70 عاما على النكبة – تفجير فندق الملك داوود (11)

في الأول من تموز كتب موشي سنيه قائد "الهاغاناه" إلى مناحيم بيغن زعيم "الإيتسل": "يجب تنفيذ العمل بأسرع وقت ممكن، أعلمني عن الموعد، يجب ألا ينشر اسم الجهة المنفذة". بيغن يعرف أن المقصود هو فندق الملك داوود في القدس

70 عاما على النكبة – تفجير فندق الملك داوود (11)

انقلاب السحر ١٩٤٦: حركة "العصيان العبري" - قصة تفجير فندق الملك داوود ١٩٤٦


ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وظن الصهاينة أن العالم سيترك كل مشاكله ومصائبه، من أجل التفرغ لإقامة دولتهم المزعومة. كانوا يريدون حلا سريعا يكون ثمنا لتجندهم مع بريطانيا خلال الحرب، ولذلك على هذه الدولة، أي بريطانيا، والتي تسيطر على زمام الأمور في فلسطين، أن تسلب البلاد من أهلها الأصليين وتسلمهم إياها على وجه السرعة. فخدمة كانوا قد أدوها خلال الحرب، ورغم تواضع هذه الخدمة، إلا أنها تستوجب أن تدفع بريطانيا مقابلها مباشرة، خاصة أن الظروف أصبحت مهيأة تماما لذلك، فالاستيطان اليهودي كان قد تغلغل في جسم فلسطين، كما السرطان، وصار هذا الجسم معرضا للسقوط المباشر، والاقتصاد اليهودي ازدهر خلال الحرب بخلاف اقتصاد أوروبا المنهار، وأعداد المهاجرين تزداد باضطراد، والعالم مستعد لدفع ثمن ما فعلته النازية بشعوب أوروبا، خاصة اليهود منهم.

أما العرب فلا حول ولا قوة، ولا دول مستقلة، ولا جيوش بإمرة عربية، وأهل فلسطين يضمدون جراح اقتصادهم بفعل الحرب، وما زالوا مندهشين من انتصار بريطانيا وخروجها قوية من الحرب، بحيث لا أمل في صدّ اليهود عن مشروعهم، وهم المستفيدون الوحيدون منها، بفعل كثافة الهجرة خلالها، وكسبهم الخبرة العسكرية التي صارت تؤهلهم للانقضاض عَلى الفلاحين العرب، الذين أفشلتهم بريطانيا وحلفاؤها في ثورتهم قبل الحرب، رغم التضحيات الكبيرة التي قدموها. ولكن ماذا يفعلون إذا كان كل حدث يأتي في النهاية في صالح الصهاينة، بفضل التخطيط المنظم، وبفضل الاستعمار البريطاني المؤيد لهم، بل الذي يدفع بهم إلى مشروع كان أصلا من بنات أفكاره "الجهنمية".

لم تهرع بريطانيا لإقامة دولة اليهود، والتنصل من كتابها الأبيض الرابع الذي أصدره وزير المستعمرات آنذاك، السير مالكوم ماكدونالد، وذلك بتاريخ ٢٧ أيار / مايو عام ١٩٣٩، ونص هذا الكتاب على أن تقام دولة فلسطينية ديموقراطية، على كل أرض فلسطين، يعيش فيها العرب واليهود معا، وبذلك ألغت بريطانيا تبنيها واقتراحاتها السابقة بشأن تقسيم فلسطين لدولتين، عربية ويهودية.

بعد الانتخابات في بريطانيا والتي فاز فيها حزب الليبور، الذي كان قد قدم الوعود لليهود، بتغيير سياسة بريطانيا بشأن "الكتاب الأبيض"، خاب أمل قيادات الحركة الصهيونية بفعل تنصل الحكومة من وعودها، وذلك على لسان وزير خارجيتها الذي تحدث في خطاب له على ضرورة تنفيذ ما جاء في الكتاب الأبيض، وأن ما حدث في أوروبا بحق اليهود من قتل وتعذيب، ليس له علاقة بإقامة دولة لهم في فلسطين، مما أثار غضب العصابات الصهيونية التي قررت أن تفعل شيئا حيال ذلك.

العصابات الصهيونية

ابتدأ اليهود بالهجرة إلى فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، عندما كانت فلسطين عثمانية، ويقطنها ١٠٠٪؜ من العرب، من أديان مختلفة، كان اليهود يشكلون منهم أقل من ٣٪؜ من السكان، يعيشون مع من يعيش في هذه البلاد، كغيرهم من أصحاب الأرض الأصليين، ببساطة متناهية، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، إلى أن ابتدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، وروسيا خصوصا، إذ أصبح اليهود المهاجرون بحاجة إلى منظمات مسلحة، من أجل السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وحراسة المستعمرات.

تم تأسيس المنظمة المسلحة الأولى تحت اسم "بار چيورا"، في ٢٩ أيلول عام ١٩٠٧، بهدف أخذ مهمة حراسة مستعمرة "الشجرة" من الحراس الشركسيين من كفر كما، ثم مستعمرة مسحة (أصبحت فيما بعد كفار تابور) عام ١٩٠٨.

عام ١٩٠٩ قرر مؤسسو هذه المنظمة أن يوسعوها، تحت اسم "هشومير"، واستطاعت هذه المنظمة أن تحتوي أكثر من ١٢٠ عضوا، واستلام حراسة ثلاث عشرة مستعمرة.

في العام ١٩٢٠، تم تفكيك منظمة "هشومير" وتأسيس منظمة "الهاغاناه" الموسعة في مستعمرة "كينيرت"، وكان حزب "أحدوت هعڤوداه" هو من باشر إلى ذلك، ولكنه لم يستطع أن يمول منظمة كبيرة مثل "الهاغاناه"، ولذلك صارت "الهستدروت" هي من تسيطر على "الهاغاناه" بعد ستة أشهر من تأسيسها.

استطاع هذا التنظيم أن يضم عددا كبيرا من الأعضاء، وبهذا أصبح التنظيم الصهيوني الأهم في السيطرة على البلاد، واغتصابها من اَهلها الأصليين، وهذا التنظيم هو ما شكل الجيش الاسرائيلي فيما بعد.

في الخامس عشر من أيار/ مايو ١٩٤١، تأسست القوة العسكرية الصهيونية الأولى المنظمة على صورة جيش، وكان مؤسسها وقائدها الاول هو يتسحاك ساديه، وسميت هذه المنظمة "پلماح" اختصارا لـ"القوة الضاربة" بالعبرية. وهي جزء لا يتجزأ من "الهاغاناه"، تدين لقيادته العسكرية والسياسية.

هذه المنظمة حاربت في معارك النكبة، وبعدها أي عام ١٩٤٨، أصبحت جزءا من جيش إسرائيل.

بعد ثورة البراق، التي ذكرتها في الحلقة السابقة، اختار بعض المتطرفين من حركة "بيتار"، المنظمين في منظمة "الهاغاناه"، أن يتركوا منظمتهم العسكرية لتأسيس منظمة جديدة تحت اسم "إيتسل"، وهو اختصار "للمنظمة العسكرية الوطنية في أرض إسرائيل"، وذلك لأنهم أرادوا أن تتم هجمات أكثر على العرب الفلسطينيين. اعتبر الاستعمار البريطاني هذه المنظمة إرهابية، وليست شريكة كما تعامل مع منظمة "الهاغاناه".

خلال الحرب العالمية الثانية، قررت قيادة "إيتسل" أن توقف هجماتها ضد البريطانيين، ما لم يعجب بعض أعضائها مما أدى بهم إلى الانفصال عام ١٩٤٠ وتأسيس منظمة جديدة تحت اسم "ليحي"، والتي أخرجت عن القانون عام ١٩٤٨، على يدي الحكومة الصهيونية الأولى بعد قيام دولة إسرائيل.

رغم الاختلافات والخلافات بين منظمة "الهاغاناه" و"إيتسل" و"ليحي"، بل والعداء الشديد فيما بين هذه المنظمات أحيانا، والذي وصل في مرحلة ما إلى تنفيذ "الهاغاناه" اعتقالات وحتى تسليم لسلطة الانتداب، وذلك من عناصر "إيتسل"، رغم ذلك كانوا ينسقون فيما بينهم في كثير من الأحيان، كما فعلوا في حالة مذبحة دير ياسين عام ١٩٤٨، رغم ان "الهاغاناه" حاولت التنصل من المسؤولية.

أما أبرز التعاون فيما بينهم فكان ما يسمى بـ"حركة العصيان العبري" في الأعوام ١٩٤٥ و ١٩٤٦.

حركة العصيان العبري

ثارت ثائرة زعماء الحركة الصهيونية، حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون وغيرهما، بسبب خطاب وزير الخارجية البريطاني، فقاموا بتقديم احتجاجات شديدة اللهجة للحكومة البريطانية، وعقدوا مؤتمرات تدين الموقف البريطاني، وابتدأوا باللجوء إلى الجانب الأميركي لدعمهم بإلغاء سياسة الكتاب الأبيض، وخصوصا أن هنالك أكثر من ثمانين ألف يهودي، كانوا قد خرجوا من المعتقلات النازية في أوروبا، وباتوا بلا مأوى، ودفعت الحركة الصهيونية لتوطينهم في فلسطين بدل إعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، مستغلة إلى درجة كبيرة مأساة يهود أوروبا. كما صار زعماء الصهيونية يتكلمون بلسان أن السياسة البريطانية "المعادية" هي ما تسببت بمجازر النازية بحق اليهود، إذ كان عليها تسهيل وصولهم إلى فلسطين والتوطن فيها بدل تركهم فريسة بيد أعدائهم. بالإضافة إلى ذلك تعالت التصريحات لرجال "الهاغاناه"، بأن باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم في وجه العرب الفلسطينيين، وليسوا بحاجة إلى جند الدولة العظمى، بل هي تقف في وجههم وتمنعهم من حلمهم في إقامة دولتهم.

في ظل هذه الأجواء، قامت عصابة "ليحي"، بدور حلقة الوصل بين العصابتين الأكبر، "الهاغاناه" و"الإيتسل" من أجل التنسيق لإقامة جسم تحت قيادة مشتركة، يكون هدفه تنفيذ عمليات ضد أهداف بريطانية، مما يتماشى مع فكر ونظرية "ليحي" بوجوب تنفيذ عمليات عسكرية ضد حكومة الانتداب من أجل تسريع جلاء جيوشها عن فلسطين، وترك العرب لقمة سائغة للمنظمات العسكرية الصهيونية.

رغم أن "الهاغاناه" كانت تريد اندماجا للتنظيمين الآخرين فيها، وخضوعهما للقيادة السياسية الصهيونية (الهستدروت والوكالة الصهيونية)، إلا أنها لم تنجح في ذلك، وبعد عدة اجتماعات توصلت التنظيمات الثلاثة، في نهاية تشرين أول / أكتوبر عام ١٩٤٥، إلى اتفاق حول تنسيق عمليات عسكرية مشتركة، تحت مسمى "حركة العصيان العبري".

ويرتكز هذا التنسيق على التالي: منظمة "الهاغاناه" تدخل مع التنظيمين الآخرين حلبة الصراع العسكري ضد الحكم البريطاني، وتلتزم "إيتسل" و"ليحي" بعدم تنفيذ عمليات عسكرية إلا بموافقة قيادة العصيان، ويلتزم التنظيمان بتنفيذ عمليات قررتها قيادة العصيان، وتدرس العمليات المقترحة في اجتماعات يشارك فيها كافة الأطراف. وعند صدور موافقة على إجراء عملية ما يتم التخطيط بمشاركة الخبراء العسكريين لكافة التنظيمات، أي عملية تنفذها "إيتسل" أو "ليحي" من أجل سلب أسلحة بريطانية ليست بحاجة إلى موافقة قيادة الحركة، في حالة أن "الهاغاناه" قررت أن تتخلى عن العمليات العسكرية، تستطيع "إيتسل" وليحي" الاستمرار فيها بدون موافقة قيادة العصيان.

تقرر أيضا أن تكون القيادة مكونة من أربعة أعضاء: موشي سنيه ويسرائيل جليلي من "الهاغاناه"، ميناحيم بيغن من "إيتسل، ونتان يلين مور من "ليحي".

فوق هذه القيادة العسكرية، تأسست قيادة سياسية تمثل كافة الأحزاب والفئات الصهيونية، وكان عدد أعضائها ستة وهم: الحاخام فيشمان من حزب "مزراحي"، فرانس برنشطاين من "هتسيونيم هكلليم"، ليڤي أشكول من "مباي"، يعكوڤ ريفتين من "هشومير هتسعير"، يسرائيل إيديلسون من "أحدوت هعڤودا" ورئيس اللجنة كان موشي سنيه بصفته رئيسا لقيادة "الهاغاناه" القطرية، بالإضافة إلى تعيين ديڤيد ريمز مستشارا كونه يتبوأ وظيفة رئيس "اللجنة القومية". وسميت هذه القيادة بلجنة "إكس" إشارة إلى أنها تقود حركة سرية.

كان رئيس اللجنة يأتي بالاقتراحات التي تناقش في لجنة قيادة العصيان وتعرض على أعضاء لجنة "إكس" بدون التطرق إلى التفاصيل أو تاريخ العملية أو مكانها، بل يطلب، على سبيل المثال، إذنا بتنفيذ عملية من أجل ضرب مراكز بريطانية ترصد إحضار المهاجرين اليهود، بدون أن يشرح أنهم يهدفون إلى تدمير رادارات بريطانية في حيفا.

عمليات حركة العصيان العبري

قامت حركة العصيان العبري بـ11 عملية كبيرة، 8 منها قام بها "البلماح" وهو القوة الضاربة لـ"الهاغاناه"، و3 قامت بها "إيتسل" و"ليحي". من أهم هذه العمليات:

ليلة القطارات: وتم تنفيذها فورا بعد تأسيس حركة العصيان، بل كانت عملياتها إعلانا عن التأسيس، وكان ذلك في ليلة الأول من تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٥، حيث قامت 50 وحدة صغيرة من "البلماح"، بتدمير ١٥٣ نقطة في السكك الحديدية في أنحاء فلسطين، خاصة في نقاط التقاء السكك، وكان هذا بالتوازي في تمام الساعة الحادية عشر ليلا. كما وقامت قوات "البلماح" بإغراق ثلاث سفن لخفر السواحل البريطاني، وكذلك قامت وحدة من "الإيتسل" و"الليحي" بتنفيذ هجوم على محطة القطار في اللد، فدمرت ثلاث قاطرات وفجرت عدة مبان، ولكن أمر هذه الوحدة انكشف، واشتبكت مع جنود بريطانيين وحراس عرب، مما أدى إلى مقتل أحد أفرادها، وأربعة من العرب وبريطانيين اثنين.

أدت هذه العملية الى ارتفاع معنويات الصهاينة بسبب نجاحها، واستنكار بريطاني شديد لها دون أن تفعل بريطانيا شيئا حيال ذلك.

ليلة الطائرات: وكانت في ٢٥ شباط/ فبراير من العام ١٩٤٦، وقامت بها وحدات من "الإيتسل" و"الليحي"، وتم فيها تدمير سبع وعشرين طائرة بريطانية، ست طائرات في مطار بجانب ملبس (بيتح تكفا)، وإحدى عشرة طائرة في مطار اللد، وعشر طائرات في مطار "كاستينا". وفِي هذه العملية قتل جندي صهيوني واحد.

أدت هذه العملية ببريطانيا لتحويل طائراتها العسكرية إلى مصر لمنع حدوث أضرار أخرى فيها.

ليلة الجسور: وكانت في ليلة ١٦-١٧ حزيران/ يونيو ١٩٤٦، على يدي قوات "البلماح"، وكان الهدف منها تدمير الجسور التي تربط فلسطين بالدول الأخرى، ودمرت القوات تسعة جسور هي: جسر المطلة الشرقي وجسر المطلة الغربي وجسر بنات يعقوب وجسر الحمة وجسر الشيخ حسين وجسر آدم (على نهر الاْردن) وجسر اللينبي وجسر سكة الحديد التي تربط غزة برفح وجسر آخر على الشارع الذي يربط غزة برفح (لم يتدمر نهائيا بل تضرر بشكل كبير)، وجسر سكة الحديد في الزيب، وهناك واجهت القوة وحدة بريطانية مما أدى إلى مقتل أربعة عشر من أفرادها، بسبب أن رصاصة أصابت المتفجرات التي زرعها "البلماح" على الجسر، مما أدى إلى انفجار كبير دمر الجسر، وحول أجساد أفراد "البلماح" إلى أشلاء متناثرة، مما منع التعرف على أصحابها فدفنوا سوية في قبر واحد. حاولت قوة أخرى من "البلماح" تدمير جسر آخر في الزيب، إلا انها لم تفلح في ذلك، بسبب تعرضها للهجوم وانسحاب أفرادها.

بالإضافة إلى هذه العمليات الكبيرة، كان هناك عمليات أخرى مثل إطلاق سراح مئتي مهاجر يهودي جديد من معسكر المعتقلين في عتليت، والهجوم على مراكز شرطة بريطانية في "رمات غان" وغيرها وتفجير محطة الرادار في جبل الكرمل، وتدمير ورشات إصلاح القطارات في حيفا.

رغم ن "الهاغاناه" وكذلك "الإيتسل"، كانوا شديدي الحرص على عدم وقوع خسائر في أرواح الجنود البريطانيين، إلا أن التفجيرات والصدامات أحيانا مع الجيش البريطاني، وعند انكشاف أمر منفذي العملية، كانت تؤدي إلى خسائر بشرية بريطانية، مما أدى إلى تزايد التذمر لدى الجنود البريطانيين على عدم وجود رد مناسب من قبل حكومتهم، على هذه العمليات، فصاروا يعبرون عن غضبهم بمهاجمة محلات تجارية يهودية في تل أبيب وغيرها وتكسير واجهاتها الزجاجية، وتخريب محتوياتها. أما حكومة الانتداب والتي تعاملت في البداية بكفوف من حرير مع هذه الظاهرة، اذ كان ردها لا يتجاوز حملات تفتيش صغيرة أو إقامة حواجز مؤقتة، هذه الحكومة وجدت نفسها محرجة ومضطرة إلى عمل كبير يؤدب العصابات الصهيونية، ويعيد الهيبة إلى الحكومة، خاصة أن الوقاحة بلغت أشدها عند بن غوريون وحاييم وايزمان اللذين كانا يعزوان حركة العصيان إلى سياسة بريطانيا "المعادية" لليهود، وعدم إلغاء الكتاب الأبيض.

عملية "أچاثي" (السبت "الأسود")

بعد عملية ليلة الجسور، لم يبق أمام الحكومة البريطانية، إلا أن تقوم بعملية كبيرة ضد "الهاغاناه" والوكالة الصهيونية، والتي اعتقدت بريطانيا بحق، أن لها ضلعا في حركة العصيان.

في اليوم التالي لتدمير الجسور، قامت القوات البريطانية بمداهمة وتفتيش واسع للكيبوتسات "متسوڤا" في الجليل الغربي، و"بيت هعرڤا" في شمال البحر الميت، وكيبوتس "كفار چلعادي" في اليوم الذي يليه، ولكنها لم تنجح بالوصول إلى شيء مفيد، ولذلك قررت الاستمرار في التحضير لحملتها الكبيرة، ضد المستوطنات اليهودية الكبيرة.

في صباح يوم السبت الموافق ٢٩ حزيران / يونيو ١٩٤٦، شارك أكثر من 17 ألف جندي بريطاني، فيما سمته بريطانيا عملية "أچاثي" وأطلقت عليه "الهاغاناه" فيما بعد اسم "السبت الأسود" لذهولها من حجم هذه الحملة الكبيرة.

أحد الضباط البريطانيين والذي كان متعاطفا مع الحركة الصهيونية، أبلغ تسڤي زهاڤي رئيس مخابرات "الهاغاناه" (الشين يود)، بالخطة البريطانية وتفاصيلها، وعن وجود قائمة بخمسة آلاف عضو من "الهاغاناه" وخاصة "البلماح"، من الذين تريد بريطانيا اعتقالهم. نقل زهاڤي الأمر إلى قيادة "الهاغاناه" والتي قامت بدورها ببث الخطة عبر أثير إذاعتها المسماة "صوت إسرائيل"، عسى أن يمنع هذا بريطانيا من تنفيذ حملتها، ولكن بريطانيا استمرت، وكأن سر حملتها لم يشع بعد.

نفس الضابط البريطاني المتعاطف، جاء في المساء الذي سبق العملية ليحذر أعضاء من "الهاغاناه" مما منع الكثير من الاعتقالات في صفوفهم حيث اختفى قسم كبير ممن يقطن في تل أبيب، لعدم تمكنهم من إرسال خبر الحملة إلى القدس.

قامت القوات البريطانية منذ ساعات الفجر الأولى بتطويق تل أبيب والقدس وحيفا، وانطلق جنودها إلى المؤسسات الصهيونية، يقتحمونها ويصادرون مستنداتها، ويعتقلون من وجدوه من قائمتهم. اقتحموا مركز إدارة الهستدروت في الرابعة والنصف صباحا، وصادروا كل الوثائق التي عثروا عليه، ليس قبل أن يخربوا أغلب الأثاث، ويفجروا باب المدخل، ليقتحموه بالقوة. وكذلك مقر بنك "هبوعليم" في تل أبيب، حيث اقتحمه الجند في الساعة الثالثة والنصف صباحا، بواسطة تفجير مدخله كما فعلوا مع بناية الهستدروت، وكذلك مقر الوكالة الصهيونية في القدس، ومطابع ومكاتب صحف يهودية مثل مطبعة صحيفة "داڤار" التي اقتحموها أيضا في ساعات الفجر المبكرة. كان مجموع ما جمع من الوثائق حمولة ثلاث سيارات شحن كبيرة، نقلت كل الوثائق إلى فندق الملك داوود في القدس، والذي يتخذه الجيش البريطاني مقرا لقيادته.

قتل خمسة يهود وجرح العشرات في الحملة، واعتقلت القوات البريطانية أكثر من ٢٧٠٠ يهودي، منهم، الحاخام ي. فيشمان رئيس إدارة الوكالة اليهودية، وم. شرتوك مدير الدائرة السياسية في الوكالة، وأعضاء إدارة الوكالة ب. يوسف وڤي. چرينبويم، ورئيس اللجنة القومية د. ريمز، وزعامة يهود حيفا د. هكوهن وي. بر راڤ هاي وب. ريفطور وغيرهم. أما رئيس الوكالة اليهودية حاييم وايزمان وبن غوريون فلم يعتقلا في هذه الحملة.

أما المستوطنات التي هاجمتها القوات البريطانية فهي الياجور و"رمات راحيل" و"نعان" و"چفعات برنر" و"مزرع" و"عين حارود" و"تل يوسف" و"يريد" و"أشدوت يعكوڤ" و"كفار حاييم" و"تل عمال" و"چفعات حاييم" و"عين هحورش" و"معبروت" و"دچانيا أ" و"دجانيا ب" وغيرها.

كانت التعليمات للمعتقلين ألا يكشفوا عن هويتهم للسلطات البريطانية، بل أن يقول كل واحد منهم أنه يهودي من فلسطين، وهذا ما كان، فقامت السلطات البريطانية بإطلاق سراح مجموعات كبيرة منهم خلال فترة بسيطة لعدم تمكنها من التعرف على هوياتهم الحقيقية.

ضوء أخضر من "الهاغاناه"

في الأول من تموز / يوليو كتب موشي سنيه قائد "الهاغاناه"، كتابا موجها إلى مناحيم بيغن زعيم "الإيتسل": "يجب تنفيذ العمل بأسرع وقت ممكن، أعلمني عن الموعد، يجب ألا ينشر اسم الجهة المنفذة". كان مناحيم بيغن يعرف أن المقصود هو فندق الملك داوود في القدس، انتقاما لعملية "أغاثي" البريطانية الواسعة ضد المستوطنات الصهيونية، حيث أن "الإيتسل" كانت قد وضعت في خططها تفجير الفندق منذ شباط/فبراير الماضي، كما أنها طرحت الموضوع على قيادة العصيان، وحصلت على تصريح بالتنفيذ، ولكن الموعد لم يتفق عليه، حتى وصلت رسالة سنيه لزعيم "الإيتسل". أخيرا حصلوا على الضوء الأخضر.

من المرجح أن "الهاغاناه" كانت تهدف من وراء ذلك، إلى تدمير المستندات التي صادرتها بريطانيا، ووضعتها في فندق الملك داوود، حيث اتخذته منذ بداية الحرب العالمية الثانية مقرا لقيادة الجيش. وقبلها بعام اي سنة ١٩٣٨، نقلت إلى هناك مقر إدارة حكومة الانتداب.

ابتدأ فندق الملك داوود بالعمل في شهر كانون ثان من عام ١٩٣١، بعد قرابة عام أو أكثر قليلا من البدء في عملية البناء. كانت تمتلكه عائلة موسري اليهودية الإيطالية، والتي استقرت في خلال القرن التاسع عشر، كان الفندق يقع في شارع "يوليان" ويطل على البلدة القديمة، وأصبح فيما بعد الفندق المفضل لدى الوزراء والأمراء والملوك الذي قدموا من أنحاء العالم، وأصبح يؤم مطعمه "لا ريجنس"، أغنياء القدس والمناطق المجاورة.

كان الفندق مسرحا للنقاشات الحادة بين عماله العرب واليهود، إذ أن العرب كانوا يعتبرونه جزءا من الخطة الصهيونية للاستيلاء على قطاع السياحة في القدس.

كانت الخطة المدبرة، تقضي بأن يدخل رجال "الإيتسل" إلى الفندق، متنكرين بملابس عربية، على أنهم يحضرون الحليب إلى الفندق، ويضعوا المتفجرات في أوعية الحليب، على أن يحاولوا أن يمنعوا وقوع ضحايا بريطانيين، خوفا من انتقامها، أي حكومة الانتداب.

تنفيذ عملية التفجير

تقرر أن تكون ساعة الصفر، بتاريخ ٢٢/٧/١٩٤٦، في منتصف النهار، عندما يكون أغلب الموظفين في مكاتبهم، كان القرار يقضي بتفجير المنطقة الجنوبية للفندق، والتي تضم مكاتب حكومة الانتداب، وحيث تحتفظ بالمستندات الصهيونية المصادرة.

دخل أعضاء "الإيتسل" إلى الفندق، متنكرين بزي عمال سودانيين، ودخلوا إلى مقهى "رچنس" الموجود في الفندق، وسيطروا على المكان بقوة السلاح، ووضعوا جميع العمال في ناحية معينة من المقهى، ثم وضعوا سبع جرار حليب، كل منها يحتوي على خمسين كيلوغراما من المواد المتفجرة، وضعوا كل واحد منها بجانب أحد أعمدة الفندق. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ظهرا بقليل.

انسحب أعضاء "الإيتسل"، ليس قبل أن يضبطوا ساعة التفجير على ثلاثين دقيقة، ثم انسحبوا مسرعين إلى الخارج، وعند خروجهم قتلوا أحد الضباط البريطانيين الذي جاء ليتحقق من الجلبة داخل المقهى، وجرحوا زميلا له. وعند سماع صوت الرصاص، هاجمهم الحراس العرب وجرحوا اثنين منهم، وتوفي أحدهم فيما بعد متأثرا بجراحه. وعندما أحس المنسحبون بالخطر، قاموا بتفجير كبير خارج الفندق، من أجل إلهاء حراس الفندق.

يدعي أعضاء "الإيتسل" أنهم اتصلوا من أجل التحذير بوجود قنبلة، وذلك في تمام الساعة الثانية عشر وعشر دقائق، وأن أحدا لم يأخذ هذه التحذيرات على محمل الجد، بل يقال إن السكرتير الرئيسي لحكومة الانتداب، هدد من يترك الفندق بالطرد من العمل، قائلا: "أنا صاحب القرار هنا، وليس الإرهابيون".

حدث الانفجار الكبير في تمام الساعة الثانية عشر وسبعة وثلاثين دقيقة، وكان الانفجار كبيرا، وتسبب بتصاعد أعمدة كثيفة من الدخان، وأدى إلى انهيار الجناح الجنوبي التي تقع فيه دوائر الحكومة، وأصبح كومة من الأنقاض، دفن تحتها عدد كبير من الموظفين، بلغ عدد القتلى ٩١ شخصا (٤١ عربيا و ٢٨ بريطانيا و ١٧ يهوديا وخمسة من جنسيات اخرى)، وبلغ عدد الجرحى ٤٥ جريحا.

ما بعد الانفجار

تفاجأ قادة الصهيونية من حجم الخسائر في الأرواح، ودب الرعب في قلوبهم، وصاروا يتنصلون من هذه الجريمة، فقامت كافة الصحف اليهودية باستنكار التفجير بكل ما أوتيت من قوة، وكذلك الوكالة الصهيونية والهستدروت وقيادة "الهاغاناه"، وتنصلوا من أية مسؤولية تربطهم بالتفجير، بل إن حاييم وايزمان رئيس الوكالة الصهيونية، دعا إليه موشي سنيه وقال له غاضبا: "حتى المساء أريد أن استلم استقالتك، وإلا استقلت بنفسي من قيادة الوكالة"، فقدم سنيه استقالته ظهر نفس اليوم.

وجد تنظيم "الإيتسل" نفسه وحيدا منبوذا ومتهما أمام المستوطنين اليهود، فخاف على شعبيته، فأصدر بيانا في اليوم التالي محملا قيادة العصيان العبري المسؤولية، وأنه لم يقم بهذا الأمر بدون الحصول على تصريح من قيادة العصيان.

أما العرب والهيئة العربية العليا فقد استنكروا بأشد اللهجة هذه "الجريمة الوحشية" و"الاٍرهاب اليهودي الفظيع"، كما أطلق عليها بيان الهيئة العربية العليا في اليوم التالي للتفجير، لعل وعسى بريطانيا تعدل عن مشروعها المشترك مع الحركة الصهيونية بإقامة الوطن القومي لليهود على حساب الشعب العربي الفلسطيني، ولكن هيهات.

التعليقات