مسجد بئر السبع الكبير ومبنى السرايا...

في عام 1948 استعمل الجيش الإسرائيلي المسجد كمعتقل، ثم صار مركزًا للشرطة ومقرًا لمحكمة الصلح في المدينة التي هُجّر أهلها. في عام 1953 استعمل المسجد كمتحف، في سنة 1987 أعلن عنه كمتحف للآثار بصورة رسمية. في عام 1992 أخلي لتصدعه

مسجد بئر السبع الكبير ومبنى السرايا...

بيت المؤرخ عارف العارف

اعتاد العرب في الجاهلية المرور في بئر السبع في طريقهم إلى غزة ضمن رحلة الصيف من إيلافهم. في العهد الأموي كانت بئر السبع معروفة للعرب. قيل إن سليمان بن عبد الملك كان يقيم بها حينما جاءته الخلافة، وذكر أن والي فلسطين، سعيد بن عبد الملك، كان نازلا بمدينة بئر السبع عندما بلغته أخبار مقتل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد سنة 126ﮬ/744م.

تراجعت مكانة المدينة في فترة الحروب الصليبية بسبب تحول طرق التجارة عنها، والقحط الذي عمّ قضاءها.

أعاد العثمانيون بناء مدينة بئر السبع في عام 1319ﮬ/ 1900م على بعد ثلاثة أميال للغرب الجنوبي من موقعها القديم. وهدفوا من وراء ذلك أن يثبتوا وجودهم بالقرب من الحدود المصرية، التي كانت المفاوضات دائرة بشأنها آنذاك، هذا إلى جانب رغبتهم في حفظ الأمن بين القبائل المتنازعة. كذلك أراد الأتراك أن تكون مدينة بئر السبع عاملاً مهمًا في توطين البدو وجمع الضرائب التي كانت تذهب هدرًا قبل ذلك. فأنشأوا المدينة وجعلوها مركز قضاء وأتبعوا قائمقامها لمتصرفية القدس.

من أبرز حكام قضاء بير السبع العثمانيين القائمقام آصف بك الدمشقي، الذي عُيّن في منصبه في سنة 1904م حيث شهدت المدينة في عهده حركة عمرانية واسعة منها تركيب ماكنة لسحب الماء من بئر النشل، وحوض تجري المياه إليه لتوزع من على أطراف المدينة، ومطحنة، وجامع كبير هو في غاية الإتقان من الوجهة الهندسية، ومدرسة ذات طابقين، ودار للبلدية.

المسجد الكبير:

فوق مدخل المسجد الكبير في مدينة بئر السبع توجد طغراء عثمانية، وتحتها كلمات عفا عليها الزمن، ولم يبق منها سوى التاريخ وهو سنة 1324ﮬ الموافق سنة 1906 ميلادية. أما الطغراء فهي للسلطان عبد الحميد الثاني وهذا نصها: "الغازي عبد الحميد خان بن عبد المجيد المظفر دائمًا"، وهذا دليل ثابت على أن المسجد بني في العهد العثماني.

كان المبادر لبناء المسجد القائمقام آصف بك الدمشقي. يروى أنه أوكل البناء لمقاول عربي من وجهاء المدينة، فلما ارتفع البناء لم يعجبه لتصدعه فأمر بهدمه، وجلب من القدس مهندسًا ليشرف على البناء الجديد. وضع آصف بك بنفسه حجر الأساس، واستمر في مراقبة العمل.

يقول عارف العارف إن حجارة المسجد جلبوها على ظهور الجمال من خربة الخلصة، وعلى قول إنه لم يأت منها إلا بحجارة المئذنة. فجاء المسجد في غاية الإتقان من الوجهة الهندسية. (تاريخ بير السبع وقبائلها، ص 33، 248) وهو تحفة أثرية رائعة.

شارك السكان ورجال القبائل في تكاليف البناء ب 400 ليرة، وبلغ مجمل النفقة على المسجد أكثر من ألف ليرة عثمانية. بناء المسجد أكسب آصف بك الدمشقي احترام البدو والمسؤولين عنه في القدس، ومن ثم رضا السلطان بصفته مثالاً للتمسك بالدين وفخرًا للإسلام.

المسجد الكبير في بئر السبع

في عام 1948 استعمل الجيش الإسرائيلي المسجد كمعتقل، ثم صار مركزًا للشرطة ومقرًا لمحكمة الصلح في المدينة التي هُجّر أهلها. في عام 1953 استعمل المسجد كمتحف، في سنة 1987 أعلن عنه كمتحف للآثار بصورة رسمية. في عام 1992 أخلي المسجد لتصدعه. في عام 2002 تقدمت لجنة الدفاع عن حقوق البدو واللجنة الإسلامية في النقب بالتماس إلى المحكمة العليا في القدس ضد بلدية بئر السبع وسلطة التطوير ووزير الأديان ووزير العلوم والثقافة مطالبين بإعادة المسجد إلى حوزة المسلمين. في تلك الفترة قام أعضاء الكنيست العرب والحركة الإسلامية بالضغط لإعادة المسجد إلى المسلمين. ورغم ذلك قامت بلدية بئر السبع بترميم المسجد غير منتظرة لقرار المحكمة.

في 22 حزيران 2011 أصدرت المحكمة العليا قرارًا برفض الالتماس، وجعل المسجد متحفًا للحضارة الإسلامية وشعوب الشرق. يقول مراسل صحيفة "هآرتس" بتاريخ 21 كانون الأول/ديسمبر سنة 2014: "في عام 2012 تم افتتاح المتحف، ولكن ما عرض فيه لم تكن له أية صلة بالحضارة الإسلامية، وإنما حوى المعروض على تاريخ بئر السبع من زاوية صهيونية، في أيلول/سبتمبر 2012 قامت البلدية بافتتاح معرض سنوي للخمور في ساحة المسجد. وبعد معارضة أعضاء الكنيست العرب وزعمائهم تم الوصول إلى صيغة وهي قيام المعرض بدون خمور."!. في عام 2014 تم عرض أنواع من السجاجيد الشرقية.

مبنى السرايا:

مقابل المسجد الكبير يقوم مبنى السرايا الحكومية. بين العامين 1900-1901 أقام القائمقام محمد جار الله مبنى السرايا على تل مشرف على المنطقة.

كان المبنى مكونًا من طابقين. الطابق السفلي كان ليوانًا للقائمقام ومكاتب حكومية، والعلوي كان مسكنا لعائلة هذا الحاكم. سكنه آصف بك في العهد العثماني. في العهد البريطاني انتقل إليه المؤرخ عارف العارف، قائمقام بير السبع بين السنوات 1929-1938. أضاف الإنكليز بجوار المبنى جناحا كانت فيه محكمة الصلح ودائرة الطابو ومحكمة عشائرية. كبر المكان وصار يعرف بالسرايا.

مبنى السرايا

في ثورة عام 1938م أحرق المبنى، وانتقل عارف العارف إلى بيته الذي ما يزال قائمًا في بير السبع. رمم الإنكليز المبنى وصبوا سقفه بالباطون، وأضافوا بجواره مبنى للشرطة من نوع تيجارت. بعد الترميم صار المبنى مدرسة للبنات، وبجانبه مركز للشرطة.

في عام 1948 احتل الجيش الإسرائيلي مدينة بئر السبع، وحوّل السرايا إلى مقر للجيش والشرطة، ثم نقلت إلى المبنى بلدية المدينة حتى السبعينيات من القرن الماضي. ثم تحول المكان إلى متحف للآثار. في منتصف التسعينيات صار المكان متحفًا للفنون. أغلق المكان خشية تفكك جدرانه، فقامت البلدية بترميم المبنى وفتحت المتحف من جديد في عام 2004.

بيت عارف العارف:

تأسس هذا البيت في عام 1938 بحجارة قسم حمراء جلبت من بيت لحم، أو القدس. كان ولا يزال أجمل بيت في مدينة بئر السبع. بعد عام 1948 صار البيت دكانًا لشركة "شيكم"، ثم مقرًا لشركة استثمار، ثم أعلن عنه أثرًا تاريخيًا، ووضعت أمامه لافتة تعريف بصاحب المنزل عارف العارف باللغتين العبرية والإنكليزية دون اللغة العربية.

بيت عارف العارف

ولد عارف العارف في القدس في عام 1892م . تعلم في جامعة اسطنبول. خدم ضابطًا في الجيش العثماني. في الحرب العالمية الأولى وقع في أسر الروس الذين نفوه إلى سيبيريا. بعد ثلاث سنوات تمكن من الهرب وعاد إلى فلسطين، فصار من زعمائها. في عام 1929 عينة الإنكليز قائمقام في بير السبع. بقي في هذه الوظيفة حتى سنة 1938، حيث نقل إلى غزة. وهو مؤرخ رائد. من مؤلفاته: تاريخ بئر السبع وقبائلها، القضاء بين البدو، المفصل في تاريخ القدس، تاريخ غزة، كتاب النكبة والفردوس المفقود.

توفي في 31 تموز سنة 1973، عن عمر يناهز 81 عامًا.

المسجد الكبير والسرايا وبيت المؤرخ عارف العارف شواهد شامخة تأبى النسيان.

 

التعليقات