الناصرة: حيز ضيق من القماش يحارب الغبار

حيّزٌ ضيّق لا يتعدى بضعة أمتارٍ قليلة، لكنّه أثث الكثيرَ من الذكريات مع أهلِ البلدةِ القديمة في النّاصرة، لا تزال أخشابهُ تردُّ التحيةَ على من يقرعها دليلا على جودتها التي قاومت التلف بسبب العقود المتعاقبة عليها، وبجوارها يجلسُ رجلٌ سبعينيّ يُدعى فتحي نعرة "أبو نزيه"،

الناصرة: حيز ضيق من القماش يحارب الغبار

مجموعة صور خاصة التقطت بعدسة "عرب 48"

هو حيّزٌ ضيّق لا يتعدى بضعة أمتارٍ قليلة، لكنّه أثث الكثيرَ من الذكريات مع أهلِ البلدةِ القديمة في النّاصرة، لا تزال أخشابهُ تردُّ التحيةَ على من يقرعها دليلا على جودتها التي قاومت التلف بسبب العقود المتعاقبة عليها، وبجوارها يجلسُ رجلٌ سبعينيّ يُدعى فتحي نعرة 'أبو نزيه'، وهو صاحبُ متجرٍ متواضع لبيعِ الأقمشة... أقمشة تحارب ثقافة الغبار.

المتجرُ الصغيرِ لبيعِ الأقمشة، جرى افتتاحهُ في زمن ثورة فلسطين بالعام 1936 على يد والد نعرة، الذي انتقل من قرية طبعون إبان الثورة إلى النّاصرة، وبعد وفاة الوالد استلم نعرة الابن العمل بالعام 1984، رغم أنّه كان يعمل منذ صغرهِ بمساعدةِ والدهِ، وبقي هذا المكان مشرع الأبواب حتى يومنا هذا رغم قلة العمل.

 

الأقمشة كتجارة

عن مهنةِ بيع الأقمشة، قال فتحي نعرة، لـ'عرب 48'، إنّ 'الحالَ كانَ أفضل في هذه المهنة، فقد كنتُ أعملُ في مهنةٍ أخرى، لكنني تركتها بسبب أنّ ما أجنيه في بيع الأقمشة بأسبوع واحد أفضل بكثير من شهرِ كِدٍّ بعملي القديم، فتركت عملي وجئتُ أعملُ بتجارة الأقمشة، وكان العملُ بوتيرة ممتازة حتى لُقّب أبي بِالقصّاص لكثرةِ ما كان يقُصّ قطع القماش فتتعب يداه من المقصّ'.

وأوضح أنه مع التطور التكنولوجيّ الذي طالت آلاته كلّ شئ، حتى الملابس، 'أصبحَ اليوم كل شئ جاهزًا، بعد أن كانت الصناعة تعتمد على التفصيل، تفصيل الألبسة، الأثاث، وكل شيء، فكنّا في الماضي نبيعُ القماش للعرائس التي تأتي إلينا لشراء مستلزماتها، ومعها تشتري العائلة والصديقات، فنبيع 20 قطعة قماش كل نصف ساعة بالمعدل، لكنّني اليوم أجلس 3 أيام متتالية دون أن أرى قطعة نقود واحدة، أنا هنا لأتسلّى وأقرأ الصحف وأرى أهل سوق النّاصرة'.

يستحضرُ نعرة مشهدًا من ذاكرتهِ يصوّرُ فيهِ الأقدام المتراصّة عاموديًا وأفقيًا في إشارةً إلى الاصطفاف والتزاحم على شراء القماش من متجرهِ، منهم الفلاحون والبدو وأهل المدينة، وخاصةً أيام الإثنين الذي كان كريمًا مع تجّار السوق، لأنّه ملتقى الفلاحين والمزارعين الآتين لبيع وشراء المواشي في مدينة النّاصرة، وليس كما هو المتعارف حديثًا بأنّه يوم السبت، الأكثر سخاءً على تجار البلدة القديمة.

الأقمشة كثقافة

بيع القماش لتفصيلِهِ فيما بعد لدى الخياطين، ليس فقط الملابس، بل الشراشف والملاحف وأغطية السرير والستائر، لكن بعد مرور نحو 70 عامًا اختلف الوضعُ كثيرًا، ورأى نعرة أنّ 'أنواع القماش متعددة وفقًا للمناسبات والفصول، فقماش القطنيّة والحرير والسيتان (الأطلس) في الصيف والفانيلا في الشتاء، وهناك أنواع أخرى كالحرير المُعرّق والخام، أمّا الباتيستا فكانت العجائز تصنع منه ملابس داخليّة، وجوخ صوف للرجال'.

وبهذا لم يقتصر بيع القماش، كما أفاد نعرة، على الرجال والنساء والأطفال بل كانت الخيّاطات والتجار يشترون القماش بالجملة، 100 متر في الصفقة الواحدة، أما اليوم فاختلف الوضعُ كثيرًا، وبهذا كنّا نبيعُ القماش للخياطين الذين يفصلون الملابس التقليديّة كالسالطا والشروال والقمباز وثوب نساء البدو الأسود التقليديّ مع غطاء الرأس، والفساتين والمناديل والكوفيات لأهالي النّاصرة، أما اليوم يبيعُ نعرة القماش أحيانًا لتفصيل الفساتين والتنانير أو لصنع الوسائد والملاحف للفراش، وهو إقبالٌ ضعيف جدًا من قِبل أهالي الناصرة والمنطقة.

يجلسُ نعرة في محلّهِ المحافظ على نفسهِ منذ عهدٍ قديم، خلفهُ سُلّم خشبيّ يتجاوز عمرهُ 50 عامًا وأثاثٌ من الطاولات والرفوف تخمّرت مع الزمن وما زالت صالحةً للاستعمال رغم كبر سنها، ومن الأدوات القديمة التي استعملها نعرة هي 'الدراع' التي طولها نحو 90 سم، واستبدلت مع الزمن بالمتر، والذي هو واحد من أداتين أساسيتين يستعملهما نعرة في عمله اليوم، المتر والمقصّ، لا غيرهما.

وأنهى نعرة حديثهُ لـ'عرب 48' حاملاً المقصّ، الذي يتجاوز عمره 30 عامًا، وفي عينيهِ توقٌ لأصدقاءٍ يرتادون متجره للحديث معه في القضايا المختلفة، عسى أن يظلّ هذا المكان منكشفَ الأبوابِ على مرتاديه من مختلف المقاصد والغايات.

التعليقات