70 عاما على النكبة: صمود القدس الشريف 1948 (18/1)

معارك القدس إبان النكبة سبقتها أحداث جسام، طوال فترة طويلة من الزمن، وفيها انتفض العرب وثاروا وحاربوا من أجل المحافظة على أرضهم وقدسهم، بينما استمر اليهود في مشروعهم بالسيطرة على الأرض العربية في القدس، وإنشاء المستعمرات وتكثيف الهجرة

70 عاما على النكبة: صمود القدس الشريف 1948 (18/1)

من الأرشيف (أ ف ب)

الجزء الأول - انتفاضات القدس الاولى، 1920 و 1929


شهدت القدس قبل وخلال أحداث النكبة عام 1948، معارك ضارية بين الصهاينة من جهة، وبين المناضلين العرب أبناء هذا الوطن من جهة أخرى، ومن ثم دخول الفيلق العربي (الجيش الأردني) إلى ساحة المعارك، وصموده أمام الهجمات الصهيونية المتوالية، بل وانتصاره عليها في معارك أساسية، أدت إلى المحافظة على القدس الشريف في أيدي العرب، ومنعت سقوطها بيد "الهاغاناه"، بل وتكبيدها خسائر فادحة، فيما شكل ربما الانتصارات الوحيدة للجيوش العربية على الصهاينة، بعد دخولها إلى فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني وانسحاب قواتها من البلاد، بقرار اتخذ منذ شهور عديدة، استغلها اليهود في احتلال ما يمكنهم من الأرض الفلسطينية، وطرد أكبر عدد ممكن من العرب، حتى يتوفر لهم العيش "بسخاء" بمنأى عن السكان الأصليين، الذين ما فتئوا يطالبون بالحرية والاستقلال، في معارك غير متكافئة ضد بريطانيا العظمى، والتي مهدت طوال فترة استعمارها لفلسطين، لإقامة الوطن "المنشود" للصهاينة في أعظم مؤامرة شهدها التاريخ، على شعب مسالم يريد العيش بكرامة على أرضه وفي وطنه.

ولكن معارك القدس إبان النكبة، كانت قد سبقتها أحداث جسام، طوال فترة طويلة من الزمن، وفيها انتفض العرب وثاروا وحاربوا من أجل المحافظة على أرضهم وقدسهم، بينما استمر اليهود في مشروعهم بالسيطرة على الأرض العربية في القدس، وإنشاء المستعمرات وتكثيف الهجرة إليها، حتى استطاعوا بمساعدة أولي الأمر من ولاة عثمانيين تهاونوا في هذا الأمر، أو دولة الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى، حتى استطاعوا أن يصبحوا أغلبية السكان، رغم أنهم لم ينجحوا في مشروعهم من أجل السيطرة على القدس الشريف أو ما يعرف بالقدس القديمة، والتي يسميها البعض القدس الشرقية في هذه الأيام، حيث ما زال شعبنا يطالب بهذا الجزء ليصبح عاصمة الدولة الفلسطينية المنصوص عليها في الأعراف الدولية الحالية.

كيف تحول اليهود إلى الأغلبية العظمى من السكان

منذ أن وضعت الحركة الصهيونية نصب أعينها إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، تحولت القدس إلى الموقع الأكثر سخونة، كونها استعملت كعامل جذب لليهود المستوطنين، فهي المدينة الأهم دينيا بالنسبة لهم، أي اليهود، رغم كونهم لم يهتموا بها عبر التاريخ، فهي لم تكن مأهولة من قبلهم حتى القرن الثامن عشر، حيث سكنها حتى ذلك العصر بضع عشرات من اليهود، حتى أن عددهم لم يتجاوز المئتين في القرن السابع عشر.

حسب الإحصائيات العثمانية، كان عدد اليهود في القدس عام 1527 أكثر من 1550 نسمة بقليل، بينما تعدى عدد السكان من الطوائف الأخرى ال 5900 نسمة، أي أنهم شكلوا ما يعادل 21% من الإجمال الكلي للسكان، بينما تناقصت هذه النسبة إلى 9.5% وذلك في إحصاء عام 1562، حيث وصل عدد السكان من المسلمين والمسيحيين إلى 12,000 نسمة، بينما لم يتعد عدد السكان اليهود ال 1950 نسمة، حيث أنهم كانوا يهجرون القدس في تلك الأيام بسبب غزوات البدو على المدينة.

واستمرت أعدادهم بالتناقص، إذ وصل عددهم عام 1572 إلى 980 نسمة، وتناقص إلى 480 وذلك حسب إحصائية عام 1606. والغريب في الأمر أنهم لم يملكوا أي عقار أو أرض في تلك الأحيان، إذ أن بيوتهم ودكاكينهم كانت مؤجرة من أصحابها العرب، وتركزت مساكنهم في حارة اليهود، بل وحتى أن الأرض المخصصة لدفن موتاهم، أي المقبرة الواقعة في رأس العامود، قرب سلوان، كانت مستأجرة من الأوقاف الإسلامية في القدس.

ابتدأت الأمور بالتغير في القرن التاسع عشر، حيث أن التغييرات المتلاحقة والكبيرة على الدولة العثمانية أتت أكلها، حيث أن الصهيوني الثري موشيه مونتفيوري استغل تساهل الحكم المصري للبلاد، بعد حملة إبراهيم باشا، والتقى بحاكم القدس الذي ولاه محمد علي باشا، والمدعو أحمد دزدار، وذلك عام 1839، وقام هذا بعد اللقاء بتسهيل تمليك اليهود للأراضي، وفتح المجال لهم للقدوم إلى فلسطين عامة وإلى القدس خاصة.

منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى سقوط الدولة العثمانية، نشط اليهود في شراء أراض خارج أسوار القدس، وتأسيس أحياء خاصة بهم. وقد انشئ الحي اليهودي الأول، على أراض بملكية يهودية عام 1859، بدعم ومبادرة موشيه مونتفيوري. وما أن جاء عام 1900، إلا واليهود يعيشون في تسعة عشر حيا أو منطقة سكنية، نذكرمنها: مناعين ونحلة، شبعا أليشا، ونسيم، ويمين إسرائيل، وبيت يعكوڤ، ونحلات تسيون وغيرها.

أما بالنسبة لعدد السكان، فقد كان عدد اليهود لا يتجاوز 1800 نسمة عام 1849، من أصل 11,800 مواطن، أي أن نسبتهم كانت حوالي 15%، بينما أصبح عددهم عام 1905، ما يقارب 13,500 نسمة، وشكلوا نسبة 41% من السكان، إذ أن عدد سكان المدينة لم يتجاوز ال 32,500 نسمة. مقارنة بإجمالي سكان فلسطين فإن هذه الأرقام تعتبر كبيرة جدا، إذ أن نسبة اليهود في ذلك الوقت كانت تشكل 6% فقط من سكان البلاد، فقد وصل عددهم فقط إلى 22,500 من أكثر من 322,000 مواطن فلسطيني، وهذا يعني أن عدد يهود القدس كان أكثر بكثير من كل أعداد اليهود في فلسطين.

هذه الأرقام استمرت بالارتفاع في الحقبة الذهبية للاستيطان اليهودي في فلسطين، إذ أن الدولة البريطانية أعطت اليهود الحق بإقامة وطن قومي في فلسطين، ضاربة عرض الحائط بمطالب الشعب العربي الفلسطيني، وسنت القوانين التي تعطي اليهود إمكانيات وامتيازات بتملك أراض في القدس، إذ أن هربرت صموئيل المندوب السامي الأول والذي كان صهيونيا، أصدر عدة أوامر من أجل السيطرة على أراض عربية من أصحابها، وسن قانون نزع الملكية الذي يعطي الحق للحكومة بالاستيلاء على أي قطعة أرض من أجل حل أزمة الاستيطان، ومن ثم كانت تحول هذه الأراضي إلى الشركات اليهودية، فحصل اليهود على مئات آلاف الدونمات على حساب قرى منطقة القدس، كانت تحصل عليها، بهذه الطريقة وبواسطة شرائها من متملكين فلسطينيين، عن طريق وسطاء أو بالطريقة المباشرة، بفضل الدعم الكبيرالذي تلقته الحركة الصهيونية من أثرياء اليهود في أوروبا وأميركا. ولكن رغم ذلك لم يتملك اليهود أكثر من 4,800 دونما من مساحة المدينة القديمة والجديدة خارج الأسوار، بينما تملك العرب أكثرمن 11,200 دونما.

من ناحية عدد السكان ففي عام 1922، كان عدد اليهود حوالي 34,000 نسمة، وعدد السكان العرب 28,100 نسمة أي أن نسبتهم، أي اليهود، كانت حوالي 55%، أما في العام 1947، فقد كان عدد سكان القدس 164,500 نسمة، منهم 99,400 يهوديا، أي أنهم شكلوا أكثر من 60% من عدد السكان، وتوزع اليهود في سكناهم على النحو التالي: 2,400 يهودي في البلدة القديمة، أي داخل أسوار القدس، و 9,000 في الأحياء العربية خارج الأسوار، و 88,000 في أحياء اليهود خارج الأسوار. هذا التوزيع كان له أكبر الأثر على مجرى المعارك وسيرها كما سنذكر لاحقا في هذه العجالات.

انتفاضة النبي موسى عام 1920

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبعد أن تأكد العرب الفلسطينيون، أن بريطانيا لن تبقي وعد بلفور حبرا على ورق، بل إنها ستعمل جاهدة من أجل تنفيذه، ابتدأ الحراك الوطني في القدس خاصة، وذلك احتجاجا على سياسة بريطانيا تجاه العرب، وصارت الجمعيات العربية البارزة في القدس، مثل المنتدى الأدبي والنادي العربي ونادي الإخاء ونادي الفداء وغيرها، تقوم بنشاطات من أجل التوعية لمخاطر الحركة الصهيونية، ليس هذا فحسب، بل تأسست جمعية تسمى "الفدائية"، والتي كانت جمعية سرية تضم عددا من رجال الشرطة والدرك، وتعمل على إعداد خطة شاملة للثورة، بل وجرى تسليح أعضائها، وإعداد قوائم تحتوي أسماء يهود بارزين من أجل اغتيالهم، وكان على رأس هذه القائمة حاييم وايزمان، القائد الصهيون البارز.

وفي نفس الوقت، ازدادت نقمة الفلاحين الفلسطينيين على الحركة الصهيونية، لأنها تهدف إلى إفقارهم، والسيطرة على أراضيهم بشتى الطرق والوسائل، مدعومة ببريطانيا التي ابتدأت مباشرة في تغيير القوانين، لتمكين اليهود من الأرض الفلسطينية.

وسرعان ما تتوجت هذه التحركات بمظاهرة وطنية كبيرة، شارك فيها ما يقارب الأربعين الفا، وذلك في 27 شباط / فبراير 1920، وقد نظمت هذه المظاهرة، بعلم السلطات البريطانية، رغم أن القيادة الصهيونية في القدس احتجت وحاولت إقناع السلطات بمنعها. انتهت المظاهرة بسلام ودون وقوع أي اشتباكات بين المتظاهرين وبين الشرطة. وقام ممثلون عن المظاهرة بتقديم احتجاجهم على وعد بلفور والهجرة الصهيونية إلى قناصل الدول في القدس والحاكم البريطاني للمدينة.

في الثامن من آذار / مارس 1948، نظمت مظاهرة أخرى بمناسبة تنصيب الأمير فيصل ملكا على سورية وفلسطين (دعيت فلسطين سورية الجنوبية)، وكانت مظاهرة صاخبة تعالت فيها الهتافات من حناجر المتظاهرين ضد اليهود ووعد بلفور، وتسبب صبي يهودي حاول أن يمر من قلب المظاهرة، بغضب الجماهير المتحمسة، فحدث شجار، أصيب على إثره بعض اليهود، ولكن المظاهرة انتهت مثل سابقتها بسلام.

المظاهرة الثانية، ضغط الصهاينة على الحكومة من أجل منع الانتخابات، خوفا من أن يفسد العرب عليهم فرحة عيد الفصح، ونجحوا في ذلك، إذ صدر قرار حكومي بمنع التظاهرات، وذلك في الحادي عشر من آذار / مارس 1920، مما أثار غضب العرب، الذين سيحتفل المسلمون منهم بموسم النبي موسى، والذي صادف موعد احتفالات اليهود بعيد الفصح، وفي هذه المناسبة يأتي المسلمون من باقي القرى إلى القدس حاملين البيارق، فهذا العيد هو مناسبة مقدسية من ابتكار صلاح الدين الأيوبي، كمناسبة النبي صالح في اللد، وتأتي هاتين المناسبتين مع قدوم عيد الفصح لدى الطوائف المسيحية. أما المقام نفسه فلا يمت للنبي موسى بصلة، حيث لا يعرف موقع قبره حتى اليوم، ويبعد عن طريق القدس-أريحا كيلومتر واحد.

في الرابع من نيسان /أبريل عام 1920، كان المسلمون في القدس يحتفلون بهذه المناسبة، ونظموا مسيرة كبيرة في الساعة التاسعة صباحا، وكانت نهاية المسيرة عند باب يافا، وهناك استمع الحضور لخطب سياسية، ألقاها الحاج أمين الحسيني وعارف العارف وموسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس، وغيرهم من الشخصيات البارزة في المدينة، وتحولت الخطابات إلى الهجوم على الصهيونية والإدارة البريطانية، وألهب الخطباء الجماهير، حيث دعا محرر جريدة سورية الجنوبية إلى مقاومة المشروع الصهيوني باستعمال القوة، ودعا أحد الشيوخ إلى استعمال كل سلاح ممكن من أجل محاربة اليهود، حتى وإن كان السلاح عبارة عن منكوش أو فأس أو هراوة. وبلغت ذروة الحماس عندما رفعت صور الملك فيصل، فثار الجمهور وهاج وماج، وكانت هذه الحالة تنقصها شرارة لتفجير الوضع.

منعت الشرطة البريطانية جمهور قادم من الخليل للاحتفال بهذه المناسبة، من دخول القدس، حيث حجزتهم عند باب الخليل، وعند وصول الخبر إلى المتظاهرين المقدسيين، انفجروا غضبا على السلطات، وانطلقوا لاستقبالهم، ثم صبوا جام غضبهم على يهود المدينة، خاصة أن هؤلاء كانوا قد تجمعوا بالمئات وصاروا يستفزون المشاركين في المظاهرة. وفجأة حاول صهيوني يدعى كريمر مندل إنزال العلم، فانقض عليه بعض المتظاهرين وأردوه قتيلا، ثم حاول آخر أن يفعل فعلته، فواجه المصير نفسه، مما أدى إلى وقوع معركة حامية الوطيس أدت إلى مقتل تسعة أشخاص من الطرفين، وجرح 122 شخصا آخر.

في نفس اليوم، قاد الصهيوني المتطرف چابوتنسكي مظاهرة استفزازية ضد العرب، هتف فيها الصهاينة ضد العرب، وشتم المتظاهرون الملك فيصل مما كان له أكبر الأثر على المتظاهرين العرب، خاصة وأن الشرطة البريطانية دعمت مظاهرة الصهاينة، وهاجمت مظاهرة العرب بالحديد والنار وإطلاق السلاح الحي، ولذلك كان غضب العرب كبيرا وواسعا على اليهود، فأعملوا فيهم الضرب ودمروا محلاتهم واقتحموها وخربوا محتوياتها.

في اليوم التالي، في الثامنة صباحا، نظم العرب مظاهرة اخرى، انطلقت داخل أسوار المدينة، باتجاه شارع البطرك، إلى الاقصى، ولكن مجموعة من الشباب اليهودي الذين تسللوا إلى داخل الاسوار، قاموا باستفزاز المظاهرة، فحصلت اشتباكات بين العرب واليهود مرة اخرى، ادت إلى جرحى وقتلى من الطرفين، وامتدت إلى مناطق اخرى في المدينة كما حصل في اليوم الاول، وفي هذا اليوم استعمل اليهود الرصاص الحي بكثافة، مما ادى إلى سقوط الكثير من الجرحى العرب.

أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، وفرضت حظر التجول بعد السادسة مساء، وصار المدفع الموجود على باب يافا، يطلق كل ربع ساعة طلقة واحدة، معلنا أن الهدوء يجب أن ينفذ، وسلمت الحكومة زمام الأمور للجيش بدل الشرطة، ولكن هذا لم يمنع وقوع حوادث أخرى في اليوم الثالث، ووقوع مصابين في هذا اليوم أيضا، وحتى في ساعات فرض حظر التجول، وكل هذه الحوادث جرت داخل أسوار المدينة نفسها، مما أدى بالسلطات إلى إخراج عائلات يهودية إلى خارج الأسوار، ووضعت 160 منهم في حي "مئة شعاريم" وذلك لتخفيف حدة الأحداث، والتي أصبحت حدتها تضعف، كل يوم، حتى نهاية يوم الثامن من نيسان /أبريل 1920، وهو اليوم الأخير لهذه الانتفاضة.

نتائج انتفاضة موسم النبي موسى

أسفرت الصدامات العنيفة بين العرب واليهود، عن وقوع تسعة قتلى من اليهود، وجرح أكثر من 220 شخصا، جراح 22 منهم خطيرة، أما العرب فاستشهد منهم أربعة أشخاص، وجرح 24 شخصا آخرين، بينما جرح سبعة جنود بريطانيين من قبل المتظاهرين العرب.

وقامت بريطانيا بعد الاضطرابات، باعتقال وحبس 23 عربيا، وحكمت عليهم بالسجن لمدة عشر سنوات، ثم خفضت الحكم إلى ثلاث وإلى خمس سنوات لجميع المعتقلين، وهرب الحاج أمين الحسيني وعارف العارف إلى سورية، ولكن السلطات حكمتهم غيابيا بالسجن الفعلي لمدة عشر سنوات. ألغيت كل الأحكام من قبل السلطة بعد تسلم هربرت صموئيل وظيفة المندوب السامي، إذ أصدر عفوا شمل جميع السجناء. كما واستدعى الحاكم العسكري موسى كاظم الحسيني رئيس البلدية، وقام بعزله وتعيين راغب النشاشيبي مكانه، وهذا التعيين كان بداية صراع تاريخي بين العائلتين، وكان له أثر كبير على أحداث فلسطينية كبيرة جاءت بعدها.

كانت هذه الانتفاضة هي الأولى من نوعها في تاريخ الشعب الفلسطيني، بعد احتلال البلاد من قبل بريطانيا، وفيها عبر العرب المقدسيون عن سخطهم الشديد من السياسة البريطانية تجاههم، ودعمها المطلق للحركة الصهيونية، وحرصها على توفير كل الظروف من أجل تحقيق مشاريع هذه الحركة الاستعمارية.

أقامت بريطانيا لجنة خاصة للتحقيق حول نشوب هذه الاضطرابات دعيت "لجنة بالين". ووصلت اللجنة إلى أن الانتفاضة، وجهت ضد اليهود وليس ضد بريطانيا، ولكنها أشارت إلى أن 90% من الشعب العربي الفلسطيني، لديه سخط شديد على السياسة البريطانية بسبب شعوره بالظلم والغبن من سياسة بريطانيا تجاه العرب، ودعمها للحركة الصهيونية. أشارت اللجنة أيضا إلى استعمال اليهود لمجموعات مسلحة مدربة، بقيادة چابوتنسكي، وأن هذه الوحدات كانت تتدرب على الأسلحة والقتال بصورة منظمة، وأنها غير شرعية حسب رأي السلطات البريطانية، وغم ذلك استعملتها الحكومة في قمع الانتفاضة العربية.

عبرت هذه الانتفاضة التاريخية، عن تحول نضال الشعب الفلسطيني من الاحتجاج الشفوي والكتابي، أو عقد المؤتمرات أو المظاهرات السلمية، إلى رد فعل شعبي عنيف ضد سياسة بريطانيا وممارسات الحركة الصهيونية، ولكنها كانت أيضا المرة الأولى التي يخسر فيها العرب المعركة الدبلوماسية السياسية، بعد نشوب أحداث كبيرة، كما حصل بعدها في جميع انتفاضاتهم وثوراتهم لاحقا، حيث أن مؤتمر "سان ريمو" للسلام، والذي وصلت إليه أحداث هذه الانتفاضة، قرر أن يمنح بريطانيا الحق في انتداب فلسطين، بدل أن ينتقد سياساتها حيال شعب هذه الأرض المجيدة.

ثورة البراق 1929 في القدس

كنت قد تناولت ثورة البراق في عدة حلقات سابقة، (انظر الحلقة 10: انفجار الغضب 1929، انظر أيضا الحلقة 15: احتلال صفد 1948 في الفقرة: صفد خلال ثورة البراق 1929، وأيضا الحلقة 1/16: احتلال يافا 1948 في الفقرة: يافا وثورة البراق 1929)، ولكن لا ضير في ذكرها هنا، نظرا لأهميتها ولأنها انطلقت من القدس.

في 11 آب /أغسطس 1929، أعلن المؤتمر الصهيوني المنعقد في زوريخ، أن لليهود حق في الصلاة بجانب حائط البراق، وعلى إثر هذا المؤتمر مباشرة، قامت مجموعة "بيتار" المتطرفة بالخروج في مظاهرة كبيرة في تل أبيب، وذلك في ذكرى "خراب الهيكل"، وكان ذلك في 14 آب /أغسطس، ونادى المتظاهرون بالذهاب إلى حائط البراق، وشتموا العرب والمسلمين ورفعوا الأعلام الصهيونية.

في اليوم التالي، أي في الخامس عشر من آب /أغسطس 1929، نظمت نفس مجموعة بيتار (الأب الروحي للمجموعة هو المتطرف جابوتنسكي)، مظاهرة ضخمة في القدس، وذلك في الساعة الثانية ظهرا، وجابت هذه المظاهرة شوارع المدينة وصولا إلى حائط المبكى، وهناك رفع المشاركون العلم الصهيوني، وأنشدوا نشيدهم "هتكڤا"، وطالبوا "بحقهم" في الحائط، وقام الحاخام برمان بإلقاء خطاب قال فيه إن اليهود يشعرون هذه السنة نفس شعور أسلافهم يوم خراب الهيكل، وذلك لأن المندوب السامي أصدر تعليمات تفيد بملكية المسلمين للحائط. وعندما كان أحد حاخاماتهم الكنديين (نسبة إلى كندا) يخطب، ويلهب الجماهير بقوله إن جبل صهيون لن يصبح إسلاميا، أذن المؤذن في الأقصى لصلاة العصر، وارتفع صوت المتظاهرين بشتم الإسلام والمسلمين، معلنين غضبهم على رفع الأذان على جبل صهيون.

قدرت الصحف الصهيونية عدد المشاركين بالمظاهرة بأكثر من 10,000 مشارك، كما وقام عدة مئات منهم بالطواف حول أسوار المسجد الأقصى، تعبيرا عن عدم "تنازلهم" عن جبل صهيون.

وفي نفس اليوم يعلن الحاخام "كوك"، في لقاء مع صحيفة "دوأر هيوم"، انه على العرب إخلاء حارة المغاربة من سكانها، وتسليمها لليهود.

هذه المظاهرة، أغضبت العرب في مدينة القدس، فانطلقت في اليوم التالي مظاهرة جبارة من المسجد الأقصى، وذلك يوم الجمعة 16 آب /أغسطس، والذي صادف أيضا عيد المولد النبوي الشريف، وجابت المظاهرة شوارع القدس، وقام المتظاهرون بتدمير المنصة التي وضعها الصهاينة عند حائط المبكى في اليوم السابق، وعليها الشموع والزيوت، ومزقوا الأوراق التي وضعها اليهود في ثقوب الحائط، والتي تحتوي على أمنياتهم، ولكن المظاهرة ورغم حماسها الشديد إلا أنها انتهت بسلام بدون حدوث مشاكل، بعد أن ألقى الشيخ حسن أبو سعود، أحد خطباء المسجد الأقصى، خطبة نارية ألهبت الجماهير.

في اليوم التالي، حصل شجار بين شابين أحدهما عربي والآخر يهودي، في سوق البخارية، مما أدى إلى شجار كبير، تسبب في جرح 14 عربيا، اثنان منهم في حالة خطيرة، وخمسة من اليهود أحدهم جراحه خطيرة. وقدمت إلى المكان قوة بوليسية وقامت باعتقال العربي الذي شارك في الشجار الأولي، وعندها قام اليهود بمهاجمته وهو في أيدي الشرطة مما أدى إلى إصابته بجروح، وكذلك أحد الشرطيين والذي كانت إصابته خطيرة.

خلال الأيام التالية قامت الشرطة باعتقال 22 عربيا ويهوديا واحدا فقط، من المشاركين في الشجار، وفي تاريخ 20 آب /أغسطس 1929، توفي الشاب اليهودي الذي ابتدأ الشجار، وكان اسمه أبراهام مزراحي، متأثرا بجراحه، فتحولت جنازته إلى مظاهرة سياسية صاخبة، ضد العرب والشرطة البريطانية، وانتهت بصدامات بين المشاركين فيها والشرطة البريطانية، أصيب على إثرها بعض اليهود برضوض مختلفة، جراء ضربهم بهراوات الشرطة.

محاولة فاشلة للتهدئة وانفجار الوضع

بعد الجنازة وصلت الحكومة البريطانية، إلى نتيجة مفادها أن الوضع أصبح خطيرا، ويجب عليها أن تتخذ التدابير اللازمة، فقامت بإحضار مصفحات عسكرية من شرقي الأردن، ووضعتها على أهبة الاستعداد في مدينة الرملة على الطريق إلى القدس، ثم دعت وجهاء عرب ويهود للاجتماع من أجل تخفيف حدة التوتر، وتم الاجتماع في 22 آب/أغسطس 1929، في منزل حاكم المدينة، وشارك في الاجتماع ثلاثة من اليهود ومثلهم من العرب، وكان الاجتماع وديا، واتفقوا على الاجتماع مرة أخرى بعد أربعة أيام.

في الجانب العربي كان الوضع مشتعلا، فدعت الهيئة الإسلامية العليا الشباب العربي إلى القدوم إلى القدس، تحسبا لأي طارئ أو اعتداء صهيوني على العرب، وأصدرت جمعية الحفاظ على الأقصى بيانا دعت فيه الشعب إلى الوقوف إلى جانب الأقصى، والبقاء متيقظين، وتقديم الغالي والرخيص من أجل الحفاظ على القدس ومقدساتها.

في يوم الجمعة الموافق 23.08.1929، تدفق أهالي القرى بكثافة من كل الأنحاء إلى الأقصى، حاملين العصي والهراوات، وكانوا في أشد حالات الغضب والنقمة على اليهود، بسبب محاولاتهم الاعتداء على الأقصى، ناهيك عن نهبهم للأرض العربية، والسيطرة عليها من أجل القادمين الجدد.

بعد الصلاة، طالب المصلون الحاج أمين الحسيني بالجهاد دفاعا عن حائط المبكى، ورغم قدوم قائد شرطة القدس، هاريننتون، ونائب الحاكم روحي بك عبد الهادي، لتهدئة الجماهير إلا أن وجودهم لم يجد، فقام الشيخ حسن أبو سعود إمام المسجد الأقصى وصار يخطب في الناس لتحميسهم على الدفاع عن حائط البراق، ورفض طلب نائب الحاكم تهدئة الجماهير، التي صارت تنادي بالجهاد من أجل الأقصى، ثم نزل عن المنبر وصعد مكانه يعقوب الجيلاني، وصار هذا يخطب في الناس فألهب حماسهم، فاشتد صياحهم الغاضب داعين بعضهم البعض إلى الجهاد.

ما أن انتهت الصلاة، حتى انتظم المصلون في مظاهرة جبارة، كان أول من دعا إليها الشيخ الشهيد فرحان السعدي من قضاء جنين، ينوف عدد مشاركيها عن العشرة آلاف، وانطلقوا يهتفون "خيبر يا يهود"، و"لبيك يا أقصى"، وضد الاستيطان وسلب الأرض. كان كل غضبهم موجها إلى اليهود لا غير، ولم تذكر بريطانيا في شعاراتهم، ولا ممارساتها المجحفة بحقهم، وكأن عالمهم تمحور حول قضية واحدة، حملوا عليها كل تبعات المر الذي يتذوقونه جراء سيطرة الصهيونية على مقدراتهم.

تجمع اليهود بالمئات في منطقة باب نابلس، غير آبهين بالعرب وغضبهم، وسدوا عليهم الطريق، ظنا منهم أن الأمور ستسير كما صارت في الجمعة الفائتة. ليس هذا فحسب، بل إن أحد اليهود قام بإلقاء شيء على المتظاهرين يعتقد أنه قنبلة، فثارت ثائرتهم وأعملوا في اليهود ضربا وبطشا، بالعصي والهراوات، وما يحملونه في أيديهم. كان اليهود متجهزين لهذه اللحظة، فقد حملوا العصي والمسدسات، وصاروا يطلقون النار ولكن قوة الاندفاع الجماهيرية العربية، أدت بهم إلى التراجع، وقدمت المصفحات البريطانية من الرملة، ووصلت في الساعة الرابعة بعد الظهر، واستطاعت أن تعيد الهدوء إلى المدينة بعد ساعة من الزمن، رغم استمرار وقوع أحداث محدودة في أنحاء متفرقة من المدينة خلال الأيام القادمة.

انتشرت الأحداث في مناطق أخرى في فلسطين، واستمرت لأسبوعين كاملين (عن أسبابها ونتائجها، أنظر الحلقات السابقة والتي اشرت إليها أعلاه في هذه العجالة)، وكان عدد القتلى والجرحى كبيرا، حسب الجدول التالي:

 

 


المصادر:

مدينة القدس، السكان والأرض (العرب واليهود) , 1858-1948. أ. د. محمد عيسى صالحية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات؛

المفصل في تاريخ القدس، عارف العارف؛

تاريخ فلسطين الحديث، د. عبد الوهاب الكيالي؛

الموسوعة الفلسطينية؛

صحيفة "دوأر هيوم" الصهيونية، 05.04.1920، 07.04.1920، 16.08.1929، 21.08.1929

صحيفة "هبوعيل هتسعير"، الصهيونية، 12.04.1920.

هبة البراق 1929 سنة الصدع بين العرب واليهود، هليل كوهين

صحيفة فلسطين، 22.08.1929، 02.09.1929، 03.09.1929

صحيفة مرآة الشرق، 04.09.1929.

صحيفة "دافار" الصهيونية، 02.09.1929.

التعليقات