70 عاما على النكبة: احتلال يافا (1/16)

بسبب هذا الحصار المضروب على يافا، أصبحت جزيرة عربية، داخل الدولة اليهودية، التي أقرها قرار التقسيم، ولَم يكن من السهولة إمدادها بالسلاح والعتاد من قبل العرب، الذين لم يستطيعوا أن يدافعوا عن مناطق أخرى، رغم أن خطوط إمداداتها كانت مفتوحة

70 عاما على النكبة: احتلال يافا (1/16)

الجزء الأول - انتفاضات يافا ١٩٢١، ١٩٢٩، ١٩٣٣


منذ الأول من نيسان / إبريل ١٩٤٨، والعمليات الصهيونية تسير حسب الخطط المرسومة لها، وتحقق العصابات الصهيونية بقيادة "الهاغاناه"، النصر تلو الآخر، فالأسلحة صارت متوفرة لاستمرار المعارك، وفتحت الطريق بين تل أبيب والحي اليهودي في القدس، وصدت القوات العربية التي هاجمت كيبوتس "مشمار هعيمك"، وفتحت الطريق حتى حيفا، ثم سقطت طبرية، وسيطرت عليها "الهاغاناه"، ثم سقطت حيفا الكبيرة، وأصبحت صفد في متناول اليد.

كانت خطة القيادة الصهيونية، تقضي بأن تعلن الدولة اليهودية، بالضبط في اليوم الذي أعلنته بريطانيا أنه سيكون يوم انسحابها من فلسطين، وتركها للصراعات العربية الصهيونية، على أن تضمن للمشروع الصهيوني أن يتحقق بواسطة منع الجيوش العربية من التدخل، ومنع وصول الأسلحة الكافية لأصحاب الأرض الأصليين من أجل صدّ الهجوم الصهيوني عليهم، وتسليم ما تستطيع من معسكراتها ومقراتها للصهاينة.

ولكن القيادة الصهيونية، كانت تخطط لتعلن الدولة المزعومة، بعد أن تكون قائمة على أرض الواقع، ولذلك ابتدأ هجومها حالا مع إعلان الأمم المتحدة قرار التقسيم، وكان الهجوم بمشاركة كل العصابات الصهيونية، مع تقسيم وظائف بينها، تمكن مشروعها من النجاح، مع التفاوت الشديد بالأدوار، حيث كان "للهاغاناه" نصيب الأسد من كل شيء، كونه التنظيم الأكبر، والمدعوم من بريطانيا، والقيادة الصهيونية الرسمية.

بالمقابل كان عدد محاربي "الإيتسل" أكثر من خمسة آلاف، وخاف زعيمهم مناحيم بيغن، أن تنتهي الحرب، دون أن يضعوا بصمات كبيرة عليها، وليس فقط أن يكتب التاريخ، أنهم أصحاب المهمات القذرة، كمذبحة دير ياسين، والتي نفذتها الإيتسل في صباح التاسع من نيسان/ ابريل، كما أنه لم يُؤْمِن بخطة الهاغاناه الرامية لاحتلال مناطق الدولة اليهودية المزعومة أولا، وبعد الانسحاب البريطاني من أرض فلسطين، يكون الهجوم على مناطق أخرى، بل إن تنظيمه كان يخطط لاحتلال المدينة الفلسطينية المزدهرة، والتي حاصرتها المستعمرات اليهودية، التي تحولت إلى مدن كبيرة، على رأسها تل أبيب، والتي بلغ عدد سكانها عشية النكبة أكثر من مئتي ألف نسمة، وبسبب هذا الحصار المضروب على يافا، أصبحت جزيرة عربية، داخل الدولة اليهودية، التي أقرها قرار التقسيم، ولَم يكن من السهولة إمدادها بالسلاح والعتاد من قبل العرب، الذين لم يستطيعوا أن يدافعوا عن مناطق أخرى، رغم أن خطوط إمداداتها كانت مفتوحة.

أراد مناحيم بيغن أن يحقق انتصارا كبيرا، وينهي المدينة التي تشكل خطرا على تل أبيب، ويوازن كذلك انتصارات الهاغاناه في مدينة حيفا. كذلك كان تنظيمه يتحرق شوقا للانتقام من يافا، وهي المدينة التي كانت متواجدة بقوة على خارطة نضال الشعب الفلسطيني، من أجل تحقيق مطالبه العادلة، فمنها انطلقت مظاهرات وإضرابات وانتفاضات كبيرة، كان لها أكبر الأثر على مسيرة الثورة الفلسطينية، نأتي على ذكرها في هذه الحلقة.

كل هذا أدى بالإيتسل إلى تنفيذ الهجوم على يافا، واحتلالها بسرعة، وذلك قبل موعد إعلان الدولة اليهودية.

أحداث يافا ١٩٢١

في الأول من أيار / مايو ١٩٢١، أختلف يهود تل أبيب فيما بينهم على الطريق التي على المظاهرة أن تسلكها، أعضاء "حزب العمال الاشتراكي العبري" المؤلف من الشيوعيين الروس، أرادوا للمظاهرة أن تدخل إلى يافا وتجول شوارعها، وذلك لدعوة العمال العرب إلى الثورة على المتمولين والأفندية العرب، وحثهم على التعاون مع العمال اليهود القادمين من أوروبا، لأنه حسب ما جاء في هتافاتهم لم يأتِ هؤلاء العمال لاضطهاد "اخوانهم" العرب، ولا لسرقة أماكن عملهم، ولذلك على عمال يافا العرب أن ينسقوا مع العمال اليهود، في المعركة ضد الأفندية العرب والإنجليز المستعمرين. اما أعضاء الحزب الصهيوني العمالي المركزي (أحدوت عڤوداه) فكانوا يريدون لها أن تكون مظاهرة تل أبيبية بحتة، تجول شوارع المدينة العبرية الناشئة (تأسست عام ١٩٠٩)، وألا تقترب من الأعداء المباشرين الذين يرفضون الصهيونية وأفعالها.

رفض الشيوعيون إلا أن يدخلوا إلى يافا، فاشتبك الطرفان الصهيونيان المتخاصمان فيما بينهما، واندفع المتظاهرون الشيوعيون إلى شوارع حي المنشية، فتصادموا مع شرطة الانتداب، وكان أغلب الشرطيين عربا، وكانوا قلة قليلة، مقابل الحشد الشيوعي المتحمس، فاشتد عليهم الهجوم من قبل الشيوعيين، خاصة بعد إطلاق النار من قبل المتظاهرين "الثورجيين"، مما حدا بعرب يافا المتواجدين أن يتدخلوا من أجل الدفاع عن رجال الشرطة العرب، فحصل صدام عنيف، أزهقت فيه الأرواح، فما كان من أهالي يافا إلا أن هبوا لنصرة إخوانهم.

في نفس الوقت، انضم للمناوشات حشد يهودي كبير، يضم أناسا يريدون الانتقام من العرب، وأن يردوا لهم صاعين مقابل الصاع الذي أصابهم في العام الذي سبقه في القدس، في أحداث النبي موسى، مما تسبب بحدوث انتفاضة يافية شاملة، ضد المستعمرات الصهيونية التي تأخذ الأرض العربية وتطرد أهلها منها، وضد وعد بلفور، وضد المندوب السامي الصهيوني هيربرت صموئيل المتحيز علنا لليهود، وضد الهجرة اليهودية، والقادمين الجدد الذين يسرقون الأرض والعمل ولقمة العيش.

انطلقت الشعارات من حناجر العرب تهتف بمطالبهم من أجل إنشاء حكومة وطنية في فلسطين، وخلال لحظات تحول الصدام إلى ثورة وطنية على الظلم والقهر، بقيت مستعرة من الأحد الأول من أيار/ مايو وحتى الجمعة، وامتدت إلى خارج المدينة.

وتركز غضب العرب في يافا، على رموز الصهيونية والهجرة اليهودية، فقاموا بمهاجمة "دار القادمين الجدد"، الذي كان يضم سبعين عائلة من القادمين الجدد، وعلى مجموعة "بيوت وارسو" التي بنيت من أجل إقامة عزبة زراعية صهيونية في يافا.

وخلال المواجهات قامت فئات صهيونية مسلحة باقتحام المنشية في يافا، وإطلاق النار على العرب، وقتل الكثير منهم، وهؤلاء كانوا جنودا بريطانيين يهودا، يتمركزون في صرفند، كما وقام الصهاينة بمهاجمة قرية العباسية المجاورة. وفِي المقابل شن العرب هجوما على مستعمرة ملبس (بيتح تكڤا)، وكان الهجوم يوم الخميس الموافق الخامس من أيار / مايو، وكان على رأس المهاجمين الشيخ المناضل شاكر أبو كشك، والذي كان عمره وقتها لا يتجاوز السبعة عشر عاما، وكان قد جمع شباب العشيرة في الديوان، وشرح لهم خطته بالهجوم على بيتح تكڤا، التي تتوسع على حساب أراضي عشيرة "أبو كشك"، ويستفز سكانها المسلحون أهالي العشيرة والقرى المجاورة.

وافق الشباب على خطته بالهجوم، وكانوا يعدون بالمئات بعد مشاركة عدد من سكان نابلس والشمال معهم، وعند اقترابهم من المستعمرة، نجحوا بقنص الخيالة اليهود المدافعين عنها، فقتلوا منهم، واضطروهم إلى الانسحاب، ولكن جنودا بريطانيين قدموا بسيارات مصفحة وصاروا يطلقون الرصاص الكثيف على العرب، مما أدى إلى استشهاد أكثر من عشرين مجاهدا، ثم حلقت طائرة بريطانية في الجو، وأطلقت النار من مدفع رشاش مما أدى إلى استشهاد المزيد من العرب، وانسحب المهاجمون العرب من حيث أتوا.

في ليلة السادس من أيار / مايو، انطلقت من طولكرم مجموعة كبيرة من المناضلين، وهاجمت الخضيرة اليهودية، وحدث اشتباك مع الحراس اليهود للمستعمرة، واستمر القتال حتى الحادية عشر والنصف صباحا، حيث قدمت طائرة بريطانية، وألقت القنابل على العرب، ثم عادت بعد ساعة أو اكثر وألقت القنابل مرة أخرى، مما أدى إلى انسحاب المهاجمين وانتهاء الهجوم.

وفِي يوم الجمعة أيضا، هاجم العرب مستعمرة "رحوبوت"، وكانوا قد قدموا من الرملة، بعد أن احتفلوا بمناسبة عيد النبي صالح، فاستشهد منهم البعض وانتهت المعركة بعد الظهر.

نتائج أحداث عام ١٩٢١

سقط من الصهاينة والبريطانيين ٤٧ قتيلا، وجرح ١٤٦، بينما دفع العرب ثمنا باهظا إذ استشهد في الأحداث والمعارك ٤٨ شهيدا، وجرح أكثر من ٧٠٠. ثم قامت بريطانيا بتشكيل محاكم عسكرية ضد العرب، فغرمت كل من طولكرم وقلقيلية وقرية قاقون بغرامة قيمتها ستة آلاف جنيه فلسطيني لكل واحدة. وأحرقت بيت الشيخ شاكر أبو كشك، وغرمته بمبلغ كبير، وحكمت عليه بالإعدام شنقا، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.

ثم قامت بريطانيا بتعيين لجنة ملكية لتقصي الحقائق، كعادتها بعد كل حدث كان يجري فلسطين، وكان اسم اللجنة لجنة "هايكرافت" على اسم رئيسها، سير توماس هايكرافت، والذي أصبح فيما بعد كبير قضاة المحكمة العليا في فلسطين. أما أعضاءها الآخرين فهم: هاري لوك مساعد حاكم القدس، وج. ن. ستوبس من الإدارة القضائية، وعارف باشا الدجاني وإلياس أفندي مشبك ود. مردخاي إلياش ممثلا عن اليهود.

نشرت اللجنة تقريرها في تشرين اول / اكتوبر عام ١٩٢١، وحولت عنوان تحقيقها من "اضطرابات يافا ١٩٢١" إلى "اضطرابات فلسطين مايو ١٩٢١"، وهذا يعني أن تحقيقها شمل الوضع برمته، وليس ما حدث في يافا فقط.

خلصت اللجنة إلى النتائج الآتية: المندوب السامي الحالي هو صهيوني، وحكومة الانتداب تبنت موقفا مع إقامة الوطن القومي لليهود، متجاهلة العرب. الهيئة الاستشارية الرسمية للحكومة في فلسطين تضع مصالح اليهود، فوق مصالح العرب. نسبة اليهود في حكومة الانتداب أعلى بكثير من نسبتهم من السكان في فلسطين. المهاجرون اليهود يشكلون خطرا اقتصاديا على العرب في البلاد. يقوم المهاجرون الأوروبيون بإيذاء العرب بغطرستهم وسخرهم من العادات الاجتماعية العربية. البلاشفة اليهود تسببوا بحدوث فوضى اجتماعية واقتصادية في فلسطين. البرنامج الصهيوني يهدف إلى إغراق البلاد بالأشخاص ذوي القدرات العالية تنظيميا وتجاريا، ولذلك ستكون لهم اليد العليا في الدولة.

بعد هذه النتائج، قام ونستون تشرتشل بإصدار الكتاب الأبيض الأول وذلك بتاريخ ٢٤ تموز/ يوليو ١٩٢٢، والذي تضمن ثلاثة نقاط أساسية، الأولى تقول إن بريطانيا ملتزمة بمشروع وعد بلفور، والثانية تشدد على أن الهجرة اليهودية ستستمر إلى فلسطين، ولكن ليس إلى درجة لا تستطيع البلاد تحملها، أما الثالثة فتتضمن قرارا بسلخ شرق الاْردن عن فلسطين، وإقامة مملكة مستقلة يصبح الأمير عبد الله ملكها.

رفض العرب الكتاب الأبيض، لأنه يشدد على تنفيذ وعد بلفور بإقامة دولة يهودية في فلسطين، أما اليهود بزعامة حاييم وايزمان فقد قرروا الموافقة على الكتاب الأبيض مع تحفظات لأن الأرض التي ستنشأ عليها الدولة اليهودية، لن تتضمن شرق الاْردن كما وعدوا سابقا.

في السابع عشر من كانون ثانٍ / يناير ١٩٢٣، وفِي تمام الساعة الخامسة والربع صباحا، قامت "الهاغاناه" باغتيال قائد شرطة يافا في أحداث ١٩٢١، وهو الضابط توفيق بيه السعيد، في بيته الكائن في حي "نڤي شالوم"، حيث اعتبرته مسؤولا عما جرى في يافا، مع أن شهادته أمام اللجنة المذكورة أعلاه، تؤكد أنه لم يكن بالمرة في حي المنشية.

يافا وثورة البراق عام ١٩٢٩

لم تكن يافا مركزا لأحداث ثورة البراق في نهاية آب/ أغسطس ١٩٢٩، ولكنها رفضت إلا أن تكون جزءًا من نضال شعبها الفلسطيني، ففي يوم الأحد الموافق ٢٥ آب / أغسطس عام ١٩٢٩، تجمع آلاف المتظاهرين بعد انتهاء الصلاة في جامع حسن بيك، وانطلقوا باتجاه أحياء تل أبيب بغرض اقتحامها، وكان الهجوم يتركز ناحية حي " كيرم كرتون" وحي "ناڤي شالوم" وحي "كيرم تيمنيم"، والأحياء "نڤي شأنان" و"هعوڤيد" و"شابيرا".

كان العدد كبيرا على رجال عصابات الهاغاناه المسلحين في تل أبيب، ولَم يكن باستطاعة هؤلاء أن يصدوا السيل الهادر والغاضب من المتظاهرين، ولكن قوة بريطانية، بقيادة ضابط يدعى رايس، وقفت في وجه العرب، ومنعتهم من التقدم بواسطة إطلاق النار الكثيف باتجاههم، مما أدى الى استشهاد ستة متظاهرين وجرح العشرات، فانسحب الباقون الى داخل يافا، بسبب كثافة النيران، ثم حاول بعض العرب اقتحام دائرة حاكم اللواء، إلا أن سيارات بريطانية مصفحة تصدت لهم، وأطلقت النار في الهواء، مما أدى إلى تفرق المتظاهرين. وفِي المنشية حصل صدام بين الشرطة البريطانية والجموع المنتفضة، فاستشهد ثلاثة وجرح أربعة وعشرون.

لم يتوقف العرب هنا، بل استمروا بتبادل إطلاق النار مع الصهاينة المدافعين عن تل أبيب، واعتمدوا قنصهم من داخل يافا، فسقط سبعة من الصهاينة وجرح العشرات.

في نفس اليوم، دخلت سيارة من تل أبيب إلى يافا، محملة بأربعة من مسلحي الهاغاناه، وتوغلت السيارة داخل أحيائها، بادعاء محاولة إخراج بعض العمال اليهود العالقين في مصنع "ليسپيرت" في حي "أبو كبير"، ويخافون الرجوع إلى تل أبيب، ولكن المتظاهرين استطاعوا التعرف على السيارة، فأطلقوا النار باتجاهها مما أدى إلى مقتل أربعة رجالات الهاغاناه.

في اليوم التالي حضرت من مصر عن طريق القطار، قوة من كتيبة "سوث وايلز بوردررز" من أجل حماية تل أبيب والمستعمرات الصهيونية المجاورة لها، وكذلك نزلت قوة من سلاح البحرية الملكية، من سفينة (طرّاد) تدعى "ساسكس"، إلى بر يافا، وطوقوها لمنع اليافيين من الاقتراب من تل أبيب. (اقرأ المزيد عن ثورة البراق واحداثها في الحلقة العاشرة من هذه السلسلة بعنوان "انفجار الغضب ١٩٢٩".

إعلان الإضراب العام في ١٣ أكتوبر ١٩٣٣

في عام ١٩٣٣، وصلت الهجرة الصهيونية أوجها، إذ بلغت عشرات الآلاف كل سنة، وازداد جشع الحركة الصهيونية ومؤسساتها من أجل السيطرة على الأرض الفلسطينية، وزاد تعاون الإقطاعيين معها، أي الحركة الصهيونية، وصارت حكومة الانتداب تجلي الفلاحين عن أراضيهم بالقوة، بعد أن باعها الإقطاعي، كما حدث مع عرب الحوارث الذين طردوا بالقوة من مرج ابن عامر عام ١٩٣٣، إذ أن "آل التيان" العائلة اللبنانية، كانت قد باعته للحركة الصهيونية عام ١٩٢٩. وكذلك أجلي عرب الزبيدات عن أراضيهم في قرية الحارثية، بعد أن باعها أصحابها الإقطاعيون للحركة الصهيونية. واستعملت الشرطة البريطانية النار من أجل إخراج عرب الزبيدات من أراضيهم بالقوة، مما أدى إلى استشهاد مزارع وجرح البعض. هذان الحادثان فقط أديّا إلى تجريد أكثر من ٢٥٠٠ مزارع من وسيلة عيشهم الوحيدة.

في المدن، أصبح اليهود يسرقون للعربي مكان عمله، إذ أن الصهاينة صاروا يسيطرون على الحركة الاقتصادية لعدة مدن كبرى، مما أدى إلى تنظيم الكثير من الإضرابات العمالية، ضد سياسية القهر والتمييز والحرمان من لقمة العيش، حتى أن عددها بلغ حوالي ثلاثين إضرابا عماليا في الثلاث سنوات التي سبقت العام ١٩٣٣.

كل هذا أدى باللجنة التنفيذية العربية، والتي كانت تقود الحركة القومية العربية في فلسطين، أن تعقد اجتماعا لها في الثامن من تشرين أول / أكتوبر عام ١٩٣٣، وحضر الاجتماع ٢٢ عضوا، بحضور رئيسها السيد موسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس، ونائب الرئيس الوجيه يعقوب أفندي فراج، وبعد أن بحثت أمر الهجرة الصهيونية وأخطارها، وتكلم الحضور جميعا بشأن بيع الأراضي لليهود، وحالة العرب الاقتصادية المزرية بسبب تدفق الأعداد الهائلة من اليهود إلى فلسطين، وانتزاع اليهود للأراضي وأماكن العمل، قرر المجتمعون إعلان الإضراب العام "برا وبحرا" في أنحاء فلسطين، وذلك يوم الجمعة الموافق للثالث عشر من تشرين أول / أكتوبر، وأصدرت بيانا هذا بعض من نصه: "إظهارا لسخط الأمة العربية الفلسطينية - التي عملت منذ أن ابتليت بالاستعمار البريطاني لأجل إيصال صوتها إلى ضمير العالم المتمدن- من عبث الحكومة البريطانية بحقوق أصحاب الأرض، وتحديها عواطفهم الوطنية واستهتارها بكيانهم القومي، ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، بفتحها أبواب البلاد للهجرة اليهودية، وتسهيلها انتقال أراضي العرب إلى اليهود، واستبدادها بالحكم المباشر، فقد قررت اللجنة التنفيذية دعوة الأمة الكبيرة إلى الإضراب العام، برا وبحرا، في يوم الجمعة الواقع في ١٣ تشرين الأول ١٩٣٣، وأن تقام مظاهرة كبرى في القدس بذلك اليوم، على أن تبدأ المظاهرة الساعة الواحدة ظهرا، من باب الحرم الشريف المعروف بباب القطانين، إلى كنيسة القيامة ومنها إلى باب الخليل عن طريق سويقة علوان فدار البريد فباب العامود.....".

مظاهرة القدس الكبرى في ١٣ أكتوبر ١٩٣٣

لبى الشعب قرار اللجنة التنفيذية، فعم الإضراب أنحاء فلسطين، وكان شاملا برا وبحرا كما أرادت له اللجنة أن يكون، وفِي بعض الأماكن انطلقت مظاهرات محلية صغيرة، حيث أن الجميع كان قد توجه إلى مظاهرة القدس الكبرى.

منذ ساعات الصباح الباكر، انطلقت الجماهير إلى الحرم الشريف، من أجل المشاركة بالمظاهرة، وكانت الشرطة البريطانية وجندها، متواجدين بكثافة كبيرة، خاصة عند باب الخليل، ورابطت قوات كبيرة في شارع يافا.

اجتمعت اللجنة التنفيذية في الصباح، وذلك في دار المجلس الإسلامي الأعلى، وقررت تغيير مسار المظاهرة على أن تبدأ من باب السلسلة بدل باب القطانين، وتسير في البلدة القديمة إلى الباب الجديد، بدل باب الخليل، منعا للصدام مع الجند البريطاني.

انطلقت المظاهرة بعد صلاة الظهر مباشرة، وكان يتقدمها الرئيس موسى كاظم باشا الحسيني، وأعضاء اللجنة التنفيذية جميعا، وأعيان المدينة ووفود سائر البلاد، ووصل عدد المتظاهرين إلى أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة، إذ أن أكثر من ٥٠٠ امرأة شاركت بالمظاهرة، وسط التصفيق الحاد والتهليل والتكبير، وإنشاد الأغاني الوطنية خاصة أغنية نحن جند الله شبان البلاد، نكره الذل ونأبى الاضطهاد، فارفعوا الأعلام وامشوا للجهاد، حيث أعدائنا تمادوا في الغرور.

ونادى الجمهور بشعارات ضد الصهيونية والهجرة والسماسرة، وطالبوا بالحرية والاستقلال. وعندما وصلت المظاهرة إلى باب الخليل، غيرت مسارها فمرت بين الجنود عند باب الخليل بدل البلدة القديمة، واستمرت في سيرها حتى باب الجديد، وهناك كانت قوة كبيرة من الشرطة في انتظارهم. وهنا تقدم مدير شرطة القدس الميجر وينرايت من الجمهور التفرق، وعدم الاستمرار إلى باب العامود، وإلا فسيفوقهم بالقوة، ولما رفض الجمهور طلبه، أمر رجاله بالهجوم فاستعمل الشرطيون عصيهم وهراواتهم لتفريق المتظاهرين، فهب هؤلاء للدفاع عن أنفسهم فحصلت موقعة كبيرة، يرشق فيها الجمهور الشرطة بالحجارة، وهذه تعمل بهم ضربا بعصيها. ولكن الجمهور ورغم الاعتداء القاسي عليه وحتى على النساء اللواتي أصرين على المضي قدما إلى باب العامود، تجمع المتظاهرون مرة أخرى، واستمروا في سيرهم حتى وصلوا إلى باب العامود، وهناك سبقتهم قوة بوليسية كبيرة، فحصلت صدامات مرة أخرى، وبنفس الطريق، تراشق بالحجارة وضرب بالهراوات. وحاولت النساء أن يدخلن السرايا للاحتجاج على اعتداء الشرطة، ولكنهن منعن من ذلك بالقوة، مما أدى إلى إصابة بعضهن بجروح طفيفة. واستمرت الاشتباكات بعدها لساعة أخرى، ثم انفضت الجموع حوالي الساعة الثانية والنصف.

إعلان الإضراب العام في ٢٧ أكتوبر ١٩٣٣

اجتمع أعضاء اللجنة التنفيذية، بعد نهاية المظاهرة في بيت الرئيس كاظم باشا الحسيني، واشترك في الاجتماع رئيس وأعضاء مكتب لجنة مؤتمر الشبان، واتخذت القرارات التالية: إقامة مظاهرات على التوالي في مدن فلسطين، أولها في يافا يوم الجمعة في ٢٧ تشرين أول / أكتوبر عام ١٩٣٣، حيث تقام مظاهرة عامة مع إضراب شامل، أن يجتمع أعضاء اللجنة ورئيسها يوم الخميس الموافق ٢٦ من الشهر في دار الجمعية الإسلامية المسيحية في يافا، وأن يعقد اجتماع آخر في العاشرة صباحا من يوم المظاهرة، ويقرر مسار المظاهرة كل من الجمعية الإسلامية المسيحية واللجنة التنفيذية لمؤتمر الشباب. بعد انتهاء المظاهرة تعقد اللجنة التنفيذية اجتماعا في يافا لأجل إقرار المظاهرة التي تليها. وإرسال برقيات لعصبة الأمم والحكومة الإنجليزية ووزارة المستعمرات وحكومة فلسطين، ببيان غاية المظاهرات واستنكار أعمال البوليس وتصرفاته وخصوصا مع السيدات. تحية السيدات العربيات على ما أبدينه من وطنية صادقة وتضحية عظيمة. تحية الشعب الفلسطيني والذين تظاهروا والذين أصيبوا، والاعتناء بهم.

وانفض الاجتماع عند الساعة السابعة مساء، ليس قبل أن يهتف الرئيس والأعضاء بحياة الحرية والاستقلال.

قبل المظاهرة الكبرى في يافا

كانت يافا جاهزة للواقعة الكبرى، يوم الجمعة الموافق ٢٧ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٣، فطيلة يوم وليل الخميس كان يتوافد الجمهور إلى المدينة تحضيرا للمظاهرة التي ستنطلق من جامع يافا الكبير، وضاقت المدينة بمن فيها من كثرة الخلق، وازدادت الحماسة، وعقدت الهيئات المسؤولة عن المظاهرة، اللجنة التنفيذية العربية، والجمعية الإسلامية المسيحية ولجنة مؤتمر الشبان، اجتماعين أحدهما في الثالثة بعد الظهر، والآخر في السابعة مساء.

يوم الجمعة كان الإضراب شاملا، برا وبحرا، وكانت الشوارع ملأى بالجنود والشرطيين، والدوريات العسكرية تطوف المدينة، وتحرس المداخل والمخارج التي تصل إلى الأحياء اليهودية وتل أبيب. وكذلك كانت الشرطة تفتش المارة، والقادمين إلى يافا، بعد أن وضعت حواجز على كل مداخل المدينة.

عند الساعة العاشرة والنصف صباحا، كانت كل الطرق المؤدية إلى الجمعية الإسلامية المسيحية، تعج بالجماهير المتحمسة التي تهتف بحماسة للوطن وللحرية والاستقلال، كانت جماهير تفيض بالتفاؤل والامل، نحو مستقبل سيكون أفضل ان استمرت الحالة الثورية الحالية.

حوالي الساعة الحادية عشر صباحا، وصلت مجموعة من نساء القدس للمشاركة في المظاهرة، فعلت الشعارات والزغاريد والأناشيد الوطنية في عرس فلسطيني جميل.

منذ الصباح كان البريطانيون منزعجين ومتوترين وخائفين من قوة الحدث، وكانت لديهم النية لقمع الجموع بالقوة، لكسر شوكتهم ومنعهم من الاستمرار في مظاهراتهم، ولذلك وقبل أن تبدأ المظاهرة قام الخيالة البريطانيين بالاعتداء على المسيرة، فرد لهم الجمهور الصاع صاعين، وحصلت اشتباكات، سرعان ما احتويت من قبل أعضاء اللجنة التنفيذية.

بعد هذا الصدام حضر إلى دار الجمعية المستر بولاك مساعد حاكم اللواء، وعزمي أفندي النشاشيبي قائمقام يافا، واجتمعا مع يعقوب بك الغصين عضو اللجنة التنفيذية، وعلى إثر الاجتماع أمر مساعد الحاكم بسحب الجنود من طريق المظاهرة.

انتفاضة اكتوبر في يافا عام ١٩٣٣

انطلقت المظاهرة في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا، بعد أن خرج المصلون من الجامع الكبير، من بابه الجنوبي وذلك لتفادي الاصطدام مع الشرطة، وتقدم المظاهرة الرئيس موسى كاظم باشا الحسيني، وأعضاء اللجنة التنفيذية كلهم. سارت المظاهرة السلمية في طريقها المقرر إلى شارع العجمي ثم القهوة الوطنية ثم شارع الصلاحي، وكان عدد المتظاهرين أكبر من عددهم في مظاهرة القدس بآلاف مؤلفة.

كانت الشرطة تضيق الطريق على المظاهرة، فزاد الازدحام إلى درجة أن الرئيس كان يحتاج إلى مساعدة في سيره في المظاهرة لكبر سنه. وما كادت المظاهرة تصل أول شارع العجمي بالقرب من القهوة الوطنية، حتى هجم رجال الشرطة الخيالة على المتظاهرين من خلفهم، وصاروا يدوسونهم بأرجل الخيل ويضربونهم بالهراوات، فسقط عدد كبير من المصابين.

غضب المتظاهرون غضبا شديدا، فاقتلعوا خشبا من رفوف المخازن والدكاكين وهجموا بها على الجنود والشرطيين، فصارت معركة كَر وفر بينهم وبين الخيالة، وكانت يد المتظاهرين هي العليا.

عندها صدرت الأوامر بإطلاق الرصاص الحي، فصار الجند يطلقون النار من كل الجهات، فسقط الشهداء والجرحى، واستمر هذا الحال لمدة ساعة ونصف على الأقل. وفِي المنشية أيضا تصدت الشرطة للمتظاهرين، وأطلقت النار عليهم وأردت عددا منهم، وجرحت العشرات.

استشهد في هذا اليوم، ما يقارب الثلاثين، وجرح أكثر من ٢٥٠، وأصيب الرئيس موسى الكاظم بجروح ورضوض جراء ضربه بالهراوات، لزم فراشه بعدها حتى توفي بعد المظاهرة بأسبوعين.

أعلنت الحكومة البريطانية الأحكام العرفية في يافا، على أن يمنع التواجد خارج البيت من الساعة السادسة مساء، وحتى الخامسة صباحا.

في اليوم التالي عمت المظاهرات عددا من المدن والقرى العربية في فلسطين، ففي عكا أعلن الإضراب ليوم آخر، وفِي نابلس خرجت مظاهرات في اليوم التالي، وكذلك في جنين التي أضربت يوما آخر، والناصرة أضربت تلبية لنداء يافا، وتظاهر فيها الناس ضد اعتداءات الشرطة. وفِي حيفا أعلنت الأحكام العرفية بعد استمرارها في الإضراب ليومين آخرين، خوفا على اليهود، وشددت السلطة الحراسة البوليسية فيها. وفِي طولكرم انطلقت التظاهرات ليومين آخرين. وفِي بيسان جرت مظاهرات وإضراب ليوم واحد إضافي، وكذلك المجدل، والقدس التي حصلت فيها حوادث دامية.

وهكذا انتقلت الانتفاضة إلى المناطق الأخرى، بينما استمرت يافا في إضرابها الشامل لمدة أسبوع كامل، عانت فيه الأمرين من قمع الشرطة.

أما بريطانيا فقد قامت بمحاكمة أعضاء اللجنة التنفيذية، وفرضت عليهم غرامات باهظة.

قام وزير المستعمرات البريطاني، بتشكيل لجنة برئاسة السير ويليام موريسون لتقصي الحقائق، ولكنه فرض عليها أن تحقق فقط في الأسباب المباشرة للأحداث، وأن لا تتطرق للهجرة اليهودية أو سرقة الأراضي أو المستعمرات اليهودية ووعد بلفور وغيرها.

نشرت اللجنة تقريرها في شهر شباط عام ١٩٣٤، مشيرة إلى أن العرب وجهوا غضبهم إلى بريطانيا، وليس إلى اليهود كما حصل في مظاهرات ١٩٢١ و ١٩٢٩.

التعليقات