أحب الرملة ويصعب علي فراقها

في قلبِ حارة النصارى في مدينة الرملة، دخلتُ ما بدا أنه مقهى، وحين دخلت، تبيّن أنه محل تجاري لبيع الكنافة والحلوى، عن المحل التجاري، لصاحبه زياد شاهين، تحدثنا معًا، فأعلمني بالتفاصيل.

أحب الرملة ويصعب علي فراقها

في قلبِ حارة النصارى في مدينة الرملة، دخلتُ ما بدا أنه مقهى، وحين دخلت، تبيّن أنه محل تجاري لبيع الكنافة والحلوى، عن المحل التجاري، لصاحبه زياد شاهين، تحدثنا معًا، فأعلمني بالتفاصيل.

أبلغُ من العمرِ خمسين عامًا، وهذا المحل الذي نحنُ فيه، كان مُلْك جدي منذ العام 1904، جاء من الشمال، من بلدة كفر كنّا تحديدًا، نتحدث عن مبنىً عمره أكثر من 300 عام، عمل الجد هنا، ومن بعده أكمل ولدي، وأنا أكملت بعده، هنا، في شارع النصارى، بالبلدة القديمة في الرملة، ويسمى  الشارع، أيضًا، 'شارع الكنائس'، وتلتقي الكنيسة بالجامع في الحي. كان المحل تجاريًا أغلب الأوقات، وبيتي بجانب المحل، وهو بناء جديد، إذ بني منذ 60 عامًا فقط.

الدكان عمره من عمر النكبة، كان في السابق بقالة قديمة، وفي المحل ذكريات لمخازن البضائع المستوردة في الداخل، والمخزن تابع للبيت القديم لجدي، وكان هنا بئر ماءٍ مع سقيّة ماء تسير مع أمطار الشتاء وتعبئ البئر، أما مُلك المكان بالأساس للبطريركية الأرثوذكسية، ونعيش فيها كما يسمى ترحيلة. بعدها، تطوّر المكان وتغيّر، لكن المبنى القديم بقي مكانه، ولم يتغيّر فيه أي شيء، بعدها جدّد والدي المكان وحوّله لدكان، ثم جددتهُ أنا لمطعم وبعدها لمحل حلويات، كما تريْن.

أصلُ جدي من كفر كنا، جاءَ إلى الرملة عام 1904، ليعمل مدرّسًا، فأحبّ صبية من عائلة دحدح، وهي من العائلات العريقة بالرملة، أما هو، فمن عائلة شاهين، تزوج واستقرّ بنا هُنا، ونصف عائلة 'شاهين' ظلّ في كفر كنا، حتى اليوم.  ولا زلنا في تواصل طوال الوقت، الآباء أبناء العم، ونتواصل مع بعضنا البعض، وبيننا نسبٌ بين بنات وأبناء العائلة.

بما أنّ المحل التجاري موجود طوال الوقت، إلا أننا جددناه وحولناه في النهاية - كما تريْن – إلى محل حلويات، والصعوبة لي ولآخرين كأصحاب محال تجارية هو الترخيص، يماطلون ويصعبون إعطاء الرخصة، بسبب الطلبات، لكن، في النهاية، لا يغلقون محالنا التجارية. نستمر في العمل، إلا أنّ الطلبات لا تنتهي، والمفروض أن نلبي الطلبات لنبقى في مصدرِ رزقنا.

هنالك عقود قديمة، تابعة لدير الروم الأرثوذوكس وفي الخلف نرى الساحة تُطل على الكنيسة، عمرها ألفُ عامٍ أو أكثر، وقربها الجامع، قُبالة المحل يقع حمّام الوزير، حمام رضوان، تريْن القُبة، كان حمامًا تركيًا قديمًا، في الثمانية وأربعين كان تابعًا لعائلة خليل الوزير، أبو جهاد، وهو رملاوي الأصل، استشهد في تونس عامَ 1988، الحمام مغلقٌ اليوم، وجزءٌ بسيط أُغلق ووضع سياجٌ حولَه وأزالوا البِرك، برك الماء التي كانت تصُب في داخل الحمام، أيام فلسطين، فقد تركته العائلة وهُجِّرت، وعُمر أبو جهاد حين هُجِر أربعة أعوام.

ونحنُ، كعائلة هُجِر جدّي يوسف شاهين في الـ48، كان جدي مشهورًا، خرج إلى الأردن وظنّ أن البلاد ستعود بسرعة، وأنّ العرب سيحمونهم، من اليهود، ويبدو أنه فهم ما سيجري، فعاد متسللًا من القطرون عبر الأردن، عادت العائلة، وبما أنّ البيت كان ملك تابع لكنيسة الروم الأرثوذكس، لم يستطع اليهود سلبه، لأنّ الحواصل ملتصقة بالكنيسة، عدنا إلى كل شيءٍ مكانه، ولا زلنا هُنا.

حكاية جدي وأبي

قاموا بأخذ أبي إلى الأسر مع شباب جيلهم، حيثُ نقلوهم إلى معسكر الأسر في منطقة سيدنا علي (هرتسليا – هكذا تغيّر اسمها)، كانوا يأخذون الشباب من جيل 16 عامًا فما فوق، حتى ثلاثين عامًا، كان لي عم، كبير بالعمر، أخبرني أبي أنه دهن شعره وصبغ شاربه، كان في العشرينات من عمره، ليبدو عجوزًا، فلم يميِّزه، وتركوه في حاله.

نتحدث عن تجربة قاسية للأهل، فقد أغلقوا الرملة، والمنطقة التي تسمى 'غيتو' وهي تسمية بناءً على حياتهم في بولندا، وأغلقوها تمامًا عبر السياج، إضافة إلى منع التجول والمضايقات والقتل وغيره.

جدِّي صُدِم بالواقع الذي مرّ عليه، فأصيب بصدمةٍ نفسية جعلته يُصاب بالشلل جزئيًا، عندما سَمِع أنّه في العام 1967 تمّ احتلال الضفة الغربية  والقدس والجولان. وبعد وفاة الزعيم عبد الناصر لم يحتمل الحياة، فتُوفيْ، كان مُحِبًا جدًا للراحل عبد الناصر. أنا كنتُ أرافق والدي، وتوفي والدي وأنا في عمر الثلاثين، كنتُ أساعده في المحل، ولدت في العام 1967، وفهمتُ من والدتي أنّ كثيرين تركوا الرملة جراء الصدمة العنيفة التي حلّت بالبلدة، حيثُ وصل عدد كبير من أهالي البلدة إلى الملاجئ خوفًا مما يحدث، وحدثتني والدتي أنني كنتُ لاجئة في كنيسة دير اللاتين، كما كثيرين ممن خافوا فاختبأوا، أخبرتني والدتي أنّ خالتي قامت بإطعامي كأس حليبٍ، في الأيام الأولى من ولادتي، قالت: 'يموت الولد ولا يسلِّم كل الموجودين'. وكُتب لي عمرٌ جديد في اليوم التالي.

كيف تقرأ الواقع هُنا في الرملة؟

الحياة صعبة دائمًا، والوضع التجاري متردٍ جدًا والأخلاقي، أيضًا، عملتُ في المحل التجاري لأنه ملكنا وكان عليّ المحافظة عليه، كي لا أخسره، رغم أني درستُ الصحافة في القدس لعامين، وعملتُ فترة في الصحافة المكتوبة، لكن الواقع أجبرني على البقاء هنا، في هذا المكان العزيز على قلبي.

عن وضع العائلات في الرملة شاهين: 'وضعها تعيس للأسف، بُنيت طبقة وسطى، وغالبية أعمالنا ارتبطت مع اليهود بشكلٍ غير مباشر، صحيح أننا منطقة عربيّة هنا، لكن غالبية الزبائن من اليهود، خصوصًا أيام الجمعة والسبت'.

اليهود يخشوْن العرب في البلدات المختلطة، عام 1976، كان لدينا مطعمٌ، كان العراقيون حُفاة، أردوا الاستيلاء على المحال العربيّة، جهّزت العائلة نفسها لاستقبال هؤلاء، وجرت معركة حامية الوطيس في الرملة بين عائلة شاهين واليهود العراقيين، ولم يستطيعوا سلب المحل أي شيء، فقد وقف الخوري إلى جانب العائلة وحمانا.

سألته: لديك أشقاء، صمتَ.. خمسُ دقائق أو أكثر، اعتذر: كان لديّ شقيقيْن توفيا، اعتذرتُ منه، شقيقي الأصغر توفي في العام 1995، كان في السابعة والعشرين من عمره، وشقيقي الكبير توفي قبل ثلاثة أعوام، في جيل 48 عامًا، بقيتُ وحدي، والدي توفي عام 2002، وأنا في البيت مع والدتي، تزوجتُ قبل ستة أعوام ولديّ ولديْن، الأول اسميته على اسم الوالد والثاني على اسم حياة أخي الكبير. والحياة ستستمر، رغم أنّ الإحساس ببعضنا البعض بدأ يقلّ وقد يتلاشى تمامًا، إذا بقينا نبعث رسائلنا عبر الـرسائل النصيّة فقط!

وحين سألته عمّا إذا يرغب بأن يعمل أبناؤه في المحل، رفض وقال 'لن أرضى بذلك، إذ يهمني جدًا أن يتعلم أبنائي البالغون من العمر عاميْن وثلاث أعوام'.

التعليقات