70 عاما على النكبة: اغتيال الجنرال أندروز (4)

ما أن انحرف الأوروبيون الثلاثة يسارًا، حتى ظهر أمامهم حملة المسدسات المشهرة، ولم يمهلوهم حتى يستلّوا سلاحهم، رغم خلفيتهم العسكرية، وعاجلوهم بإطلاق وابل من الرصاص

70 عاما على النكبة: اغتيال الجنرال أندروز (4)

ثورة 36 (أرشيفية)

فرحة في الجليل - قصة اغتيال الجنرال أندروز

كان العرب الفلسطينيون يلفظون اسمه هكذا: أنْدروز، ولكن اسمه الحقيقي هو: الجنرال ليويس ييلاند أندريوس (Lewis Yelland Andrews). الجنرال "أندروز" هذا، كان من أشد المتحمسين لإنجاح المشروع الاستيطاني الصهيوني في بلادنا، وكانت له مساهمات كبيرة في ذلك، لدرجة أن الكثير، نعم الكثير، من المستعمرات اليهودية موجودة بفضل مجهوداته الجمّة، بل ويمتد "فضله" على الاستعمار الصهيوني إلى حماية التجمعات اليهودية، بصفته ضابطًا كبيرا في الجيش الإنجليزي المتواجد في بلادنا، ومن ثم صاحب مراكز مرموقة في حكومة الانتداب، كان آخرها، عندما أغتيل على يد جماعة القسام، في الناصرة في مساء يوم 26 من أيلول/سبتمبر 1937، حين تبوأ منصب حاكم لواء الجليل، والذي يضم مناطق الناصرة وعكا وطبرية وبيسان، إذ قامت حكومة الانتداب قبل مدة قصيرة من اغتياله، بفصل هذه المناطق عن لواء الشمال، وأبقت مناطق لواء الشمال الأخرى، نابلس وجنين وحيفا وطولكرم، تحت حكم ضابط إنجليزي آخر، لا يعتبر من المؤيدين المتحمسين جدا للمشروع الصهيوني في إقامة دولة اليهود.

دقّ هذا التقسيم الإداري ناقوس خطرٍ كبيرٍ قادمٍ، وهو خطر نية سلطة الإنتداب إقامة الكيان الصهيوني على قسم من أراضي فلسطين، وذلك تنفيذًا لتوصيات لجنة "پيل" المشؤومة، فهذا الجنرال، وقبل عدة أشهر فقط من اغتياله، كان شاهدًا أمام هذه اللجنة، ودافع بكل ما أوتي من قوة إقناع عن المشروع الصهيوني ومستعمراته التي أقيمت على حساب الفلاحين العرب الفلسطينيين.

انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى والإضراب العظيم

أعلنت قيادات الثورة في 17نيسان/أبريل 1936 عن إضراب عام في كل أنحاء فلسطين حتى تحقق حكومة الانتداب الانجليزي مطالب الشعب الفلسطيني العادلة في وقف الهجرة الصهيونية إلى البلاد، وتحقيق إرادة الشعب في إقامة دولته المستقلة. وفي الخامس والعشرين من الشهر نفسه اجتمعت الأحزاب الفلسطينية في القدس، وأعلنت تأييدها بل وتبنيها للإضراب العام، وتأسيس اللجنة العربية العليا لقيادة الإضراب برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني.

انطلق الإضراب من مدينة يافا، وسرعان ما انتشر سريعا في كافة القرى والمدن الفلسطينية، وفِي بداية أيار/مايو أعلن الكفاح المسلح، وفِي الخامس عشر منه أعلن العصيان المدني.

استمر الأضراب والعصيان المدني مدة ستة أشهر ولَم يتوقفا إلّا بعد وساطة زعامة الدول العربية، وتوجههم إلى اللجنة العربية العليا من أجل وقف الإضراب، مقابل أن تنفذ بريطانيا، والتي تكبدت حكومتها في فلسطين خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وعودها للدول العربية بإنصاف العرب في فلسطين إذا أوقفوا ثورتهم.

توقف الإضراب في الثالث عشر من تشرين أول/أكتوبر 176 يوما، دون أن يحقق أهدافه المعلنة، وبقيت جذوة الثورة مشتعلة على نارٍ هادئةٍ بانتظار تنفيذ بريطانيا لما وعدت به الزعماء العرب.

لجنة "پيل" واقتراح تقسيم فلسطين

من أجل تخفيف حدة الانتفاضة الفلسطينية المشتعلة، وإنهاء الإضراب المستمر، أعلن وزير المستعمرات البريطانية آنذاك، مالكوم مكدوناد عن تشكيل لجنة ملكية بريطانية، تكون مهمتها السفر إلى فلسطين، وعقد جلسات مكثفة مع أطراف النزاع: ممثلي الشعب الفلسطيني وممثلين باللجنة العربية العليا، وقادة المشروع الاستيطاني الصهيوني، وممثلين عن حكومة الانتداب وغيرهم، بهدف وضع تصور للحل في فلسطين، يعطي "كل ذي حقّ حقه"، او هكذا أُعلِن ولكن هيهات، إذ أن وعد بلفور كان ماثلًا أمام أعين أعضاء اللجنة.

كان عدد أعضاء اللجنة ستة أشخاص من الشخصيات البريطانية المرموقة، إذ ترأس اللجنة اللورد إيرل پيل، وسُمِّيت باسمه، وكان نائبه هو السير هوراس لمبارد، أما أهم أعضائها البارزين فهو الأستاذ رغنالد كويلاند من جامعة أكسفورد، وثلاثة آخرين.

وصلت اللجنة إلى فلسطين في 12/11/1936، وعقدت اجتماعاتها في فندق "پالاس" في القدس، والتي كان عددها 66 اجتماعا، منها أكثر من ثلاثين اجتماعا علنيا، جلهم مع ممثلي المشروع الصهيوني، حيث أن العرب كانوا قد قاطعوا اللجنة، ولكنهم وافقوا في النهاية على التعاون معها، وفِي 22/01/1937 مثل أعضاء اللجنة العربية العليا، برئاسة الحاج أمين الحسيني أمامها، أي لجنة پيل، وتلخصت مطالبهم بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع نقل الأراضي وبيعها لليهود، ومنح العرب استقلالهم وزوال الانتداب كما حصل في العراق.

في السابع من شهر تموز/يوليو في العام نفسه، أعلنت اللجنة توصياتها بإقامة دولة يهودية على 17% من أرض فلسطين، على أرض الجليل ومرج ابن عامر، وفِي الساحل حتى جنوب تل أبيب، أما الأماكن المقدسة وهي القدس والناصرة وبيت لحم فتبقى تحت سلطة الانتداب البريطاني، مع حصول القدس على منفذإالى البحر عن طريق يافا، وما تبقى من أرض فلسطين يضم إلى شرق الأردن.

حسب رأي اللجنة فإن هذا يعتبر أحسن الحلول لمنع استمرار الأحداث والاضطرابات في البلاد، إذ تمنع بهذا وقوع 400 ألف يهودي، الذين سهلت الحكومة البريطانية قدومهم إلى البلاد، تحت حكم العرب، وإذا أعطت البلاد لليهود فهذا سيجعل مليون عربي تحت سلطة اليهود، وبهذا يقع عليهم ظلم كبير!

وهكذا اعتقدت اللجنة، أو أرادت أن تُقنع الرأي العام، بأنها بذلك "تكفي المؤمنين (والكفار أيضًا) شر القتال"!

في نفس اليوم، أصدرت الحكومة البريطانية بيانًا يصف الحل المقترح عن طريق اللجنة بأنه الحل الأمثل للوضع المركب والمعقد في فلسطين، وأعلنت بذلك تأييدها لقرارات اللجنة، مما أثار غضب القيادات والجماهير العربية على بريطانيا، واعتبروه حلًا في مصلحة المشروع الصهيوني. أما الصهاينة فقد اختلفوا في رأيهم حول هذه القرارات في المؤتمر الصهيوني الذي انعقد بعد نشرها.

شهادة أندروز أمام لجنة پيل

مثل الجنرال أندروز أمام اللجنة، ليس قبل أن يخلع قنبازه وكوفيته وعقاله، الذين كان يلبسهم عادة، واستبدلهم ببزته العسكرية الرسمية، حيث كانت وظيفته في ذلك الحين ضابط التطوير في حكومة الانتداب.

ادعى الجنرال أندروز أمام اللجنة أن العرب لا يتعرضون البتة للطرد من أراضيهم، إنما هذه فرية يستعملونها من أجل شرعنة رفضهم للاستيطان الصهيوني في البلاد، حيث أن حكومته تقوم بإيجاد حلول تضمن حقوق الفلاحين العرب.

دعم الجنرال شهاداته بالأرقام الكاذبة حيث ادعى أن 664 فلاحا عربيا فقط اشتكوا لأنّ المستوطنات أقيمت على أراضيهم التي بيعت لليهود، وأن 346 منهم حصلوا على قطع أرض بديلة من حكومة الانتداب، أمّا الباقي فرفضوا مساعدة الحكومة لأنهم استطاعوا استصلاح أراض أخرى بديلة. وبذلك كانت شهادة في صالح الطرف الذي استفاد من وجود أندروز في بلادنا، أيما استفادة.

وعد بلفور في خدمة "الإرادة الإلهية"

كان أندروز صديقًا مقربًا من مسؤولي الوكالة الصهيونية أمثال يتسحاك بن تسڤي و يوسف ڤايس وموشي شاريت، كما وكان "ابن عائلة" عند سكان المستوطنات في شمال فلسطين. ذكره بن غوريون في مذكراته، وأشار إلى أنه طلب منه أن يساعد الوكالة الصهيونية للحصول على أراضٍ في منطقة النقب، وذلك لأنّه "واحد منّا" كما وصفه بن غوريون، إذ كان مؤمنًا بمشروع إقامة دولة اليهود على أرض فلسطين من منطلقات دينية، كما يؤكد عوڤِد بن عامي الصهيوني ومؤسس مدينتي "نتانيا" و"أشدود"، حيث كان شاهدًا على لحظة "صدق" من قبل أندروز، عندما كانا يتباحثان أمر "حلم" إقامة الكيان الصهيوني، وإذا بالجنرال أندروز يقف على رجليه منتفضًا قائلًا: "نحن المسيحيين نؤمن بأن المسيح سيأتي في آخر الأيام لإنقاذ البشرية من أخطائها، وهذا لن يحدث إلّا بعد إقامة دولة اليهود، وانا أشعر بالفخر لأني سأكون جزءًا من هذا، أنا محظوظ لأني أعيش هذه اللحظة".

كان مهتمًا بجعل "وعد بلفور" حقيقة واقعة، فهذا الوعد هو الضمانة التي ستحقق هدفه من أجل تسريع قدوم المسيح المنتظر! كان حريصًا على تنفيذ وعد البشر من أجل تحقيق "مشيئة الرب"!

الجنرال أندروز لم يكن إنجليزيًا، ولا حتى بريطانيًا، بل كان أستراليا، من مواليد سيدني عام 1896، خدم في الجيش الأسترالي في الحرب العالمية الأولى، ووصل إلى فلسطين مع وحدات جيش الامبراطورية البريطانية التي حاربت في الجبهة التركية. سُرِّح من الجيش عام 1920، واستقر في البلاد في وظيفة عسكرية بريطانية قبل تأسيس حكومة الانتداب، وفيما بعد تبوأ عدة مناصب إدارية فيها، فكان موظفًا في مديرية لواء الشمال، وقاضٍيا في المحكمة المركزية في حيفا 1921 – 1922، ومرتين كان حاكم لواء الشمال بشكل فعليّ، وذلك في سنوات 1929 حتى 1932، وأصبح فيما بعد ضابطًا لأمور التطوير في حكومة الانتداب، ومستشارًا للمندوب السامي، وخلال الأعوام 1933 و 1936 كان مسجلًا للجمعيات التعاونية، وعضوًا في لجنة تطوير الزراعة ومسؤولًا عن ضريبة الأرض.

مِنْ مال غيرك يا مْذَرِّي ذَرِّي

من خلال الوظائف الكثيرة التي تبوأها الجنرال أندروز، كان باستطاعته دعم "مشروعه الروحي"، فعمل على نقل عشرات آلاف الدونمات من أصحابها الأصليين إلى المهاجرين اليهود. قدم مساعدة كبيرة في إقامة ما يسمى بمستوطنات "جدار وبرج"، وهي مجموعة مستعمرات عملت الحركة الصهيونية على إنشائها للرد على الحراك الوطني الفلسطيني، من أجل رسم حدود الدولة العبرية المستقبلية، والسيطرة على المساحة الأكبر من الأراضي، وجسر الهوة بين المستوطنات القائمة من أجل توفير تواصل جغرافي بينها.

عندما كان يقع القرار على إقامة مستوطنة جديدة، كانوا يحضرون المواد اللازمة لبناء برج وحوله جدار يشكل حدود المستوطنة الجديدة (من هنا جاء الاسم)، وكل ذلك يتم خلال الليل بدون أن يشعر بهم أحد.

حتى مقتله في أيلول/سبتمبر 1937، ساعد الجنرال أندروز في إقامة 16 مستوطنة من هذا النوع، من أصل اثنين وخمسين أقيمت منذ نهاية 1936 حتى أواخر 1939.

وساهم أيضا في إقامة عشرات المستوطنات في منطقة سهل الحولة، ومنطقة بيسان ومنطقة الخضيرة. كما ساعد اليهود في الدفاع عن الخضيرة في سنوات العشرينيات من هجمات المجاهدين، وجفف المستنقعات حول مستوطنة نتانيا، وساعدها في الحصول على آلاف الدونمات للتوسع، وأعطاها منفذًا إلى البحر.

عندما أصبح حاكمًا في الجليل، استعمل سياسة القبضة الحديدية ضد المقاومة العربية، وفرض على القرى التي خرجت منها المقاومة غرامات باهظة. وكان يعاقب من يتعرض للمستوطنات الصهيونية عقابًا شديدًا، ويتوعد المخاتير بإفناء قريتهم عن بكرة أبيها، إذا تعرض مجاهدوها لليهود.

كل هذا جعله هدفًا للثورة، ففي عام 1922 وجد حراسه مسدسًا مخبًأ تحت الدرج في مكان إقامته في القدس، مما جعلهم يعتقدون أنها محاولة للنيل منه. وفي عام 1930 في عكا، كان سيتعرض لهجوم مجموعة كبيرة عليه، إلا أن فتاة عربية وقفت في وجههم، مدافعة عن الرجل "المؤمن" كما كانت تعتقد، مما أدّى إلى نجاته.

عندما انطلقت الثورة عام 1936، أرسل زوجته وأولاده إلى بريطانيا لإحساسه بأن حياته أصبحت في خطر حقيقي، حتّى أنّه كان يعرف عن طريق مخابراته، أنّ جماعة القسام قد أوكلت مهمة اغتياله لخلية مجاهدين من بلدة صفورية.

التحضير لتنفيذ المهمة

وقع القرار لدى جماعة القسام باغتيال الجنرال أندروز، فهو هدف كبير من شأن قتله أن يشعل نار الثورة الفلسطينية التي خبت نارها بعد إعلان بريطانيا أنها ستنصف الفلسطينيين في صراعهم مع الحركة الصهيونية. واغتياله سيكون بمثابة ردّ على توصيات اللجنة بإقامة الدولة اليهودية على أرض الجليل ومرج ابن عامر، حيث أصبح هذا الجنرال المعادي حاكمًا، وهو من أشد المتحمسين لإقامة الدولة اليهودية. ولذلك اعتبرت الثورة أن وضعه حاكمًا بداية لتنفيذ هذا المشروع. ثم إن لدى الشعب الفلسطيني حسابا طويلا مع الجنرال أندروز على مساهمته في بناء المستوطنات وخصوصًا سلسلة "جدار وبرج" الآنفة الذكر.

أوكلت المهمة لأبي يحيى الصفوريّ الذي يسكن في مدينة حيفا، وكان عليه أن يختار مجموعة صغيرة من المجاهدين يكون باستطاعتهم تنفيذ المهمة بنجاح، وسرعان ما أرسل في طلب أحد مجاهدي صفورية، وشرح له ما عليه فعله، وأوصاه بالاستعانة بإمام الجامع الأبيض في الناصرة وهو كسلاوّي (من قرية اكسال) ومعدود على الثوار، حيث أن الجنرال أندروز كان يصلي كل يوم أحد مساءً في كنيسة في الناصرة بالقرب من "الكازانوڤا" (هي كنيسة المسيح الإنجيلية أو الجرينه، التي تقع بالقرب من التيراسنطا). كم وأكَّد عليه أن يختار رجاله جيدًا ممن يكتمون السِّر، ولا يهابون الموت، فهذه المهمة ليست كغيرها من المهمات.

ذهب المجاهد أحمد التوبة الى الناصرة، وزار إمام المسجد، وفهم منه كل تحركات الجنرال، بل وذهبا إلى المكان وعاينا المنطقة، أين تقف سيارة الجنرال، وكيف ينزل منها ماشيًا إلى الكنيسة، دائمًا برفقة عسكريين اثنين، وهو يأتي الصلاة كل أحد قبل السادسة مساءً بقليل.

اجتمع المجاهدون الخمسة: أحمد التوبة وصالح النصر ومحمد عبد السعدي من صفورية، ومحمد أبو جعب من قباطية قضاء جنين، وسعد الخالدي من عرب الخوالد، ورسموا الخطة بدقة، وكانوا بحاجة إلى شخص يسكن قريبًا من المنطقة ليرصد لهم المنطقة عند تنفيذ العملية، ويقوم بتحذيرهم من أي خطرٍ، ويكون دليلهم وقت الهروب في حال تعقدت الأمور.

عُقد العزم على تنفيذ الاغتيال يوم الأحد الموافق 26/09/1937، على أن يكون اللقاء عند صلاة العصر في جامع صفورية ومن هناك ينطلقون إلى الناصرة، وهذا ما كان.

مقتل الجنرال أندروز

كان الجنرال أندروز سعيدًا، فهو اليوم يحتفل مع "أحبابه" في ذكرى عشر سنين على إقامة "كيبوتس بيت زيرَع"، ويشاركهم أيضا احتفاله بعيد ميلاده الحادي والأربعين، والذي يصادف اليوم. كان يقرأ برقيات التهنئة بهذه المناسبة، من أصدقائه بـ"هييشوڤ هيهودي" (يعني المستوطنات اليهودية)، ومن زوجته وبناته اللواتي يشتقن لرؤيته، "متى سيكون ذلك؟" فكّر قائلًا في نفسه، وأجابها بثقة: "عندما يتحقق حلمي في إقامة الكيان اليهودي، والتخلص من الإرهابيين العرب المتخلفين"، انتشى عندما تخيل ذلك، وارتاح في جلسته عندما كان يشرب نخب نفسه، نخب الجنرال الذي تتحقق أحلامه ونخب عيد ميلاده ونخب المستعمرة التي يحتفل بعيد ميلادها أيضًا.

رغم سعادته الفائقة، والمناسبات السعيدة، فإن الجنرال لن يفوّت صلاته الدينية والتي يؤديها كل أسبوع، ولذلك استأذن الحضور، وانطلق بصحبة حارسه الشخصي الشرطي ماكيان، ونائبه پيري چوردون.

أوقف السائق السيارة في المكان المعتاد، وترجل منها الأشخاص الثلاثة، ومشوا صعودًا سائرين إلى الكنيسة، يتوسطهم الجنرال أندروز. كانوا يلبسون بدلات رسمية بيضاء تليق بالمناسبة، مشى الجنرال بثقة متناهية، وسعادة تامة، حتى وصلوا إلى مفرق وانحرفوا إلى اليسار.

قبلها بدقيقة أو أكثر، كانت الإشارة من الذي كان يراقب الطريق، تعلن أن الجنرال قد قدم "بلحمه وشحمه"، عندها تقدم أربعة من المجاهدين، ثلاثة لبسوا كوفية وعقالًا، أما الرابع فلبس طربوشًا، كان من الناصرة، كل واحد منهم كان يحمل مسدسًا أُعِّد لهذه المهمة، من قبل قيادة الثورة.

ما أن انحرف الأوروبيون الثلاثة يسارًا، حتى ظهر أمامهم حملة المسدسات المشهرة، ولم يمهلوهم حتى يستلّوا سلاحهم، رغم خلفيتهم العسكرية، وعاجلوهم بإطلاق وابل من الرصاص.

تعرض الحارس الشخصي للجنرال لثلاث رصاصات، وتوفي مضرجًا بدمائه، أما النائب فكان سريع البديهة ورمى نفسه على الأرض وتفادى الطلقات.

أصيب الجنرال بثماني رصاصات في الجزء العلوي من جسمه، سقط أرضًا، ليس قبل أن يترنّحَ محاولًا الحفاظ على توازنه، ولكن هيهات فقد أصبح يشعر بثقل أبراج المستوطنات التي ساهم في بنائها على كاهله، أما أسوارها، فقد شعر بها تلتف حول عنقه فتقطع أنفاسه، كما قطع أنفاس الأرض العربية وضيَّقَ عليها.

سقط أخيرًا، ولَم يسعفه كبرياؤه، سقط مضرجًا بدمائه، حزينًا وخائفًا في لحظات عمره الأخيرة، ورجف جسمه رجفةً كبيرة، ها هي أحلامه تضيع وتتلاشى أمام عينيه ساعة خروج الروح من الجسد. كانت الساعة 17:45 تماما.

نجحت العملية، وامتزجت صيحات المجاهدين "الله أكبر" بدقات كنائس المدينة واحدة تلو الأخرى، معلنة نهاية رجل قدم من آخر الأرض، ليساهم في نكبة شعبنا.

اختفى المجاهدون في أزقة المدينة المقدسة، وانطلقوا إلى جبال الجليل، واختبأوا حتى انتهت سلطات الانتداب من البحث عن قتلة الجنرال، ولَم تعثر عليهم حتى اليوم.

ما بعد الاغتيال

وقع نبأ اغتيال الجنرال وقوع الصاعقة على حكومة الانتداب، إذ اعتبرته تجاوزًا لكل الاتفاقات الضمنية بعدم التعرض لموظفي الدولة، فهذا ما لم يحدث منذ انطلاقة الثورة، فكم بالحري اغتيال حاكم للجليل.

قامت الحكومة برصد جائزة قيمتها عشرة آلاف ليرة فلسطينية أي ما يعادل أجرة شرطي بريطاني في فلسطين لمدة تسعين عامًا! واعتقلت أكثر من 15 ألف شخص واقتادتهم إلى التحقيق، ولكن عَبَثًا.

كذلك أخرجت اللجنة العربية العليا عن القانون، وأصدرت أمر اعتقال بحق الحاج محمد أمين الحسيني، هرب بسببه إلى خارج البلاد.

في المستعمرات الصهيونية، ساد حزن شديد، وألغيت احتفالات اليوم الأخير من "عيد العرش" او ما يسمّى "فرحة التوراة" في الكثير من المستوطنات، فتحولت الأفراح إلى أتراح، وخصصت المؤسسات التعليمية وقتًا خاصًا للحديث عن أندروز، كما شارك الكثيرون في مسيرة جنازته من الجليل إلى القدس، أو وقفوا على جانب الطرقات لتقديم التحية لجثمانه.

أما في الجليل فقد عمّ الفرح وكان سيد الموقف. في عكا، رقص الناس على سطوح المنازل، وأعلن القاضي أنور نسيبه أن أندروز كان معاديًا للعرب وقال بسخرية: "أندروز وجد ربه حيث كان يبحث عنه".

كان هذا الحدث مؤشرًا على بداية فترة جديدة في الثورة الفلسطينية الكبرى، فقد انطلقت من جديد، وأصبحت أشد وأقوى من السابق، وقام الثوار بعدها، خاصة في العام 1938، بتنفيذ آلاف العمليات ضد أهداف صهيونية وبريطانية.

التعليقات