السوق السوداء... تجار صرف الشيكات دمروا مئات العائلات

وقال الباحث والمحاضر في الشؤون الاقتصادية، د. سامي ميعاري، حول الظاهرة الخطيرة، لـ"عرب 48"، إن "ما يجري هو قيام تجار بصرف الشيكات المؤجلة مقابل فائدة مصرفية ربوية مرتفعة، هذه الظاهرة لها مساوئ ومخاطر هائلة...".

السوق السوداء... تجار صرف الشيكات دمروا مئات العائلات

(رويترز)

في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تشهد البلدات العربية نشاطا غير مسبوق في استغلال 'الصرافين الميدانيين' للمعوزين والفقراء، يعرضون 'خدماتهم' المصرفية والتي هي استثمارية بصورة فاحشة من خلال منح القروض أو صرف الشيكات بنسبة فائدة تتراوح بين 14% و20% للشهر الواحد ما يؤدي إلى تراكم مبالغ كبيرة يعجز الزبون عن تسديدها وبالتالي توريط العديد من الشباب والأسر بديون طائلة ترافقها مشاكل وتهديدات وعنف يستخدم فيها بكثير من الأحيان حملة السلاح أو مجموعات الإجرام بهدف جباية هذه 'الديون' بالقوة.

ضحايا: تورطنا ودمرونا

عبد الرحمن هو رب أسرة، تجاوز الأربعين من العمر، كان يتردد باستمرار على مقهى يجمع رواده من كافة الشرائح والبلدات المجاورة في منطقة شفاعمرو، يبدو متوترا وغير مستقر وأحيانا خائفا، تارة يحدثك ولا يتمالك نفسه، يداهم المقهى شبان غير معروفين يستدعونه للخروج من المكان ليعود بحالة أكثر سوءا، أكد أنه تعرض لتهديد أخير وعليه أن يتدبر أمره في تسديد ديونه.

وقال عبد الرحمن لـ'عرب 48': 'حقيقة لا أعرف إن كنت أنا ضحية أم لا لأنني اخترت الحصول على هذه النقود ولم يفرض أحد علي ذلك، ومثلي المئات ممن تورطوا بديون طائلة من العاملين في السوق السوداء'.

وأضاف أنه 'بداية وبسبب ضغط الوضع الاقتصادي والمعيشي والحاجة الماسة لا تفكر كثيرا بشكل سليم كيف بمقدورك تسديد هذا الدين، على سبيل المثال عندما تتوجه لمن يمنحوك هذه الحلول المؤقتة مثلا مقابل صرف شيك مؤجل لمدة شهر بمبلغ عشرة آلاف شيكل تدفع عمولة على هذا المبلغ قدرها 1000-1500 شيقل، هذا يعني أن أمثالي من ذوي الدخل المحدود إذا لم يستطيعوا تسديد العمولة الأولى ستبدأ الفوائد بالتراكم المتسارع وعندها لم يعد بمقدورنا تسديد مبالغ كبيرة بحيث سنخضع للابتزاز والتهديد والملاحقة'.

وأنهى أنه 'بعد أن قمت بتلقي مساعدة الأهل والأصدقاء وتسديد أكثر من 100 ألف شيقل وخرجت من هذا الجحيم، أنصح بعدم التعاطي مع هذا النوع من القروض مهما بلغت الحاجة لأنها تتسبب بأضرار بالغة لأسرنا وأهلنا'.

شاب آخر يدعى جابر تخرج من الثانوية بامتياز قبل ثلاث سنوات، فإنه يعمل بالبناء نهارا وفي مقهى ليلا، أمله استكمال دراسته الجامعية غير أن الظروف تحول دون ذلك.

وقال جابر لـ'عرب 48'، إن 'حلمي كحلم كل شاب، أنا من عائلة مستورة، نعمل ونكد أنا وأخوتي، كان طموحي بعد التخرج من الثانوية مواصلة التعليم بالجامعة، أحب التمريض إلا أن سوء الأوضاع المادية حال دون تحقيق ذلك، ولا زلت على أمل دراسة التمريض'.

وأوضح أن 'السبب أنني بدأت أعمل منذ ثلاث سنوات لأوفر المال لتعليمي الجامعي، لكن اكتشفت أن والدي متورط بمبالغ كبيرة مقابل قروض اقترضها من السوق السوداء، وهذا لا يعني فقط أنه يؤثر على مستوى الأسرة المعيشي بل الخطر أن يتلقى والدك تهديدات لعدم قدرته على تسديد القروض. همنا مساعدة الوالد للتخلص من هذا الكابوس الذي عانته عائلتنا، وأعتقد أن مئات العائلات تعاني من هذا العذاب الطويل'.

وأنهى أنه 'رغم خسارتي ثلاث سنوات سأعمل هذه السنة لأوفر المال لتعليمي الجامعي في السنة القادمة، ولا أتمنى لأحد أن يعيش ما مررنا به من معاناة'.

أما المربي نور الدين فقد قدر ما خسره في السوق السوداء ما يقارب مليون ونصف المليون شيقل، وقال لـ'عرب 48'، إن 'طريقي للجحيم بدأت بعد أن توجهت قبل سنوات لاقتراض بضع آلاف من الشواقل، لم أكن أدري أن هذا المبلغ سيتدحرج ككرة الثلج ليتجاوز مع مرور السنوات مليون ونصف المليون شيقل، ورغم مساعدات قدمها الأصدقاء والعائلة لم أتمكن من وقف هذا التدهور الذي انعكس على العائلة بشكل مذهل'.

وأضاف أنه 'لم تكن أمامي  خيارات كثيرة لأنني عندما كنت أريد تسديد مبلغا للسوق السوداء كنت أبحث عن مُقرضين آخرين في نفس السوق لأودع المال من أجل صرف الشيكات المؤجلة وتبقى هذه الحلقة تضيق بك وتتراكم الفوائد والعمولات الكبيرة دون توقف، ويصل الوضع حد الاختناق لك ولمن حولك'.

وأكد أن 'الأمر وصل بي أخيرا إلى طريق مسدود بسبب انعدام الخيارات، وقمت ببيع قسيمة أرض صغيرة كنت أملكها وأنوي بناء منزل لأسرتي عليها وقمت بتسديد الدين، لكن بقيت ديون اخرى ما اضطرني مرة أخرى لبيع آخر ما تبقى أيضا من أرض زراعية. ما حدث معي كان الجحيم بعينه لمدة زادت عن 8 سنوات وانعكس على مهنتي. كانت الخسارة فادحة، لكن أحمد الله أننا واصلنا الحياة، وأرجو أن يحذر الآخرون في كيفية حل المشاكل المادية دون أن يسلكوا طريق الهلاك'.

ميعاري: الحذر من تسليم الرقاب للاستغلاليين

وقال الباحث والمحاضر في الشؤون الاقتصادية، د. سامي ميعاري، حول الظاهرة الخطيرة، لـ'عرب 48'، إن 'البلاد تشهد ظواهر مقلقة وفي مقدمتها ظاهرة السوق السوداء التي تتمثل أولا في تبييض الأموال، هذه العملية تجري من خلال افتتاح محلات تجارية وهمية لتبييض أموال مصادرها مشبوهة مثل الرشاوى والاتجار بالمخدرات والكثير من الطرق ووسائل جمع المال غير الشرعية'.

وأضاف أن 'ما يجري هو قيام تجار بصرف الشيكات المؤجلة مقابل فائدة مصرفية ربوية مرتفعة، وهذه الظاهرة لها مساوئ ومخاطر هائلة لا تقف عند المستوى السياسي بل تتعداه إلى المستوى الاجتماعي، حيث يلجأ رجال الأعمال والتجار الذين يمرون بأزمة سيولة نقدية ونتيجة لرفض البنوك منحهم تسهيلات معينة إلى' شهبندر التجار' من أجل صرف شيكات لم يحل موعدها بعد وتسييلها مقابل فائدة عالية وهذه الفائدة تتضاعف في حال عدم تسديد الشيكات بمواعيدها الأولى'.

وشدد د. ميعاري على أنه 'كلما ارتفعت نسبة الفائدة ارتفعت نسبة العنف، لأن غالبية' شهبندر التجار' ينتمون لعصابات العنف فيقومون بحرق المحال والمصالح والمؤسسات التجارية الخاصة بأولئك العاجزين عن تسديد ما استلفوه، أو يلجأون إلى إجراءات قانونية، والنتيجة هي خسارة كبيرة للاقتصاد في المجتمع العربي من خلال إغلاق المحال وإفلاس المؤسسات الناشئة الوليدة'.

وأوضح أن 'التجارب أكدت أن الذين يسلكون مسلك صرف الشيكات المؤجلة لتحصيل السيولة النقدية يغرقون فيه ولا يتمكنون من التراجع عنه، إذ تزداد نسبة العجز وتقل قدرتهم على التوازن فيما يزدادون ديونا ويصبحون أكثر طواعية لدى التجار المستغلين لحاجتهم'.

وأنهى أنه 'في الجانب الاقتصادي يجب ألا يغيب عن بالنا خطر كبر حجم' شهبندر التجار' لأنهم إذا كبروا فإن ثروة المجتمع العربي ستصبح حكرا على هذه الفئة، أما على الصعيد الاجتماعي فهناك عائلات كبيرة تمر بأزمات اقتصادية تدفعهم للاستعانة بأمثال هؤلاء من التجار. وقد شهدنا في حالات كثيرة تفككا لهذا النسيج العائلي، ولذلك الحذر الحذر من اللجوء لأمثال هؤلاء التجار أو الاستعانة بهم في أي ظرف وحال، ويجب الاعتماد على المؤسسات الرسمية واقتصار التعامل المصرفي على البنوك أو الاقتراض الشخصي وعدم تسليم الرقاب لهؤلاء الاستغلاليين'.

التعليقات