله عن النتيجة. خلال انتظاري للطبيب دخلت سيِّدة، سألتني ما الجواب الذي تنتظرينه، قلتُ لها نتيجة فحص للسرطان، فحدثتني عن تجربتها، أجريت عمليات وأشعة، نظرتُ إليها غير مصدِّقة، حدثتني عن فترة علاجها، فقد كانت تسافر إلى مستشفى رمبام لإجراء العلاج، بينما يعالَج زوجها في مستشفى العفولة وتجرى له فحوصات للدياليزا، وكانت الصدمة أنّ زوجها توفي في المستشفى خلال إحدى الجلسات العلاجية، أخبرتني السيِّدة أنها اضطُرت إلى الوقوف على رجليها من جديد كي تربي أبنائها الثلاثة، وجاءت اليوم لتدعو الطبيب على فرحِ ابنها، حديث السيِّدة جعلني أشعرُ بهدوءٍ لم أشعرُ بِهِ أسبوعًا كاملاً، غادرتُ المكان، اتصلت بي الممرضة، أخبرتني أنّ نتيجة الفحص لدى طبيب العائلة، وصلتُ للعيادة، أمسك بملف الفحوصات، سألني: كيفَ أنتِ؟ قلتُ: تمام، قال لي لكنّ فحوصتك ليست تمام، قلتُ له الحمد لله، فردّ عليّ: أريدك هكذا دومًا.

أخبرني الطبيب أنّ مرحلة العلاجات الكيماوية والبيولوجية ستبدأ، قال طبيبي: 'عندما تكونين مهمومة لا تقولي: يا رب لديّ همٌ كبير، بل قولي يا هم عندي ربٌ كبير'، لم تتقبل العائلة نبأ إصابتي بالسرطان، لاحقًا استشرتُ مختص كبير وفضلتُ الاستئصال الكُليّ. استمر العلاج الكيماوي عشرة أشهر، ثم أكملتُ عامًا مِن العلاج البيولوجي، كانت مِن أجمل أيام حياتي، فقد أصبحتُ أقدِّر نفسي ووجودي وأعطي قيمة لذاتي. وهكذا أنهيتُ العام الماضي العلاجات'.

أما أصعب المواقف التي حدثت معها، فكانت حسبما تقول جمانة زيدان، 'يومَ قصصتُ حلقتُ شعري، لأنه كان يتساقط لدرجة أنّ ابني لعِب بخصلات شعري التي تساقطت أمامه، وهكذا قررتُ زيارة مصفف شعر يصنع الباروكة، والصعوبة في الأمر أنني دخلتُ إلى غرفةٍ جلستُ قبالة المرآة أغمضتُ عيوني وتساقطت دموعي، فتحت عيوني رأيتُ شعري كله على الأرض، نظرت إلى المرآة رأيتُ شقيقي عماد، رحمه الله، أمامي فكان يشبهني تمامًا، انهرت في تلك اللحظات الصعبة، بكيت عماد وشعري، إذ وصلت إلى مرحلة أفقد فيها أشياء من نفسي، خاصةً أنّ أجمل ما في المرأة هو شعرها، وقد هيأتُ نفسي بتساقُط رموشي وحواجبي. وأخيرًا وضعت الباروكة وكأنّ شيئًا لم يكن. عدتُ إلى البيت، في لحظةٍ رآني جواد بدون شعر عاد خطوة إلى الوراء، شعرتُ أنه صُدم، كان ينام إلى جانبي، في الليلة الأولى لم يرضَ أن ينام بقربي، طلب مني وضع منديل أو باروكة ووضعت منديلاً، قلتُ له إنني قصصتُ شعري بسبب الدواء، كنتُ أشعر أنني أمثّل على المحيطين بي، وتمنيتُ لو أستطيع الخروج دون باروكة'.

السرطان لا يختلف كثيرًا عن السكري وأوجاع القلب

وقالت جمانة زيدان لـ'عرب 48' إن 'رحلتي مع السرطان بدأت منذ شباط وحتى حزيران 2013، صحيح أنّ الله أخذ من صحتي، لكنه منحني العزيمة والقدرة على الوقوف. تغيّرت بي أشياءُ كثيرة أصبحتُ أحِبُ نفسي، وأُجبرها كي تجلس، وأدع الساعة تهرع، فلجسمي حقٌ عليّ، وانتهى اليوم الذي كنتُ فيه أحاسِبُ نفسي على تأخُري عن طالباتي أربع دقائق'.

وتنهي قائلة 'كنتُ أذهب إلى العلاجات لوحدي، هكذا أحببت أن أكون بلا مُرافِق، كدتُ أنسى أنني مريضة سرطان، بل إنّ مرضي لا يختلف عن أمراض القلب والسكري، أتذكر فقط أنني مريضة سرطان عندما يقول البعض 'الله يشفيكِ'.

التعليقات