11/04/2018 - 14:40

دور "اليسار الصهيوني" في المشروع الكولونيالي ونكبة فلسطين

عمليات الطرد لم تبدأ في عام 48، وإن كانت النكبة هي نقطة تحول مفصلية في الصراع ما بين الحركة الصهيونية وبين الحركة الوطنية الفلسطينية، فأنا أرى صيروة الاستيطان المتدرج إلى أن وصل إلى النكبة

دور

* حركة "هشومير هتسعير" مارست العنف لطرد الفلاحين الفلسطينيين وإقامة الكيبوتسات

* الكيبوتس في السياق الاستعماري شكّل وسيلة للتطهير العرقي

* طرد الفلسطينيين من أرضهم وإحلال مهاجرين مكانهم بدأ قبل النكبة واستمر بعدها


شكلت "الكيبوتسات" منذ مطلع القرن العشرين أداة استعمارية استيطانية بأيدي الحركة الصهيونية في السيطرة على الأرض الفلسطينية وإحلال المهاجرين اليهود محل السكان الأصليين بعد طردهم منها، وكانت في هذا السياق ليست فقط مؤسسة زراعية بل مؤسسة عسكرية تربي وتزرع في أفرادها الروح "القتالية" وتدربهم على حمل السلاح.

وساهم التزاوج المذكور بين الاستيطان والعسكرة في ازدياد أعداد "الكيبوتسات" نسبة إلى "الموشافيم" خلال وبعد ثورة 36 ، بعد أن كانت الميزان يميل لصالح "الموشافيم"، التي لا تتسم بالصبغة العسكرية، قبل تلك الأحداث.

وقد لعبت "الكيبوتسات" دورا بارزا في المنظمات العسكرية الصهيونية، وخاصة "الهاغاناه" حيث تفيد "موسوعة الصهيونية وإسرائيل" أن كل عناصر "الكيبوتسات" كانوا أعضاء في "الهاغاناه"، بينما أتى منها عدد كبير من ضباطها، ويعزى ذلك إلى بنية "الكيبوتس" ونظامه اللذين يتقاطعان في نواح كثيرة مع مبنى التنظيم العسكري، فأعضاء "الكيبوتس" ليسوا مرتبطين ببنية أسرية تقليدية، وغير مطلوب منهم توفير الرزق لعائلاتهم، ولا تربطهم أواصر صداقة مع أحد، ويمكن استدعاؤهم للخدمة العسكرية كلما وحيثما دعت الحاجة لذلك، كما أن معظمهم كانوا شبانا في سن الخدمة العسكرية، وليس بينهم أطفال أو عجائز.

وفي حين تتنوع تشكيلات "الحركة الكيبوتسية" فإنها تنقسم بين مرجعيتين سياسيتين، هما حزب "مباي" الذي قاده بن غوريون وحزب "مبام" الصهيوني اليساري، الذي تعود جذوره إلى حركة "هشومير هتسعير" الاستيطانية، التي ساهمت في تأسيس عشرات "الكيبوتسات".

تأسست حركة " هشومير هتسعير" في العام 1927 وهي خليط بين الصهيونية و"الاشتراكية"، دمجت بين المشروع الاستيطاني والعمل الجماعي في المجالين السياسي والعقائدي.

في العام 1948 اتحدت الحركة مع تياريين صهيونيين يساريين إضافيين هما "أحدوت هعفودا" و"المنظمة الاشتراكية"، وأقاموا سوية حزب "مبام".

د. أريج صباغ - خوري قامت بدراسة الدور الإستعماري الاستيطاني لـ"اليسار الصهيوني" من خلال "كيبوتسات "هشومير هتسعير" في منطقة مرج ابن عامر ما بين السنوات 1936 –1956 وسيصدر بحثها في قريبا في كتاب باللغة العبرية عن دار نشر "هكيبوتس هميئوحد" ومعهد "فان لير" وبالإنجليزية عن دار النشر التابعة لجامعة ستانفورد.

عشية الذكرى السبعين للنكبة حاورنا د. صباغ- خوري حول موضوع بحثها، الذي تتداخل فيه "الصهيونية" و"الاشتراكية" و"اليسار" و"الاستعمار" في حالة كولونيالية فريدة، نجحت لهذا السبب، ولأسبابأاخرى، بالحصول على مباركة قطبي العالم المنقسم في حينه بين يسار ويمين واشتراكي ورأسمالي، وانتزاع تأييده لاستعمارها لأرض فلسطين.

عرب 48: كلنا يعرف أن خلف اليافطة "اليسارية" الكبيرة لحزب "مبام"، يختبئ مشروع استعماري استيطاني يتمثل بعشرات "الكيبوتسات" التي أقيمت على الأرض الفلسطينية، وشكلت إحدى الركائز الأساسية للصهيونية، هل نجحت بتفكيك هذا التناقض؟

صباغ-خوري: الموضوع ليس سهلا، ويتطلب تحليل مفهوم اليسار في سياق استعماري، فحركة "هشومير هتسعير" هي حركة يسار صهيونية تبنت "الاشتراكية" وفكرة "ثنائية القومية" (بصيغة محدودة) ونادت بـ"أخوة الشعوب"، ومع ذلك أقامت عشرات "الكيبوتسات" على الأراضي الفلسطينية وكانت شريكة في طرد الفلاحين من قراهم قبل وخلال نكبة عام 1948، التي وإن جرى شراؤها، في كثير من الأحيان، من إقطاعيين غائبين، فإن تتميم عملية البيع كان يتطلب موافقة الفلاحين وتعويضهم، وهو ما لم يتسن غالبا تحقيقه، حيث تمت السيطرة على الأراضي الذين قاموا بزراعتها إما بالتحايل أو بأدوات عنيفة، وأحيانا تحت رعاية قوات الأمن الاستعمارية البريطانية، من خلال تسييج الأراضي ومنع الفلاحين من استعمالها. وكان يتم الاستيلاء بشكل تدريجي على أراضي القرية، في البداية من خلال توطين مجموعة صغيرة من المستوطنين، على رقعة أرض صغيرة كانت تسمى "نقطة الصعود على الأرض" وبعدها التوسع بشكل تدريجي عبر الاستيلاء على أراض إضافية وإخلاء الفلاحين منها، وجلب عدد أكبر من المستوطنين مع عائلتهم والإعلان عن إقامة الكيبوتس".

عرب 48: تقصدين أن القانون كان يعطي للمزارعين الذين فلحوا الأرض حقوقا تصبح معها عملية الشراء من الإقطاعي غير كافية لتملكها، ولذلك يتم اللجوء إلى تلك الأساليب؟

صباغ-خوري: نعم، وفي هذا السياق هناك تاريخ من المواجهات العنيفة السابقة للنكبة، بين أفراد الحركة الصهيونية التي أرادت الاستيلاء على الأرض، وإقامة المستوطنات عليها، كركائز لمشروعها الاستعماري الاستيطاني، وبين الفلاحين الفلسطينيين الذين دافعوا عن أرضهم التي كانوا يزرعونها لسنوات عديدة ولهم حقوق عليها فتمسكوا بها، أحيانا، في ظل غياب قيادة وطنية فلسطينية منظمة بشكل قوي، مقارنة مع الحركة الصهيونية. هذا الصراع كان يأخذ أشكالا عنيفة تستعمل فيه الحركات الاستيطانية الصهيونية وخاصة الحركة " الكيبوتسية" وفي حالتنا "هشومير هتسعير" وسائل العنف لطرد الفلاحين.

عرب 48: ما تقولينه إن عمليات طرد الفلسطينيين وتشريدهم من أرضهم بدأت قبل الـ 48؟

صباغ-خوري: نعم، لقد استعملت "الكيبوتسات" التي شكلت إحدى أدوات الاستيطان، كونها إقصائية ومغلقة، أساليب طرد العرب الذين رفضوا إخلاء الأرض التي يفلحونها، وفي المنطقة موضوع البحث- مرج بن عامر وتحديدا منطقة بلاد الروحة التي بيعت بغالبيتها من قبل عائلة سرسق اللبنانية وعائلة خوري، تم إخلاء الفلاحين باستعمال كافة أشكال القوة، بما فيها الأسلاك الشائكة والتراكتورات وإطلاق النار لإجلاء الناس عن أرضهم، ويمكن أن نسمي هذه العملية استعمار بواسطة شراء الأرض.

لقد لاحظت كيف يبدأ، مثلا، طرد قرية بشكل تدريجي منذ عام 1937 لينتهي في شهر اذار 1948 وكيف يتضاءل عدد سكان قرية من 408 إلى 103 من خلال تتبع المسار من بداية عملية الاستيطان وحتى الطرد النهائي، وذلك بالاعتماد على أرشيف "الكيبوتسات" وأرشيف "الدولة" وأرشيف حركة "هشوميرهتسعير"، إضافة إلى أرشيفات أخرى تشكل بمجموعها ثماني أرشيفات إسرائيلية اعتمد عليها البحث.

عرب 48: وهل نجحت خلال البحث بتفكيك لغز التناقض القائم بين الأيديولوجيا والممارسة لدى تلك الحركة؟

صباغ-خوري: في السوسيولوجيا لا يكفي القول إن خطاب الحركة السياسي متملق، وأن هناك تناقضا بين النظرية والممارسة، بل يجب تبيان معنى هذا التناقض، ويجب التشديد في التحليل على الممارسة وتفكيكها. فمثلا اعترضت هذه الحركة في خطاباتها السياسية على الحرب وعلى طرد الفلسطينيين ولكن في الممارسة السياسية فقد سيطرت على أراضي الفلاحين الفلسطينيين ومن ثم على أراضي اللاجئين، وفي بعض الحالات كان أعضاؤها من بين المبادرين لطرد الفلسطينيين.

لقد قمت خلافا للأبحاث القائمة، والتي تعد بالعشرات، والتي ركزت على أيديولوجية هذه الحركة، بدراسة ممارستها على الأرض وعلاقاتها مع جيرانها العرب، ومن الجدير التنويه أن "الكيبوتس" فكرة جميلة لو أنها ليست في سياق استعماري، فهو مفهوم "نوستالجي" يقوم على الحياة الجماعية والمشاركة، ولكن في السياق الاستعماري في فلسطين هو عملية طرد للسكان الأصليين.

عرب 48: أنت تثبتين في بحثك أن عمليات الطرد والإجلاء بدأت قبل الـ 48 وأن النكبة كانت تتويجا لتلك العمليات؟

صباغ-خوري: نعم، عمليات الطرد لم تبدأ في عام 48، وإن كانت النكبة هي نقطة تحول مفصلية في الصراع ما بين الحركة الصهيونية وبين الحركة الوطنية الفلسطينية، فأنا أرى صيروة الاستيطان المتدرج إلى أن وصل إلى النكبة، التي تشكل حدثا مفصليا ومؤسسا وأداة الحرب المباشرة، رغم أن العنف والطرد بدأ قبل الـ 48.

في الكتاب أرصد نكبة فلسطين كصيرورة بدأت قبل عام 1948، مرورا بالنكبة-الحدث وبعدها من خلال الاستيلاء على أراضي وبيوت وأملاك اللاجئين.

الأيديولوجية الصهيونية السائدة تعاملت بالمبدأ القائل إنه "بالحرب كما بالحرب"، وهي تشدد على مسألة رفض العرب لقرار التقسيم كذريعة لتنفيذ عمليات القتل والتهجير، وفي الحقيقة إن المسألة لم تبدأ مع قرار التقسيم إنما مع الأيديولوجية الصهيونية التي اعتزمت إقامة وطن قومي استثنائي لليهود في مكان مأهول بالسكان الفلسطينيين.

عرب48: هل برأيك كان هناك خطة مبرمجة لطرد الفلسطينين عام 1948؟

صباغ-خوري: لم أخض في بحثي بهذا السؤال، هناك باحثون آخرون تطرقوا لهذه المسألة مثل إيلان بابي، ولكن بغض النظر فيما إذا كان لدى الصهيونية خطة مبرمجة لطرد الفلسطينيين، وهو السؤال الذي أشغل أيضا الباحثين الفلسطينيين لسنوات عديدة، فإن السؤال المحوري برأيي هو أن قيادات الحركة الصهيونية ومن بعدها دولة إسرائيل منعت عودة اللاجئين، ومنعت أغلبية أصحاب البلاد الأصليين من العودة، وأحلت مهاجرين مستعمرين محلهم، وتلك هي النقطة المركزية.

كان مهما لي ان أفهم صيروة الطرد، وماذا نعني بالممارسات الاستعمارية الاستيطانية، وكيف تم الاستيلاء على الأرض، وكيف نجحت حركة استيطانية مثل "هشومير هتسعير" بتصوير نفسها على أنها حركة يسارية في حين كانت شريكة في بناء سيادة استعمارية على حساب الفلاحين، بالرغم من أنها كانت تؤمن على سبيل المثال بالاشتراكية، وأن الأرض لمن يفلحها.

كذلك اهتممت بدراسة تمثيلات النكبة والذاكرة في "الكيبوتسات"، والقصة التي يسردونها لأنفسهم ولأولادهم حول علاقتهم مع جيرانهم العرب، وما حدث في عام 1948 واستيلائهم على أراضي وممتلكات جيرانهم، وهذا كان الجزء الآخر من البحث الذي يمكن من خلاله تفكيك مسألة "اليسار" في سياق استعماري.

عرب 48: في المنطقة التي تناولها بحثك "بلاد الروحة" هل بقيت قرى فلسطينية؟

صباغ-خوري: في الرقعة الصغيرة اللي اشتغلت عليها تم طرد سكان جميع القرى، ولكن بالمجمل بقي عدد صغير من القرى مثل البياضة والمشيرفة، ولكن ما أردت قوله هو أن التهجير مشروع بدأ مع بداية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وكانت الحرب أو النكبة إحدى أدواته. وفي الحقيقة هو صيرورة كانت الـ 48 نقطة مفصلية فيها، ولكنها بدأت قبل ذلك بكثير من خلال شراء الأرض والطرد التدريجي.

وفي هذا السياق من المهم فهم وتفكيك مسألة شراء الأراضي ومعنى شراء أراضي قرى كاملة بسياق استعماري، واخلاء سكانها منها، دون أن نعطي لمسألة بيع الأرض وغيرها من العلاقات العربية- اليهودية أكبر من حجمها بل رؤيتها في سياق الواقع الاستعماري الاستيطاني، علما أنه حتى عام 1948 لم تنجح الصهيونية بشراء سوى 8% من أرض فلسطين.

عرب 48: يجري التركيز كثيرا على عمليات بيع الأراضي في إطار السمسرة والعمالة، وفي سياق جلد الذات؟

صباغ-خوري: لقد استخدمت الصهيونية كل الأساليب لتحقيق مشروعها الاستعماري، بينما تعامل الفلسطينيون كأي شعب آخر يسكن في أرضه، وقاوموا بكل الوسائل، ولكنهم تصرفوا أيضا في بعض الأحيان ببساطة وعلى سليقتهم، فلا يمكن اعتبار كرمهم مع الجار سذاجة، ولا اعتبار أخطاء بضعة أفراد منهم خيانة شعب، خاصة وأننا ندرك جيدا أنه ليس بيع الأرض، الذي جرى من قبل الإقطاعيين أساسا، ولا "كرم الضيافة" هو الذي حسم نجاح المشروع الصهيوني وإقامة دولة يهودية في فلسطين.


د. أريج صباغ-خوري زميلة ما بعد الدكتوراه في مركز العلوم الإنسانية في جامعة "تافتس" 2017-2018، وباحثة مشاركة في مركز مدى الكرمل. أنجزت دراسة الدكتوراه في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة تل أبيب؛ وساهمت في العديد من فصول الكتب والمقالات حول المواطنة والذاكرة والجندر والكولونيالية الاستيطانية، وحصلت على العديد من الجوائز والمنح لإنجاز كتابها الحالي، ومن بينها جائزة فولبرايت لمرحلة ما بعد الدكتوراه للعام 2015-2016، وجائزة إبراهيم أبو لغد لدراسة ما بعد الدكتوراه في جامعة كولومبيا في العام 2015، وجائزة ما بعد الدكتوراه لباحثة مشاركة في دراسة فلسطين والدراسات الفلسطينية في جامعة براون للعام 2016-2017. وستباشر عملها كمحاضرة في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة العبرية في القدس في تموز/يوليو 2018.

التعليقات