خليل مطر... المهجر العائد إلى الوطن

سرد ابنُ عيلبون، خليل مطر، من مواليد العام 1925، لموقع "عرب 48" تجربته القاسية وما تعرضت له قريته من الاعتداءات والإساءات، ولاحقًا بالتهجير إلى لبنان، ومن ثمّ العودة المُذلة، للمهجّرين من أرضهم.

خليل مطر... المهجر العائد إلى الوطن

سرد ابنُ عيلبون، خليل مطر، من مواليد العام 1925، لموقع 'عرب 48' تجربته القاسية وما تعرضت له قريته من الاعتداءات والإساءات، ولاحقًا بالتهجير إلى لبنان، ومن ثمّ العودة المُذلة، للمهجّرين من أرضهم.

ومثل خليل مطر فإن الكثيرين من أهالي عيلبون لم يتسنّ لهم التعلُّم في المدارس، لكنه قرأ التاريخ وسجّل في ذاكرته تفاصيل مؤلمة، فيها القليل من الأمل عن عيلبون التي أحبها في الماضي والحاضر، لكنّ وجعًا وغصة في القلب لا تفارقه، وبسبب ما سطرّ التاريخ من مآسٍ أمام ناظريهْ تعمق كرهه للاحتلال، وأكثر من ذلك فإنّ يكره جيشًا سمى نفسه 'الإنقاذ'، بسبب تقاعسه في إنقاذ أبناء الشعب الفلسطيني، وقال لـ'عرب 48': 'صحيح أنّ جيش الإنقاذ جاءَ لينقذ الفلسطينيين، لكنّ الواقع كان مختلفا تماما. ولا بدّ لنا أن نذكُر أنّ بعض جنود جيش الإنقاذ كانوا فعلاً أهلُ نخوّة وحميَّة، لكنّهم قلّة للأسف'.

وأضاف أن 'أهالي عيلبون اعتاشوا على الفلاحة، وكان عددهم لا يتجاوز الـ350 نسمة، كانوا يقتنون الحلال ويعتاشون على الحليب واللبن من إنتاج محلي، وعندما وقعت الكارثة، هربنا من عيلبون بـ200 رأس غنم، وعدنا إلى البلاد، دون الحلال في لبنان، ونحنُ في الأصل من لبنان، فجدّي من بلدة اسمها عنيبيل، على الحدود. وحين هجرنا في العام 1948، قالوا: 'هذا بيت جدكم، مدمّر'، وكنّا نزور لبنان قبل النكبة، فزوجة عمي وزوجة أخي من لبنان تزوجتا في عيلبون، قبل النكبة بسنوات، كنّا طوال الوقت بين هنا وهناك، وحين حلّت النكبة، وصل أهالي عيلبون إلى المية ومية، أما أقاربنا فلم يقبلوا، بل أصروا على الانتقال إلى ديارهم، مكثنا ثلاثة أشهر نأكُل وننام لدى أقاربنا من عائلة مطر. وعندما حانت العودة، رجعنا، وسُمح لأهالي لبنان في تلك الفترة دخول البلاد'.

لماذا أخذتم الحلال معكم إلى لبنان؟

اعتبرنا الخروج من عيلبون ليس فيه رجعة، ومن خلال 'الطرش' قلنا سنعيش حتى نتدبر أمرنا، في لبنان، لكن للأسف لم تستطع الحلال أن تحتمل برد لبنان، فعُدنا بدونهم. وقد فتحت إسرائيل الطريق أمام الناس كي يصلوا إلى لبنان، إذ لم يرغبوا أن يجدوا عربيًا في البلاد.

جيش الإنقاذ

وأشار مطر إلى تصرفات جيش الإنقاذ، 'للأسف كان بمثابة جيش احتلال، تصرفوا معنا وكأننا بلدة يهودية محتلة، وفي كل يوم يريدون شخصًا يزودهم بالأكل والمشرب، حيثُ يبيتون فوق تلّة مرتفعة، وفي النهاية ظهرت المؤامرة، حين قُطعت سبعة رؤوس لليهود، قرب بلدة ربيد، ونثروهم في بلدة عيلبون، وهنا اشتدّ غضب الجيوش، وقد وقعت معركة بعدها، قُتل خلالها شخصان من عيلبون'.

واستذكر أن 'الخوري قال في حينه لمسؤول جيش الإنقاذ، وصفي التل، 'نخبز لكم ونطعمكم ونسقيكم الشاي، لكن الاعتداء علينا أمرٌ مرفوض'. ومن هذا الكلام عرفنا أنّ هناك مخططًا كبيرًا ضد عيلبون. وقال التل في حينه 'غدًا سيصل جيش سوري نظامي إلى هُنا. وفي الليلة ذاتها هربنا إلى لبنان وأنا بينهم، ومن لم يهرب اختبأ في إحدى الكنيستين، وعندما هرب جيش الإنقاذ وبقي اللاجئون في الكنيسة دخلت إسرائيل، بعد أن وجّهت بنادقها تجاه البلدة، وحين دخلوا لم يكن هناك مقاومة، وقد رفع أهالي البلدة العلم الأبيض وفهمنا أن الضابط الإسرائيلي كان يضع برقعًا على وجهه كي لا يعرفه أحد'.

'أين الشعب'؟!

واستطرد مطر أن 'الضابط وجه سؤاله يومها للخوري قائلاً: 'أين الشعب؟'، فردّ الخوري: 'في الكنيسة'، وإذ بهم يجمعون المختبئين في الكنيسة من الطائفتين في الساحة، وكان الخوري كلما قدّم كرسيًا باتجاه الضابط يلقيه الضابط بعيدًا عنه، كان الضابط مكفهرًا، وقيل في حينه إنه من طبريا، المدينة التي يكره فيها اليهود العرب. وقد فُصِل بين الأشخاص إلى مجموعتيْن، وصرخ الضابط في وجه الجميع 'هيا إلى عبد الله'. وكان الجيش العراقي قد وصل، لكن فور وصوله، تلقّى أوامر بالانسحاب. بينما صرّح الخوري أمام البعض بجملة 'تسقط إسرائيل'، فجاءَ الضابط الطبراوي وكان يرفس الكرسي من شدّة غضبه على الخوري. وأعلن عن استشهاد 17 شهيدًا من عيلبون، لم يُسمح بنقلهم إلى المقبرة، مكثت الجثث فوق بعضها البعض نحو أسبوع في الشوارع، حين التقى الخوري بشخصية فرنسية سأله: كيف تسمح لهؤلاء بالاعتداء علينا وقتلنا؟ ومرّ أسبوعان حتى جاءت الأوامر بعودة أهالي عيلبون إلى الديار، يبدو أنها أوامر فرنسيّة'.

وتابع: 'لقد فتشونا وسرقوا أموالنا، وكل ما ملكت أيدينا، وأنا كنتُ أحمل طفلتين على كتفيْ، والنساء يسرن وراءنا، قلّنا سنجمع بعضنا البعض على طريق واحدة. سمعنا صوت إطلاق النار، وبقينا نسير خوفًا على مَن معنا، سألنا مُطلق النار، لماذا لا تتوقف؟، وإذ به يطلق طلقة في الهواء، شعرة فصلت بيني وبين الرصاصة، وجميع الجنود حولي، قال بالعربيّة: 'إرفع يديك'، كنت أحمل طفلتي أخي، وكنّا في ليلة عيد الميلاد، ليلة اشتد فيها البرد القارس ونهش في اللحم والعظم، كنت ألبس قمبازا وحطّة وعقال، ولم نكن نعرف العبرية، قلنا لهم 'اتركونا هنا ونعود صباحًا إلى لبنان'، وفي الصباح أكملنا مسيرتنا ووصلنا إلى عيلبون، حيثُ جاءت أوامر من الخارج بإعادتنا، بفضل الخوري الذي أبرق رسالة لضابط فرنسي. وأثناء عودتنا سألني ضابط يتحدث العربية، كم عدد أهالي عيلبون؟ قلتُ: ما يقارب الـ700، 'وقيل أنّ 1500 لاجئ دخلوا على أنهم من عيلبون'. وجدنا العودة أفضل إلى عيلبون، أفضل من الغربة والتهجير. وفي نظرة إلى الواقع الحالي الذي نعيشه من عمليات قتل واعتداءات وحشية في الدول العربية'.

التعليقات