70 عاما على النكبة: احتلال حيفا 1948 (12)

ليس من السهل على الفلسطيني أن يستوعب أن رئيس بلدية حيفا في فترة النكبة وسقوط المدينة في يد العصابات الصهيونية، كان صهيونيا، بل وأنه كان من موظفي البارون روتشيلد، وساهم في شراء أراض عربية لصالح الحركة الصهيونية في شمالي فلسطين

70 عاما على النكبة: احتلال حيفا 1948 (12)

قصر الخوري هدم ليبنى على أنقاضه "مجدال هنفيئيم"(من الأرشيف)

سقوط عروس البحر - قصة احتلال حيفا عام ١٩٤٨


ليس من السهل على الفلسطيني أن يستوعب أن رئيس بلدية حيفا في فترة النكبة وسقوط المدينة في يد العصابات الصهيونية في نيسان/ أبريل ١٩٤٨، كان يهوديا صهيونيا، بل وأنه كان من موظفي البارون روتشيلد سابقا، وساهم أشد مساهمة في شراء أراض عربية لصالح الحركة الصهيونية في شمالي فلسطين، وهو المدعو شبتاي ليڤي، والذي كان رئيسا للبلدية بين الأعوام ١٩٤٠ حتى عام ١٩٥١، بقرار بريطاني بعد وفاة رئيس البلدية السابق، حسن بيك شكري، والذي بدوره ترأس البلدية مرتين، ثانيهما بين الأعوام ١٩٢٧ حتى وفاته عام ١٩٤٠.

بل وإن الأصعب، معرفة أن عدد السكان العرب في حيفا عشية النكبة كان أقل من اليهود بخمسة آلاف، على الأقل، إذ كان عددهم خمسة وستين ألفا مقابل سبعين ألف يهودي، لأن العرب كانوا قد فقدوا أغلبيتهم "بفضل" الهجرة الصهيونية، التي استطاعت أن تسيطر على هذه المدينة الإستراتيجية في أقل من خمسين عاما من الهجرة إليها، وفِي "فجأةٍ تاريخية" ومنذ بداية فترة الانتداب أصبحوا جزءا من طيفها السكاني والسياسي والاجتماعي، يعاملون على أنهم سكان عاديون، بل وأن رئيس البلدية حسن بيك شكري، كان يبغي رضاهم ويشاركهم في القرار والإدارة، فشبتاي ليڤي كان نائبه حتى وفاته عام ١٩٤٠، ومن ثم خلفه حتى الاحتلال وبعده.

بدايات الاستيطان الصهيوني في المدينة

كغيرها من القرى والمدن العربية، كانت حيفا بلدا عربيا خالصا، ومن المعروف أن عددا قليلا من اليهود العرب كانوا يعيشون فيها منذ سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر، (كانت حيفا في ذلك الحين قرية صغيرة)، حيث أن عددهم عام ١٨٤٠ لم يتجاوز المئة والثلاثين، من ألفين وخمسمائة مواطن. حتى عام ١٨٩١ كان جُلّ اليهود الذين يعيشون في حيفا، وعددهم حوالي ألف شخص، ويشكلون عُشر السكان، كانوا عربا فلسطينيين وسوريين ومغاربة، وبضع عشرات من اليهود الأتراك.

"الشحنة" الأولى من اليهود الأشكناز الأوروبيين وصلت إلى حيفا عام ١٩٠١، وكانت تضم خمسين روسيا وعشرة نمساويين وأربعة رومانيين، ولكن عددهم لم يتزايد كثيرا حتى العام ١٩٠٣، ولكنه تضاعف حتى العام ١٩٢٠ ليتجاوز الألفين بسبب الهجرة اليهودية الأولى والثانية، ولكن نسبتهم بقيت كما هي (عشرة بالمئة من السكان البالغ عددهم عشرين ألفا) بسبب التزايد المضطرد للسكان العرب، وايضاً بسبب نزوح سكان من مناطق أخرى في فلسطين إلى حيفا من أجل البحث عن عمل في البلدة التي أصبحت تتطور شيئا فشيئا، بسبب أن السلطنة العثمانية اختارت حيفا لتكون فيها المحطة المركزية لخط قطار الحجاز، والتي ابتدأ العمل فيها عام ١٩٠٥، وتحولت حيفا بالنسبة للكثيرين إلى مدينة المستقبل.

كل هذا، حدا بالحركة الصهيونية إلى "وضع العين" على حيفا، إذ أن بنيامين زئيڤ هرتسل اعتبرها عاصمة الدولة اليهودية، فِي كتابه "إلتنويليد" الصادر عام ١٩٠٢، والذي تنبأ فيه بقيام دولة الصهاينة.

في بداية القرن تم انشاء مصنع "المستقبل"، على يدي مستثمرين صهاينة، وأصبح فيما بعد ما يعرف اليوم بمصنع "شيمن"، وكذلك وضعت الحركة الصهيونية العزم على إقامة معهد "التخنيكوم" وما يعرف اليوم بـ"التخنيون"، وتم ذلك عام ١٩١٢، وفِي السنة التي تليها أقيمت مدرسة الـ"ريئالي" بجانبه، كذلك أقام بعض اليهود حارة "هرتسليا" عام ١٩٠٩.

كيف تحول اليهود إلى أغلبية

بعد انتهاء الحقبة العثمانية، واحتلال البلاد على يد بريطانيا، ابتدأت حيفا بالتطور المضطرد، بسبب أن الإمبراطورية البريطانية رأت بها حلقة الوصل التي تربط بينها وبين الشرق، وذلك بسبب وجود القطار الذي يربطها بالمستعمرات الشرقية، كالعراق مثلا، ثم إن بريطانيا قررت بناء ميناء بحري حديث فيها، والذي استمر بناؤه حتى عام ١٩٣٣، وخلال هذه الفترة قدم إلى حيفا الكثير من العرب من أجل العمل في بناء الميناء، بينما فضل اليهود القادمين في موجة الهجرة الرابعة والخامسة، السكن في المدن، ولذلك "حظيت" حيفا بقسم كبير منهم، فأقاموا مشاريع صناعية وتجارية ضخمة مثل: مصنع الإسمنت في "نيشر" بمحاذاة بلد الشيخ، وأسسوا بجانبه حي العمال اليهود المسمى على اسم المصنع وذلك عام ١٩٢٣. وكذلك محطة توليد الكهرباء، والمطاحن الكبيرة، وكل هذا بأموال صهيونية كثيرة. وكانت هذه المصانع تشغل عمالا يهود، وقليلا من العرب بأجور متدنية.

من ناحية أخرى، ركز العرب على الصناعات الخفيفة مثل صناعة الثلج والأحذية والأثاث وغيرها، وفيما بعد أصبح العرب يقيمون مصانع النسيج وبيع مواد البناء بسبب القدوم المكثف من العرب الوافدين من القرى للعمل في المدينة التي تتطور بسرعة كبيرة، وبالأساس بسبب الهجرة اليهودية الواسعة من أوروبا، وحاجتهم إلى التوسع وبناء البيوت والمصانع وغيرها. وأدى توسع أحياء المدينة أيضا إلى إقامة مشاريع بنية تحتية كبيرة، جذبت بدورها عمالة عربية كثيرة.

للأسف فإن سكان حيفا الأصليين من العرب، لم يتقبلوا ويقبلوا القرويين الجدد في حيفا، بل كانوا يستغلونهم، ولذلك كانت أجرة عملهم أقل من أجرة العمال اليهود بثلاثين بالمئة، بسبب أن اليهود كانوا منظمين في إطار "الهستدروت"، والتي كانت تعنى بحقوقهم، وتوفر لهم شروط عمل أفضل من الشروط المتوفرة للعرب.

ما أن جاء العام ١٩٣١، حتى أصبح عدد سكان المدينة حوالي خمسين ألفا، نسبة واحد وثلاثين بالمئة من اليهود، وأصبح اليهود يسكنون مناطق واسعة، حيث أن أغلب المقاولين كانوا من اليهود، الذين استطاعوا أن يشتروا أغلب الأراضي الواقعة في المنطقة الشرقية من الكرمل، وأسسوا حارة "هدار هكرمل" و"نڤي شأنان" و"بت چليم" و"أحوزا". بينما تركز العرب في وادي النسناس ووادي الصليب والحليصة (حيفا التحتى).

في سنوات الثلاثينيات أسس الصهاينة عدة تجمعات تحولت إلى مدن بعد قيام الدولة الصهيونية، في خليج حيفا وهي: "كريات بيالك" و"كريات يام" و"كريات بنيامين" و"كريات آتا" (سُميت سابقا قرية "آتا"). وتم تأسيس هذه التجمعات بجانب مصانع تكرير البترول والمصانع الكبيرة الأخرى في المنطقة، وكذلك قاموا بتأسيس "كريات طبعون" إلى الشرق من حيفا، و"كريات عمال" من أجل السيطرة على الطرق إلى المدينة الكبيرة.

استمرت السيطرة اليهودية على مقدرات المدينة، وتزايد عدد سكانها اليهود، بينما كان وضع السكان العرب يزداد سوءا، فالعرب الأصليون صاروا يتضررون اقتصاديا، بسبب الدعم الذي حظي به اليهود من قبل الحركة الصهيونية من جهة، وحكومة الانتداب من جهة أخرى، خاصة وأن بريطانيا قررت منع تصدير الحبوب، وذلك لتلبية الحاجة المحلية المتزايدة باضطراد بسبب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مما سبب ضررا كبيرا للتجار العرب الذين كانوا يعتمدون على هذه التجارة.

أما العرب القرويون القادمون من أجل العمل فلم يكونوا أحسن حظا، بل إن وضعهم كان سيئا كما تقدم، وساء أكثر بعد إضراب عام ١٩٣٦، بسبب طرد الكثير من عملهم، وذلك لأنهم شاركوا في الإضراب، وساءت حالتهم أكثر حتى انتهاء الثورة عام ١٩٣٩، فترك قسم كبير منهم المدينة، ورجعوا إلى قراهم الأصلية.

في عام ١٩٤٤ أصبح تعداد سكان حيفا ما يقارب المئة وثمانية وعشرين ألفا، أغلبيتهم من اليهود الذين صاروا يشكلوا اثنين وخمسين بالمئة من عدد السكان.

عشية النكبة وفِي العام ١٩٤٧ وصل عدد اليهود إلى سبعين ألفا، وحافظوا على أغلبيتهم حتى تم طرد أكثر السكان العرب من حيفا بعد احتلالها، ولَم يبق فيها إلا ثلاثة آلاف وخمسمائة عربي.

رئاسة البلدية خلال هذه الفترة

عينت السلطات التركية حسن بيه شكري، رئيسا للبلدية عام ١٩١٤، ولكن بداية الحرب العالمية الأولى، أدت إلى توقف عمل البلدية حتى نهاية الحرب عام ١٩١٨، وعودته لترؤس المجلس البلدي، المكون من سبعة أعضاء، منهم يهوديان اثنان.

أيد حسن بيه شكري، المولود في دمشق من أصول قفقازية، وعد بلفور، واتهمه الأعضاء العرب بالتهاون مع المشروع الصهيوني في فلسطين، وتعاونه الكبير مع أعضاء البلدية اليهود من أجل تحقيقه، مما أدى بهم إلى توجيه رسالة حادة إلى حاكم منطقة حيفا، يبلغونه فيها أنهم لن يجلسوا مع رئيس البلدية مجددا، وأنهم يطالبونه بإقالة حسن بيه شكري من رئاسة البلدية. رفض حاكم المنطقة طلبهم، ولكن حسن شكري أصر على الاستقالة من منصبه، فقام العضوان اليهوديان بالاستقالة تضامنا معه، وسرعان ما تراجعوا عن ذلك بعد تعيين عبد الرحمن الحاج رئيسا، وكان هذا من مؤيدي الحاج أمين الحسيني، وكان معارضا ورافضا للمشروع الصهيوني، مما أدى إلى خسارته للانتخابات عام ١٩٢٧، بعد تغيير قانون السلطات المحلية، وذلك بسبب دعم اليهود للقائمة المنافسة له، وكان يقف على رأسها حسن بيه شكري، والذي انتخب لمدة سبع سنين، ثم انتخب مجددا عام ١٩٣٤، وبقي رئيسا حتى وفاته في بداية عام ١٩٤٠، ليخلفه نائبه شبتاي ليڤي الذي بقي رئيسا حتى بعد النكبة عام ١٩٥١.

لماذا قررت الثورة اغتيال حسن شكري

كما تقدم، أيد حسن شكري وعد بلفور، وكذلك قام بتهنئة هربرت صموئيل لتعيينه مندوبا ساميا، حيث قوبل تعيينه بالرفض القاطع من الشعب العربي الفلسطيني ليهوديته وتصهينه، خوفا على تمرير المشاريع الصهيونية المبيتة في فلسطين.

كما وأسس الجمعية الإسلامية الوطنية في حيفا، وكانت هذه الجمعية مؤيدة للانتداب البريطاني، ولَم تعارض الصهيونية ومشاريعها، وأيدت فكرة إقامة الدولة اليهودية.

كل هذا حصل في فترة رئاسته الأولى، وبعدها حتى بداية الفترة الرئاسية الثانية عام ١٩٢٧، حيث انتخب لرئاسة البلدية بتاريخ ٢١/٥/١٩٢٧، بعد حصوله على ١٨٩٣ صوتا لعضوية البلدية، ورغم حصول السادة نصر الله بك خوري (١٩٨٠ صوتا) وإبراهيم أفندي صهيون (١٩٠٠ صوتا)، على أصوات أكثر منه، إلا أن الأعضاء سموه رئيسا لأن الأعضاء اليهود كانوا من مؤيديه. (الأعضاء العرب الآخرون هم: جميل أفندي أبيض، أمين بك عبد الهادي، توفيق بك الخليل، الدكتور عثمان الخمرة وميخائيل أفندي توما).

حسن بيك شكري كان يعتبر نفسه مرشحا عن جميع أهالي حيفا، واليهود منهم، بل وكان يقوم بالدعاية الانتخابية بينهم كما حصل في ١٩/٤/١٩٢٧، حيث عقد اجتماعا انتخابيا في هدار هكرمل (حي اليهود)، ووعد في اجتماعه بتوفير العمل لهم، وفِي اجتماع آخر انتقد إدارة البلدية الحالية لأنها تهتم بتشغيل الوطنيين العرب، وقال في الاجتماع إنه لو كان رئيسا للبلدية لمنع ترك اليهود يتضورون جوعا.

أمام لجنة "شو" والتي انتدبتها بريطانيا بعد ثورة البراق، كعادتها بعد كل حدث في فلسطين، من أجل امتصاص نقمة العرب، أمام اللجنة عام ١٩٣٠، شهد حسن بيه شكري، وأخذ عليه أنه ادعى في شهادته، أن العرب ليسوا ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما وادعى أنه لا يعرف إذا كان أغلبية سكان فلسطين هم من اليهود أو العرب، وقسم اليهود إلى متطرفين يريدون تحويل فلسطين إلى دولة يهودية ومعتدلين يريدون الهروب من وضعهم في أوروبا إلى بلادنا والعيش بكرامة لا أكثر.

في عام ١٩٣٣، قام حسن بيه شكري يتغيير قانون توزيع المناقصات في البلدية، فحتى تلك السنة كان المقاولون العرب هم من يفوزون بالمناقصات فقط، ولكن شكري جعلها للعرب في الحارات العربية، ولليهود في الحارات اليهودية، وللسعر الأفضل في المناطق المختلطة، ضاربا بذلك عرض الحائط قرار المجلس البلدي في نهاية حزيران/ يونيو ١٩٣٢، والذي رفض طلب الحكومة إعطاء ثلاثين في المئة من المناقصات لليهود.

لم تكتف رئاسة البلدية بذلك فحسب، بل صارت تفضل المتعهدين اليهود على العرب، ففي جلستها المنعقدة في ٢٠/٢/١٩٣٣، أحالت البلدية مناقصة إلى مقاولين يهود رغم أن سعرهم كان أعلى بإثني عشر في المئة من سعر المقاولين الوطنيين.

كما وإنه عين نائبا يهوديا له، وهو شبتاي ليڤي، وصار للأعضاء اليهود نفوذ كبير في البلدية، بحيث صارت البلدية تعاقب حتى من يوجه نقدا ليهودي يعمل في البلدية كما حصل مع فاحص الحسابات القانوني السيد فؤاد سابا، والذي استبدلته البلدية بآخر بريطاني، والسبب في إقالته كان انتقاده لمهندس يهودي يعمل في البلدية، في تقريره عن سنة ١٩٣١.

عام ١٩٣٤، أعيد انتخابه بدعم جارف من اليهود، ورفض قاطع من العرب، أما أعضاء البلدية الذين انتخبوا فهم: حسن بيه شكري، شبتاي ليڤي، عبد الرحمن الحاج، بدري العابدي، حنا عصفور، شحادة شلح، ميخائيل توما، رشيد الحاج ابراهيم، داڤيد هكوهين، بنحاس مرغولين ويوسف اردشتاين.

عام ١٩٣٦ لم يؤيد حسن بيه شكري الإضراب، ولكنه اضطر للمشاركة فيه، أو جعل موظفي البلدية يشاركون فيه، وذلك بعد ضغط شديد مورس عليه من قبل رؤساء المجالس البلدية الأخرى، ولكنه سرعان ما أعادهم إلى العمل مجبرين، وهدد بالفصل كل من تسول له نفسه المشاركة بالإضراب، ولذلك قام الأعضاء العرب بتقديم استقالتهم الجماعية لرئيس البلدية، وكذلك بسبب سيطرة اليهود على الوظائف المركزية في البلدية، وذلك في أيار / مايو عام ١٩٣٦. كان جواب بريطانيا حازما فقررت تعيين تسعة أعضاء للبلدية من اليهود والإنجليز، وأبقت على شكري رئيسا للجنة المعينة، وأبقت على نائبه ليڤي.

كل هذه الأمور مجتمعة، جعلت من رجالات الثورة يقررون اغتياله، متهمين إياه بتفضيل الصهاينة على العرب، وتحويل مؤسسة يراد لها أن تكون وطنية إلى أداة في يد بريطانيا والصهاينة.

محاولة اغتيال حسن شكري

يوم الإثنين الموافق للحادي عشر من أيار /مايو ١٩٣٧، ألقيت قنبلة على أحد شبابيك بيت حسن شكري الواقع في شارع الناصرة. كان الانفجار قويا لدرجة أنه سمع في حارة هدار هكرمل، كما شهد اليهود القاطنون هناك، وبسبب قوة الانفجار، قطعت كوابل الكهرباء القريبة من البيت، وتكسر زجاج العديد من البيوت القريبة.

كان حسن شكري متواجدا داخل منزله، هو وعائلته في غرفة داخلية، مما منع حدوث إصابات في الأرواح. وكان قد دب الرعب في قلوبهم من حجم الانفجار الذي هز المنزل، ولكنهم لم يصابوا باي أذى.

قدمت الشرطة مسرعة إلى المنزل، وبعد تحقيق من خبراء المتفجرات، وصلوا إلى قناعة أن صانع هذه القنبلة هو نفس الشخص الذي صنع القنبلة التي ألقيت في نهلال نهاية العام ١٩٣١، والتي أدت الى قتل يعكوبي بندر وابنه. وكنت قد ذكرت هذه الحادثة في الحلقة الثانية بعنوان "عملية نهلال"، والتي نفذت على يدي جماعة القسام، وكان صانع القنبلة هو أحمد الغلاييني الحيفاوي، والذي كان عام ١٩٣٧، مسجونا في سجن عكا.

في نفس اليوم قام قائد شرطة الشمال مستر مكونيل ونائب حاكم منطقة حيفا بزيارة لبيت شكري، وهنآه بالسلامة، وأبلغاه بتهنئة المندوب السامي لنجاته من الموت.

بتاريخ ٢٢/١/١٩٣٧، حاول الثوار مرة اخرى اغتياله، بواسطة إطلاق النار عليه عندما ترجل من سيارته صباحا، بجانب مبنى البلدية، وقبل أن يدخل من باب البناية، أطلقت عليه عدة رصاصات، ولكنهم لم ينجحوا في إصابته. هذه المرة اصدر المستر سبايسر مدير الأمن العام إعلانا وضع فيه جائزة مالية ضخمة لكل من يبلغ عن محاولي اغتيال حسن بيه شكري، وكانت قيمة الجائزة ٥٠٠ جنيه فلسطيني.

استمر حسن شكري في منصبه رئيسا البلدية، رغم انعزاله بعد محاولة الاغتيال الثانية، وانتقاله للعيش في "هدار هكرمل" كما نصحه أصدقاؤه اليهود، خوفا من محاولة ثالثة تقضي عليه، واستمر رئيسا حتى وفاته بمرض السرطان في ٢٨/١/١٩٤٠، وخلفه شبتاي ليڤي رئيسا بقرار بريطاني.

مناوشات ومعارك ونزوح سكاني

ابتدأت مناوشات معركة حيفا منذ نهاية عام ١٩٤٧، فمنذ إعلان قرار التقسيم، ابتدأ الطرفان العربي والصهيوني، بتحضير العدة والعتاد لمعركة فاصلة، ولكن الفرق كان يكمن في أن "الهاغاناه" و"الإيتسل" كان لديهم أكثر من خمسة آلاف جندي، مدججين بأحدث أسلحة تلك الأيام، من مدافع رشاشة ومصفحات ومدرعات حديثة، بينما العرب وفِي أحسن حالاتهم، لم يتجاوز مقاتلوهم الأربعمئة مجاهد، مزودين بأسلحة في أغلبها خفيفة من بنادق قديمة، وبعض المدافع الرشاشة.

ابتدأت المعارك بعملية قامت بها عصابة "الإيتسل"، حيث هاجمت عمالا عربا في مدخل مصانع مصافي البترول مما أدى إلى مقتل ستة عمال، وذلك في الثلاثين من كانون أول/ ديسمبر. ١٩٤٧. ردا على هذا الهجوم قام العرب بهجوم على العمال اليهود في نفس المكان، مما أدى إلى قتل تسعة وثلاثين يهوديا، فقامت "الهاغاناه" بهجوم على بلد الشيخ وحواسة، وقتلت الكثير من العرب.

وفِي ١٤ كانون ثانً/ يناير ١٩٤٨، قام العرب بتفجير سيارة مفخخة بيهود في محطة باص، فقامت "الهاغاناه" بتفجير مقهى عربي وقتلت ثلاثة عرب. وفي السادس عشر من الشهر نفسه، قام اليهود بنسف عمارة بشير المغربي، فقتل الكثير من الأطفال والنساء في الانفجار. في الوقت ذاته أمرت قيادة الجيش العربي السريتين الأردنيتين المرابطتين في حي "النبي شأنان" و"بات چاليم" إلى الانسحاب من المدينة، وبانسحاب هذه القوات أصبحت الأحياء العربية في حالة الخطر، خاصة الحليصة، القريبة من هدار هكرمل، حي اليهود المركزي.

في ٢٩ كانون ثان / يناير قام اليهود بدحرجة برميل متفجر إلى حي العباسية، فانفجر انفجارا كبيرا أدى إلى مقتل الكثيرين، ونزوح سكان الحي العرب في اليوم التالي.

في ١٧ آذار / مارس، هاجم اليهود قافلة أسلحة للعرب قادمة إلى حيفا، حيث كان الهجوم على مقربة من مستعمرة "موتسكين"، ودارت معركة بين الطرفين استشهد فيها، قائد القوات العربية في حيفا، محمد الحمد الحنيطي، وفجر أحد المناضلين وهو سرور برهم نفسه والسيارة التي تحمل متفجرات، مما أدى إلى استشهاده، ومقتل عدد من اليهود. بالإضافة له وللقائد حنيطي استشهد اثنا عشر مقاتلًا وسائقا، وشكلت هذه المعركة ضربة قوية للعرب، حيث فقدوا الإمدادات المتوجهة اليهم، وهم في وضع حرج.

وهكذا استمرت هذه العمليات، وكانت أكبرها في ٢٢ آذار/ مارس ١٩٤٨، عندما وضعت "الهاغاناه" سيارة مفخخة بسبعمائة كيلوغرام من المتفجرات في شارع العراق، والتي أدى انفجارها إلى هدم عدة بيوت، ومقتل عدد كبير من العرب.

ساء الوضع في حيفا، وسادت الفوضى، وكثر السلب والنهب، الذي شارك فيه جند بريطانيا والعرب. إذ أن كثرة المعارك بين العرب واليهود، أدت إلى نزوح أكثر من عشرين ألفا من العمال العرب عن المدينة، والعودة إلى قراهم الأصلية، كما وتركها بعض العائلات العريقة إلى لبنان خوفا من الحرب.

المعركة الفاصلة وسقوط حيفا

اشتد القتال في حيفا، بعد منتصف شهر نيسان / أبريل، إذ أن بريطانيا كانت قد أبلغت القيادات الصهيونية وممثلي "الهاغاناه" عن نيتها الانسحاب من حيفا، في خطوة ادعي بأنها من أجل تقليص انتشارها في المدينة، حتى لا يشكل القتال الدائر بين العرب واليهود، على خطتها في الانسحاب من فلسطين في منتصف أيار / مايو كما كان مخططا. حيث كان قائد الجيش البريطاني في حيفا، الجنرال هاچ ستوكويل يتقابل بانتظام مع المحامي يعكوڤ ليڤشيتس، ممثل "الهاغاناه"، وهاري بيلين ممثل القسم السياسي للوكالة الصهيونية، وآبا حوشي سكرتير "منظمة عمال حيفا اليهود" (تابعة للهستدروت)، وأخبرهم عن خطتهم تقضي بأن ينسحبوا إلى مقر القيادة المركزية في "ستيلا مارس"، ليس قبل أن يؤمنوا الأماكن الحساسة، مثل الميناء ومقر الشرطة المركزي ومحطة القطار المركزية والمطار ومصافي البترول، وذلك بتحويل السيطرة عليها إلى قوات "الهاغناه"، وقررت ساعة الصفر في صباح يوم الحادي والعشرين من نيسان / أبريل، على أن تنهي بريطانيا إعادة الانتشار في الساعة السادسة صباحا، وهذا ما كان، بينما كان العرب في غفلة من أمرهم.

تحضرت "الهاغاناه" والقوات التابعة لإمرتها لهذه اللحظة الحاسمة، فقامت برفع وتيرة المعركة، بواسطة دفع قوى أكثر لمهاجمة الأحياء العربية، وابتدأ الهجوم الكبير في التاسع عشر من الشهر، في الساعة الواحدة صباحا، بقصف عنيف بالمدافع وقاذفات الألغام، ولَم يستطع العرب من خارج حيفا أن ينقذوا إخوانهم، حيث أغلقت بريطانيا مداخل المدينة، لمنع وصول الإمدادات إلى العرب، خوفا على خطتها المبيتة بالانسحاب وإخلاء الطريق لـ"الهاغاناه" بالسيطرة الكاملة على المرافق الحيوية للمدينة. وكذلك قام الجنود البريطانيون في الأيام التي سبقت انسحابهم، بمصادرة ما استطاعوا من أسلحة المقاتلين العرب.

أما السرية الأردنية والتي تعد أكثر من سبعمائة جندي، فلم تتدخل، بسبب أوامر القيادة بأن التدخل يكون فقط بعد خروج بريطانيا من فلسطين.

في العشرين من نيسان/ أبريل، استطاع اليهود احتلال إدارة السكة الحديد المعروفة بدار سليم الخوري، وكانت عمارة مؤلفة من أربعة طوابق، شكلت لذلك خطرا كبيرا على الأحياء القريبة منها، إذ استعملها اليهود للقنص والرصد. ثم قام العرب بهجوم معاكس أدى بهم الى دحر القوات اليهودية من العمارة، فقام اليهود بدورهم بهجوم كبير على الأحياء الشرقية في الخامسة بعد الظهر من ٢١ نيسان / أبريل، فاحتلوا عمارة مجلس الإصلاح، وبعض المباني القريبة منها.

استمر اليهود في تقدمهم، وما أن أتى الليل، وإذا بالمدينة تشتعل فيها نيران المعارك في كل مكان، واستمرت كل الليل، بالمدافع الثقيلة والرشاشات وحتى السلاح الأبيض، إذ كان الطرفان يلتقيان أحيانا، فيستعملون الأسلحة الخفيفة، والسلاح الأبيض والعصي وغيرها.

أصبح صباح اليوم التالي، الخميس، الموافق الثاني والعشرين من الشهر، والإعلام الصهيونية ترفرف على عمارة سلام في شارع اللنبي، والجماهير العربية مجتمعة في كنيسة الموارنة وكنيسة الكرمليت في ساحة الخمرة، والمساجد في السوق، وفِي كنيسة المخلص، وراهبات يوحنا، وكنيسة مار يوحنا الإنجيلية في وادي النسناس.

وهكذا سقطت حيفا، والعرب في غفلة من أمرهم.

النزوح من المدينة

لم يراعِ اليهود "نبل" المعاملة التي حظوا بها من العرب، على مدار عشرات السنين، وعلى رأسهم رئيس بلدية حيفا المرحوم حسن بيه شكري، بل إن جماعة نائبه شبتاي ليڤي أي الصهاينة، صاروا يقصفون العرب الذين خرجوا من بيوتهم خوفا من القصف، وأعملوا القتل وإطلاق الرصاص في الكنائس والجوامع، بدون مراعاة لحرمتها الدينية، وذلك لإخراج العائلات العربية منها.

وازدحم شارعا منصور وعصفور بجمهور كبير من المواطنين، الذين تمكنوا من الهروب من شارع سليم خوري والوادي، حيث المعارك الكبيرة، وانطلق الناس إلى شارع عباس والكولونية الألمانية حيث لا قصف ولا قتل، وصاروا ينتقلون بأمتعتهم إلى الميناء، ينتظرون من ينقلهم إلى عكا، فكان أن أحضرت بريطانيا زوارقها، وصارت تجليهم عن المدينة، في نهاية محزنة لمؤامرة كبيرة توجتها بريطانيا في هذا اليوم.

في الساعة الثالثة والنصف من ٢٢ نيسان/ أبريل، وقع الوفد العربي المكون من: فريد سعد، فيكتور خياط، أنيس نصر، الشيخ عبد الرحمن مراد، إلياس كوسا، أحمد أبو زيد وجورج معمر، على شروط الاستسلام، مع الوفد الصهيوني برئاسة شبتاي ليڤي، وعضوية المحامي يعكوڤ سلمون والمحامي ليفشتنر وحلفون ورجل مخابرات من "الشين يود".

وبهذا سقطت عروس البحر في براثن الحركة الصهيونية، ليس قبل أن يستشهد المئات من أبناء شعبنا الذي سقوا ترابها بدمائهم الزكية.

التعليقات