70 عاما على النكبة: احتلال يافا 1948 (2/16)

كانت يافا مدينة مزدهرة، يسكنها أكثر من تسعين ألفا عشية النكبة، ورغم أن القدس هي العاصمة الفلسطينية، إداريا ودينيا، إلا أن موقع يافا الإستيراتيجي، ووجودها على البحر، وميناءها المهم، جعلوا منها مركزيا اقتصاديا وثقافيا هاما على صعيد الوطن الفلسطيني قبل

70 عاما على النكبة: احتلال يافا 1948 (2/16)

الجزء الثاني - يافا تطلق الإضراب العظيم عام ١٩٣٦


نستمر في هذه الحلقة لنحكي قصة يافا، يافا التي ثارت وانتصرت لقضية شعبها، ثم دفعت ثمنا غاليا، وسقطت في براثن العدو الشرس، الذي لطالما حلم بذلك، من اليوم الأول الذي أقيمت فيه تل أبيب، والمستعمرات الأخرى التي تجاورها، وكانت كلها جزءًا من الخطة الشاملة للقضاء على فلسطين، فالقرى الصغيرة والكبيرة على حد سواء، تحاصر ببؤر استعمارية، تسرق الأرض وتأوي المسلحين الذي "يحرسونها" من العرب، ويتحضرون لساعة الصفر، أما المدن مثل حيفا وطبرية والقدس وصفد، فيتغلغلون فيها، ويحولون حتى اليهود الإصلانيين إلى صهاينة معادين للعرب.

أما يافا المدينة الكبيرة المتطورة، فيتغلغلون فيها مثل سائر المدن، ومن ثم يحاصرونها بمدنهم الجديدة ومستعمراتهم الكبيرة، من أجل الاستفراد بها في نقطة الصفر.

ولكن يافا تبقى تقاوم، وتنتج الانتفاضات الكبيرة، كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وها هي الآن المدينة الكبيرة تؤدي دورها في أعظم إضراب سجله التاريخ، وثورة شعبية فلسطينية على أعداء الأمة من بريطانيين وصهاينة، ومقابل هذا الدور الكبير، تدفع أيضا ثمنا كبيرا، خلال الإضراب وبعده، وإليكم قصة ذلك كاملة.

يافا المدينة العروس

يافا عروس زهت، وحضارة سطعت في فضاء فلسطين، ففيها الصحف ودور النشر والصناعة والميناء الدولي والتجارة على المستوى المحلي الوطني والمستوى العالمي.

كانت يافا مدينة مزدهرة، يسكنها أكثر من تسعين ألفا عشية النكبة، ورغم أن القدس هي العاصمة الفلسطينية، إداريا ودينيا، إلا أن موقع يافا الإستيراتيجي، ووجودها على البحر، وميناءها المهم، جعلوا منها مركزيا اقتصاديا وثقافيا هاما على صعيد الوطن الفلسطيني قبل عام ١٩٤٨.

من الناحية الثقافية، مثلا، كانت تصدر في يافا العديد من الصحف الأسبوعية واليومية، مثل صحيفة "فلسطين" لصاحبها عيسى العيسى ويوسف العيسى، وابتدأت بالصدور عام ١٩١١، لمرتين أسبوعيا، ثم تحولت إلى جريدة يومية. جريدة يومية أخرى كانت تصدر حتى النكبة، هي جريدة "الدفاع"، لصاحبها ابراهيم الشنطي، وصدر عددها الأول عام ١٩٣٥. وصحيفة "الصريح" التي صدرت في الأعوام ٤٧ - ٤٨، و"الكفاح" أعوام ٣٥-٣٧، و"الصراط" أعوام ٢٤-٤٧، و"الشعب" أعوام ٤٦-٤٨، وغيرهم حتى وصل عدد الصحف والمجلات التي صدرت في يافا بين الأعوام ١٩١١-١٩٤٨ إلى أكثر من سبع وثلاثين، يومية كانت أو أسبوعية أو شهرية، إلخ.

ونتيجة لوجود كل هذه الصحف، انتشرت في يافا صناعة الطباعة، ووصل عدد المطابع في يافا إلى أكثر من خمسة وعشرين مطبعة، مثل مطبعة فلسطين والكفاح ويافا والعصرية وطبعة التوريق المتخصصة بطباعة الورق للف الأثمار الحمضية، إذ أن يافا اشتهرت بزراعة البرتقال، وهو يعد من أجود الأنواع عالميا، وكانت مساحة الأراضي المزروعة بالبرتقال والحمضيات الأخرى أكثر من ٣٠٠ ألف دونم عام ١٩٣٨، وقد بلغ مجموع ما كانت تصدره يافا عام ١٩٣٩ من البرتقال، أكثر من ١٣ مليون صندوق.

وكانت الحياة الثقافية في يافا مزدهرة، ومن الفنانين الذي زاروا يافا، ليقدموا عروضا فيها: أم كلثوم وَعَبد الوهاب ويوسف وهبي وفريد الأطرش وأسمهان. ومن الأدباء والشعراء: توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وبشارة الخوري وغيرهم وغيرهم.

وكان في يافا عدة دور عرض للأفلام (سينما)، وكانت أقدمها سينما الطوبجي، التي قدمت الأفلام الصامتة، ثم توقفت عن العمل بعد أن ابتدأت صناعة الأفلام الناطقة. وسينما أبولو، وسينما الحمراء، وسينما نبيل، وسينما الرشيد، وسينما فاروق، التي تعمل صيفا فقط.

ومن الناحية الصناعية اشتهرت يافا بصناعة الجلود والدبغ، وصناعة الطوب والبلاط، وصناعة الصابون، وكان في يافا مطاحن كبيرة للدقيق ومجارش للشعير.

ومن أشهر الشرك الصناعية في يافا، شركة السكب الفلسطينية، والتي تأسست عام ١٩٣١، لأصحابها موسى عبد النبي وحسن أبو لغد وعزت بيبي والشرقاوي. كانت الشركة تصنع مضخات المياه لتطوير ري بيارات البرتقال. وقد بلغ عدد عمالها عشية النكبة أكثر من ١٠٠ عامل وعاملة. وقد أقيمت هذه الشركة من أجل منافسة شركة "ڤاجنر" الألمانية والتي كانت أيضا في يافا.

كذلك اشتهرت في يافا صناعة صيد الأسماك، فقد وصل مجموع الصيد عام ١٩٣٠ إلى ٦٧٠ طنا سنويا، وارتفع إلى ١٠٥٦ طنا عام ١٩٤٥.

ولكن رغم كل هذه الحياة المدنية، إلا أن يافا لم تغفل عن العدو الحقيقي لها، ولذلك استمرت في نضالها وانتفاضاتها (التي ذكرت في الحلقة السابقة)، وأطلقت لنفسها عنان النضال، ودخلت معامعه مرة أخرى عام ١٩٣٦.

يافا تعلن الإضراب العظيم عام ١٩٣٦

نفذ الشهيد الشيخ فرحان السعدي، ومحمود السالم، وداوود الديراني، عملية جهادية على طريق طولكرم - نابلس وذلك في مساء ١٥ نيسان/ أبريل ١٩٣٦، قتل فيها تاجر يهودي يدعى إبراهيم كازان، وأصيب آخر بجراح بالغة.

انتقاما لهذه العملية، وبعد يومين منها، قام صهاينة ملثمون بقتل فلسطينيين نائمين في كوخ على طريق ملبس - كفرسابا، ثم قام اليهود في تل ابيب بالاعتداء على التجار العرب، ووصلت هذه الاعتداءات إلى ذروتها، في جنازة اليهودي كازان، فقد اعتدوا على الحوارنة الذين يعملون في تل أبيب، ثم فجأة انطلقت شائعة تقول إن اليهود قتلوا ثلاثة رجال عرب وامرأة من الحوارنة، بل إنهم قاموا بقطع رؤوسهم.

خلال لحظات وصلت الشائعة إلى مدينة يافا، وانتشرت مثل النار في الهشيم، فأخذت المدينة تغلق حوانيتها وأسواقها، وانطلق الناس إلى ساحة الشهداء قرب دار الحكومة، وهناك دخل وفد على قائمقام المدينة لاستيضاح الخبر، ولكنهم لم يحصلوا على خبر صريح بعدم حدوث عملية القتل، فكثر الهرج والمرج، وانتشرت الشرطة والقوات المسلحة في المدينة التي تعرفها جيدا، وتعرف همة شبابها الذين يرفضون الضيم.

في حي المنشية وأبو كبير تحول التوتر الشديد، إلى صدامات هنا وهناك، وهاجم العرب يهود تل أبيب الذين يقطنون بمحاذاة يافا، والعمال اليهود في المدينة، مما أسفر عن مقتل ثمانية من اليهود في مناطق متفرقة، وسقوط أربعين جريحا، أحد عشر منهم جراحه خطيرة. أما العرب فاستشهد منهم اثنان بيد الشرطة البريطانية. كان في في ١٩ نيسان / أبريل ١٩٣٦.

استمرت المناوشات خلال كل ذلك اليوم، وحصلت صدامات كبيرة بين المواطنين والشرطة، التي كانت تطلق النار بكثافة على العرب، وتنتشر في تل أبيب لحمايتها من أهل يافا.

في يومها الثاني، عادت المدينة الباسلة إلى قتالها مع الشرطة، وازداد الضغط على الناس، وقام اليهود بحرق بيت "أبو النبل" ومحمد زعبلاوي، ومحمود عطية، وعلي السمبو، ومحمد الخليل، وفرن أبي أسعد الحلو، ودور أخرى صغيرة. كذلك قام اليهود في تل أبيب بإطلاق النار على القطار القادم من القدس، مما أدى إلى إصابة بعض الركاب. كل هذه الحوادث وانحياز الشرطة والجيش ليهود تل أبيب، أدت ببعض الشخصيات الوطنية في يافا، للاجتماع في بيت محمود بك أبو خضرة، والإعلان عن إضراب عام تاريخي، وذلك في ٢٠ نيسان/ أبريل ١٩٣٦، وإصدار بيان سجله التاريخ بحروف من ذهب، ووقعه التالية أسماؤهم: يوسف عاشور، وراغب أبو سعود الدجاني، ومحمود أبو خضرة، وألفرد روك، وحمدي النابلسي، وفخري النشاشيبي، وإبراهيم الشنطي، وسعيد الخليل.

ثم تشكلت في اليوم التالي أول لجنة قومية عربية في فلسطين، تكون هي لجنة الإضراب العليا في المدينة، ثم قسمت المدينة إلى ثماني مناطق رئيسية، كل منطقة يشرف عليها شباب من أجل استمرارية الإضراب، وكان التقسيم على النحو التالي: المنشية الفوقا، ويرأسها شاب من جمعية الشبان المسلمين، المنشية التحتا وارشيد ويرأسهما مصطفى عوّاد الهباب، وسوق إسكندر عوض وبسترس والإسعاف ويترأسهم رباح أبو خضرا، وسوق الصلاحي وسوق الدرهلي والغلال يترأسهم غالب الخالدي، وسوق الدير والخضار وشارع يافا- القدس ويترأسهم جودة الهباب، وشارع العجمي من البوابة حتى المستشفى الفرنسي يترأسها ميشيل متري، وشارع العجمي من المستشفى حتى آخر الشارع وحي الجبلية وكرم الزيتون يترأسها شاب يختاره النادي الأرثوذكسي، وشارع جمال باشا والنزهة وفيصل ويترأسها رشاد بيمي.

وتقرر أن يكون الإضراب مثل إضراب أكتوبر ١٩٣٣، برا وبحرا، مع إبطال حركة السيارات والنقل، ويشمل ذلك الحافلات والسيارات الخصوصية والأجرة، ويستثنى منه المطاحن والأفران فقط.

وانطلقت المظاهرات في أنحاء المدينة، ومنع التجار من فتح دكاكينهم، وتقرر دعوة باقي أنحاء فلسطين لتلبية الإضراب، وهذا ما كان إذ لبت فلسطين نداء الواجب، وتكونت اللجان القومية المحلية في جميع أنحاء البلاد، وبذلك تم إكمال مسيرة الإضرابات التي ابتدأت في أكتوبر ١٩٣٣، واستمر الإضراب العظيم والذي لم يعرف التاريخ مثله حتى ١٣ تشرين أول /أكتوبر من عام ١٩٣٦، وما كان ليتوقف لولا دعوة الزعامة العربية إلى ذلك تنفيذا لوعود بريطانيا بإنصاف العرب، ولكنها نكثت وعدها وكانت نتيجة تحقيقها الذي تولته لجنة "پيل" في صالح اليهود.

وكان هذا الإضراب بداية للثورة الفلسطينية الكبرى، والتي استمرت لمدة ثلاث سنوات ونيف، وكان ليافا شأن فيها، كما سنذكر لاحقا، ولَم تتوقف، هذه الثورة، إلا بفعل القمع الشديد البريطاني، وبداية الحرب العظمى.

انضمام البحَّارة للإضراب وإعلان العصيان المدني

كانت إحدى ساحات هذه المعارك ميناء يافا الدولي، درة فلسطين، والذي كانت تمر عبره أغلب الصادرات والواردات إلى فلسطين.

كان لبحارة يافا مواقف وطنية كبيرة في مقاومة بريطانيا، وإجهاض خططها في جلب المزيد من الصهاينة عن طريق ميناء يافا، إذ أن كل وسائل النقل في فلسطين، توقفت عن العمل في اليوم الخامس للإضراب العام، وعلى رأسها ميناء يافا، الذي أعلن انضمامه إلى الإضراب وإصراره على اللحاق بركب المقاومة للاحتلال. ليس هذا فحسب بل إن بحارة يافا قرروا التوجه إلى بحارة حيفا، ومطالبتهم بدعم إخوانهم في تلبية واجب الإضراب، ولذلك توجه وفد من يافا يضم: عمر البيطار، ومحمود أبو خضرة، وحمدي النابلسي، أعضاء اللجنة القومية، وممثل عن قيادة إضراب ميناء يافا، إلى مدينة حيفا في ٢٤ نيسان /أبريل، لدعوة عمال وبحارة ميناء يافا إلى الإضراب، ولَم يكونوا بحاجة إلى الكثير من الجهد لإقناعهم بذلك، شأن باقي شعبهم، إذ لبى هؤلاء الدعوة، وأعلنوا الإضراب في اليوم التالي.

في ٢١ أيار / مايو ١٩٣٦، قام بحارة يافا، بانتفاضة باسلة وهاجموا مقر الشرطة في المدينة، وذلك لأن باخرة جاءت إلى مياه تل أبيب، وحاولت تفريغ حمولتها هناك، وكانت هذه بداية الانتقام البريطاني الصهيوني من ميناء يافا وبحارته البواسل، فصارت من ذلك اليوم تأتي البواخر إلى ميناء تل أبيب بدل ميناء فلسطين التاريخي، وقامت بريطانيا في نفس الوقت بتطوير ميناء حيفا، لضرب ميناء البواسل.

كان رؤساء البحَّارة قيادة الإضراب هم: الحاج سعيد الدهون، وأبو أيوب الجبير، والحاج راغب ناصر، والحاج أحمد ياسين، وأبو شليح.

وفِي ١٥ أيار / مايو، أعلنت اللجنة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني، العصيان المدني وعدم دفع الضرائب، فتحولت يافا في ذلك اليوم إلى ساحة حرب، ووضعت قوات كبيرة من الجند في شارع الإسعاف لمنع الاتصال بالمنشية من باقي أحياء يافا، وقوة أخرى في شارع إسكندر عوض، وقوة في شارع جمال باشا، وقوة رابعة في النزهة، وخامسة عند جسر العجمي، واحتل الجنود العمارات المشرفة على ساحة الشهداء.

عند الساعة الثانية عشر ظهرا، كانت ساحة الشهداء تعج بالمواطنين الذين تلهبهم الحماسة، ثم انطلقت مظاهرة ضخمة هائلة، سارت باتجاه العجمي، ثم توزعوا إلى أماكن مختلفة، فصارت الشرطة البريطانية تستعمل الشدة، وتضرب المتظاهرين بأعقاب البنادق والهراوات والسكك الحديدة، مما أدى إلى إصابة البعض بإصابات متفاوتة، ثم حصلت اشتباكات بين المتظاهرين والجنود، فأطلق هؤلاء النار فأصيب الكثيرون، واستشهد شخص واحد.

في يوم السبت الثلاثين من أيار / مايو عام ١٩٣٦، وفِي الساعة التاسعة مساء، تم الاعتداء على البلدة القديمة بالمدافع الرشاشة، وسمع انفجار قنابل كان لها دوي شديد. وأسفر هذا الاعتداء عن استشهاد امرأة وابنها، عندما كانوا في ساحة منزلهم، وإصابة باقي أفراد العائلة. وانفجرت القنابل الأخرى في بيوت متفرقة في البلدة القديمة، ولكنها لم تسقط ضحايا آخرين.

كان هذا الاعتداء من تنفيذ الجيش البريطاني الذي ادعى أن عيارات نارية أطلقت عليه من البلدة القديمة، فقرر بالاضافة إلى هذا الاعتداء أن ينسف مدينة يافا القديمة.

عملية نسف يافا القديمة

في صباح يوم ١٦ حزيران/ يونيو ١٩٣٦، سمع الناس في يافا أزيز طائرة تحوم في السماء، وتلقي منشورات بالعربية، جاء فيها أن حكومة الانتداب، تنوي القيام بمشروع يهدف إلى فتح طرق وإدخال تحسينات في المدينة القديمة في يافا، وأن هذا المشروع سيؤدي إلى هدم عدد من الأبنية الحالية، وأن الحكومة ستقوم بدفع تعويضات مناسبة، حيث ستنظر في كل طلب على حدة، وتنظر في استحقاقه للتعويض، كما أن المنشور أشار إلى أن هذه العملية ستنفذ على يدي القوات العسكرية، وأن سكان المدينة القديمة الذين يحافظون على القانون، سوف لا يصيبهم ضرر، ولكن أي مقاومة سيتم استعمال القوة لقمعها.

بعدها بدقائق، توجه عدد من موظفي المالية إلى عدد كبير من سكان المدينة القديمة، لتسليمهم إنذارات باللغة العربية والإنجليزية، خالية من أي توقيع، مذيلة بجملة "حاكم اللواء الجنوبي"، تبلغهم فيها أن عليهم إخلاء بيوتهم لأنها قريبة من المنازل المعينة للنسف والهدم، وكان عدد هذه المنازل المطلوب إخلاؤها ٧١ منزلا، أما البيوت التي ستهدم فهي ٤٦ منزلا. وسرعان ما صار يسمع في أرجاء البلدة القديمة عويل النساء وندبها، وبكاء الأطفال بشكل يفتت الأكباد.

ورغم توجه اللجنة القومية وأصحاب البيوت ببرقيات إلى المندوب السامي، ووزير المستعمرات، وحاكم اللواء مستر كروسبي الذي رفض مقابلتهم، إلا أن الحكومة استمرت في مشروعها الآثم، وإن قامت بتأجيله لمدة أربع وعشرين ساعة.

وبالفعل، في الصباح الباكر من يوم الخميس ١٨ حزيران / يونيو ١٩٣٦، شرعت القوى العسكرية في تنفيذ الهدم، مع وجود حشد جنود كبير جدا، مؤلف من قطع الأسطول الملكي البريطاني، وسيارات مصفحة، وطائرات عسكرية، ومدافع رشاشة ودبابات كثيرة. كانت هذه القوات تحت إشراف حاكم اللواء الجنوبي مستر كروسبي، وقائد حامية يافا الكولونيل باترسون، وعزمي بك النشاشيبي قائمقام المدينة، والميجور فولي مدير الشرطة، وقائد مفرزة المهندسين الملكيين البريطاني. وهؤلاء أمروا بسد منافذ المدينة القديمة والبدء بالتنفيذ الفوري.

وتم في ذلك اليوم هدم ٧٠ منزلا يسكنها حوالي ١٥٠ عائلة، وتم تفريغ ١٥٠ منزلا يقطنها ٣٠٠ عائلة، وبسبب سرعة البدء في العمل، لم يتسن للناس أن تأخذ أثاثها وأمتعتها، فنسفت البيوت بمحتوياتها.

في ٢٦ حزيران/ يونيو، قرر الميجور بيريت رئيس فرقة المهندسين الملكيين، ومدير الأشغال العامة المستر نوبل، أن يتم يشمل الهدم ثلاثة مناطق أخرى في البلدة القديمة، تضم ١٥٠ بيتا. وقد تم الهدم في ٣٠ حزيران / يونيو، وشمل كل البيوت من النوفرة، أمام اجنسية المساجري، باتجاه جهة الغرب الجنوبي، وصولا إلى القلعة، ثم إلى شارع الميناء المقابل لشارع فيصل.

ونتيجة لهذا الهدم، تصدع برج الساعة ودار الحكومة، ومئذنة الجامع الكبير، وجدران كثيرة في أديرة الروم الأرثوذكس والأرمن واللاتين، وتهدمت بيوت ومحال ودكاكين في مناطق أخرى، نتيجة سقوط حجارة كبيرة عليها، كانت تتطاير بفعل الانفجارات الحاصلة من الديناميت المستعمل في هدم البيوت. وكذلك تم نهب الكثير من البيوت في البلدة القديمة التي تركها أهلها على أن يعودوا إليها بعد إنهاء عملية الهدم والنسف.

في النهاية تم نسف أكثر من ٢٢٠ منزلا، وتشريد أكثر من ٤٥٠ عائلة، عدد أفرادها أكثر من ٢٥٠٠ شخص.

ومن سخرية القدر، وإتماما للجريمة النكراء، قررت دائرة الأشغال أن تستعمل أنقاض البيوت المنسوفة في يافا، في تعبيد طرقات مستعمرة "بيتح تكڤا" الصهيونية، فهذه الطرق رملية وبحاجة إلى ردم البيوت لتثبيت أرضيتها، وطول هذه الطرق هو ثلاثة كيلومترات وعرضها خمسة أمتار. وسلمت إدارة الأشغال العامة مهمة نقل الأنقاض لمتعهد يهودي، كان ينقل كل يوم من سبعين إلى مئة نقلة يوميا، بواسطة سيارات الشحن، وابتدأ في ذلك بتاريخ ٢٣ تموز / يوليو ١٩٣٦.

كانت هذه من أحقر الجرائم التي نفذتها بريطانيا في فلسطين، وأشدها ظلما وجورا، وهي انتقمت أشد الانتقام من يافا، معلنة الإضراب العام العظيم وقائدة الانتفاضات الفلسطينية الكبرى.

يافا تدفع ثمنا باهضا

يافا المدينة الزاهرة، هي من افتتحت الإضراب الذي لم تقم به أمة قبل أهل فلسطين، ولَم يحصل بعدها مثله. وكانت يافا المتضرر الأكبر من هذا الإضراب، فقد خسرت ميناءها الذي صار له منافس قوي هو ميناء تل أبيب، وكان هذا مكسبا صهيونيا تاريخيا، فالإضراب كان مثل ما سبقه من انتفاضات، العرب يضحون بأرواحهم وأموالهم، والصهاينة يخرجون منتصرين، بفضل الدعم البريطاني لهم. ويقال إنه لو لم يربح اليهود في هذا الإضراب، غير مينائهم، لكان ذلك كافيا وعظيما. قبل الإضراب كان الميناء يدخل أكثر من ألف جنيه يوميا، وبعد الإضراب أصبح المدخول شحيحا بما لا يقاس.

كما أن تل أبيب، ربحت أيضا مركزا للحاكم الإداري، ودائرة طابو، وأصبح لديها كل المؤسسات الحكومية التي تجلب الناس، وهذا مدخول كبير خسرته يافا.

وترك اليهود يافا، فلم تعد لهم أي مصلحة تجارية أو مخزن او دكان في يافا، ونقلت جميعا إلى تل أبيب، فكانت خسائر مالية فادحة بسبب هذا.

كان تأثير الإضراب شديدا وكبيرا على يافا، فالمدينة الزاهرة، التي لا يتوقف بها دولاب الحركة التجارية، أصبحت بحالة اقتصادية سيئة، وكل هذا يضاف إليه نسف البلدة القديمة، وتشريد الآلاف من سكانها.

حوادث يافا خلال الثورة الفلسطينية

كانت يافا في أخطر مواقع فلسطين، فهي بمحاذاة المدينة الصهيونية الأكبر، تل أبيب، ومحاطة بمستعمرات أخرى كبيرة بمحاذاتها مثل "بيتح تكڤا" و"ريشون لتسيون" وغيرها، ولذلك لم تمر فترة قصيرة خلال سني الثورة، إلا وكانت فيها صدامات ومعارك، ومظاهرات ومنع تجول، وأحكام عرفية، وصدام مع يهود تل أبيب وجنود وشرطة بريطانيا.

كان من زعماء يافا في فترة الحاج عبد الرحمن حمّاد، وعلي الدباغ، ومحمد عبد الرحيم، ومحمد ياسين. أما شهيد يافا الأول في المظاهرات فكان المرحوم فؤاد زيدان.

أما قادة المظاهرات والثورة فكان منهم: عبد الله الناقة، والحاج عمر الناقة وهما إخوة من أبي كبير، ومحمود أبو هيبة، وعيسى صندوق الخليلي، ومصطفى العزب، وأحمد أبو حجر، وعمر الحلبي وغيرهم.

وإليكم بعض الأحداث في يافا فترة الثورة:

في ٦ تموز /يوليو ١٩٣٦، قام ثوار من قرية بيت دجن القريبة من يافا، بهجوم كبير على مدينة تل أبيب، في كَر وفر خلال يومين كاملين، ليلا ونهارا، فهاجموا تارة دوائر الشرطة، ومراكز الحراسة التابعة "للهاجاناه"، ومقاهي ونوادي. وقتل في هذه الهجمات واحد وعشرون يهوديا، واستشهد أربعة من الثوار.

في ٢٥ تموز / يوليو ١٩٣٦، هاجم لفيف من سكان حي الجبالية في يافا اليهود فقتلوا عددا منهم.

في الثاني من آب/ اغسطس، هاجم ثوار قرية سلمة القريبة من يافا، مستعمرة "بيتح تكڤا" وأوقعوا بها خسائر في الأرواح.

في ٢٦ آب/ أغسطس١٩٣٦، حصلت معركة كبيرة في ضواحي يافا، بعد الهجوم على سيارة عسكرية بريطانية، واستنجادها بالقيادة، وحضور أربع سيارات مملوءة بالجنود، واستمرت معركة بين الطرفين لساعة أو أكثر، انسحب على إثرها الثوار.

وبعدها بيومين، وفِي الصباح الباكر، نفذ هجوم على محطة الشرطة في يافا، مما أدى إلى إصابة بعض الشرطيين.

في ١٣ أيلول/ سبتمبر، قام ثوار بمهاجمة قافلة عسكرية يهودية، على طريق القدس-يافا، بالقرب من يازور- بيت دجن، ودارت معركة بين الجند والثوار لمدة ساعة.

في ١٨ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٦، تم إطلاق النار على محمود الششنيه رئيس البحَّارة في ميناء يافا، والبحارة العبد الجمال ومحمود المصري البدري، في شارع بن يهودا في تل أبيب، مما أدى إلى إصابة رئيس البحَّارة بإصابة خطيرة في الصدر، والآخرين في أطرافهما. وكان مطلق الرصاص على دراجة نارية، في محاولة اغتيال منظمة.

في السادس من تشرين أول /أكتوبر ١٩٣٧، نظمت مظاهرات ضخمة في يافا، ردا على مظاهرات نظمها يهود تل أبيب ضد العرب، بعد حفل تأبين لحاكم لواء الجليل الجنرال أندروز والذي اغتيل على يد مجموعة قسامية.

في ٢٥ كانون أول /ديسمبر ١٩٣٧، قتل الثوار ضابطا وجنديا بريطانيين في يافا.

في ١٨ حزيران / يونيو ١٩٣٨، ألقيت قنبلة على مركز الشرطة في يافا.

في ٢٠ حزيران / يونيو ١٩٣٨، أطلق الثوار النار على سيارة يهودية على طريق يافا القدس، وأطلقت النار على سيارة يهودية أيضا، في طريق تل أبيب-صرفند. وأطلقت النار على دوريتي شرطة في تل أبيب، وعلى مركز الشرطة في بيتح تكڤا.

في ٢٥ حزيران /يونيو ١٩٣٨، ألقيت قنبلتين في شارع الكرمل، وفِي شارع حارة اليهود، مما أدى إلى إصابة ثمانية من العرب.

في ١ تموز / يوليو ١٩٣٨، أطلقت النار على الشرطة في يافا، مما أدى إلى إصابة شرطي بجراح خطيرة.

في الخامس من تموز/ يوليو، ألقى اليهود بثلاث قنابل في أماكن متفرقة في يافا، مما أدى إلى استشهاد وجرح ستة عشر عربيا، ويافا تعلن الإضراب العام.

في ٧ تموز/ يوليو ١٩٣٨، أعلنت يافا الإضراب العام تضامنا مع ضحايا انفجار قنبلة في حيفا، وأدت إلى استشهاد أكثر من ثلاثين عربيا. وكذلك أضربت المدينة في العاشر من نفس الشهر احتجاجا على الاعتداءات الصهيونية.

في تاريخ ١٩ تموز / يوليو ١٩٣٨، ألقى العرب قنبلة في شارع "رونبرغ" في تل أبيب، مما أسفر عن مقتل تسعة يهود، وفِي نفس اليوم تم تفجير سيارة نقل يهودية، مما أدى اإى مصرع بعض ركابها.

في ٢٦ تموز/ يوليو ١٩٣٨، نظمت يافا مظاهرات جبارة، بسبب قنبلة ألقاها اليهود في سوق الخضار في يافا في اليوم السابق، مما أدى إلى مقتل وجرح ستة وأربعين فلسطينيا، وتدخلت القوات البريطانية مما أدى إلى جرح أكثر من عشرة أشخاص.

وفِي ٦ آب / أغسطس ١٩٣٨، هوجمت مستعمرة "تل ليفنسكي" واستمر القتال لمدة أكثر من ثلاث ساعات، انسحب بعدها المسلحون، بعد أن أوقعوا الخسائر في صفوف الجند.

في ١٨ آب / أغسطس ١٩٣٨، ألقيت قنبلة على الحدود الشرقية بين يافا وتل أبيب، مما أدى إلى مقتل وإصابة خمسة يهود.

في ٢ أيلول / سبتمبر ١٩٣٨، وضع الفدائيون العرب قنبلة كبيرة في سوق الخضار في تل أبيب، أدت إلى مقتل وجرح العشرات من اليهود.

في ١ تشرين ثان / نوڤمبر ١٩٣٨، قام الفدائيون بالهجوم على مركز شرطة يافا وحرقه، وهاجموا الجيش البريطاني في عدة مواقع في المدينة، واستمرت الهجمات كل النهار، ثم انسحب الثوار بعد استشهاد مناضلين وجرح البعض، بعدها قام الجند بهجوم مضاد على الفدائيين فاعتقل عشرين منهم.

في ١١ تشرين ثان/ نوڤمبر ١٩٣٨، أعلن فرض منع التجول على يافا، بعد إطلاق النار على يهود وإصابتهم بجراح بالغة. واستمر منع التجول أكثر من عشرة أيّام، كانت تقوم فيها القوات البريطانية بالبحث عن مناضلين.

خلال عام ١٩٣٩، خفت العمليات الفدائية، ولكن كان هناك بين الحين والآخر، هجوم على شرطة، أو مهاجمة وسائل نقل صهيونية، مثل ما حدث في ٣ آذار / مارس ١٩٣٩، حيث أطلقت النار على سيارة يهودية على حدود تل أبيب، فقتل ثلاثة وجرح خمسة آخرون.

وفِي ١٢ تموز/ يوليو، حيث تم إطلاق رصاص على الجند عندما كانوا في مهمة عسكرية، في مركز يافا، مما أدى إلى جرح شاويش بريطاني بجراح خطيرة، وفر مطلق النار ولَم يعثر له على أثر.

وأخيرا نذكر هنا، أنه حتى رجال الشرطة فقد ساعدوا الثوار مثل الضابط صلاح الناظر، والشرطي فخري مرقة والذي حكم عليه بالسجن المؤبد.

التعليقات