يهود تحت مظلة الظاهر عمر وإبراهيم باشا

بعد ضياع الأندلس من يد العرب، لاحق الإسبان اليهود، وفرضوا على من بقي منهم اعتناق الديانة المسيحية، أما أكثرهم فقد لجأوا إلى الدولة العثمانية التي فتحت أبوابها أمامهم. قسم كبير منهم لجأ إلى مدينة إزمير التركية

يهود تحت مظلة الظاهر عمر وإبراهيم باشا

بعد ضياع الأندلس من يد العرب، لاحق الإسبان اليهود، وفرضوا على من بقي منهم اعتناق الديانة المسيحية، أما أكثرهم فقد لجأوا إلى الدولة العثمانية التي فتحت أبوابها أمامهم. قسم كبير منهم لجأ إلى مدينة إزمير التركية.

في عام 1738 علم الظاهر العمر، حاكم الجليل، أن الرابي حاييم أبو العافية يرغب في القدوم من إزمير إلى فلسطين، فدعاه إلى عاصمته طبرية لتجديد الاستيطان اليهودي في المدينة.

في عام 1740 وصل الرابي حاييم أبو العافية إلى طبرية على رأس وفد كبير، فاستقبله ظاهر العمر بحفاوة وإجلال، وألبسه لباس الملوك، ولبّى جميع طلباته ولم يُنقص منها شيئًا.

بنى الرابي حاييم أبو العافية في طبرية كنيسًا فخمًا وحمامًا، ودكاكين ومعصرة زيت. كما جدد الكنيس الموجود في شفاعمرو.

في آب 1742 وصلت إلى حاييم أبو العافية رسالة من حاييم فارحي ويوسف لوشاطي، مديري بيت مال سليمان باشا العظم، ومن المقربين إليه في دمشق، هذا نصها:

"نحيطكم علمًا أن سليمان باشا العظم، والي دمشق، تلقى مؤخرًا "فرمان سلطاني" يبيح له مهاجمة طبرية ودك أسوارها حتى الأرض، وجلب رأس الشيخ ظاهر العمر حاكم البلاد، وحالما استلم الوالي هذا الفرمان أرسل يحشد العساكر ويجمع الأعتدة وأدوات الحرب من راجمات حجارة وقلل ومقذوفات حديثة تستطيع القلة الواحدة منها أن تقتل حشدًا من عشرين شخصًا على مسافة ستة أميال، وأن تهدم بنايات وأسوارا. لذلك إننا نعلمكم أن من سيبقى منكم في طبرية يكون دمه في كفه، ونطلب منكم الخروج من المدينة مع جميع أفراد الطائفة. أما أموالكم فأرسلوها إلى عكا، وأما أنتم فتوجهوا إلى صفد لأن الوالي وعد بإرسال قوة كافية من عسكره لحماية اليهود هناك". (توفيق معمر، ظاهر العمر، ط3، 1996، الناصرة).

وحالما استلم حاييم أبو العافية هذه الرسالة أطلع ظاهرًا عليها، وأبى ظاهر العمر تصديق الخبرـ وحجته في ذلك أنه لو صدر حقًا فرمان كهذا لعرف يهود إسطنبول (الأستانة)، وأرسلوا بمضمونه إلى طبرية في الحال قبل أن يصل الخبر إلى دمشق. واستبعد ظاهر أن يقوم والي دمشق بمهاجمته لأن طبرية تابعة إداريا لأيالة (ولاية) صيدا وليس لأيالة دمشق. اقتنع حاييم أبو العافية بما يقوله ظاهر العمر، وكتب إلى حاييم فارحي ويوسف لوشاطي بهذا المعنى، فجاء الجواب بعد خمسة أيام فقط من دمشق يؤكد صحة الخبر، ويحذره ثانية من مغبة البقاء في طبرية.

في الثامن من أيلول 1742 قدم والي دمشق سليمان باشا العظم على رأس جيش جرار، وضرب حصارًا على طبرية معقل ظاهر الذي استنجد بأخيه سعد صاحب قلعة دير حنا. وقد صب الوالي جام قذائفه على المدينة، ولكنه لم يفلح في اقتحامها، وفشل في احتلالها فانسحب. فلما عاد من مرافقة قوافل الحجاج (الجردة) قرر القضاء على الظاهر عمر، لكنه عندما وصل إلى قرية لوبية مات في ظروف غامضة، ويقال بالسم، واعتبر اليهود هذا اليوم يوم عيد. 

في عام 1744 توفي الرابي حاييم أبو العافية، فحلّ محله ابنه يتسحاق.

في عام 1831 احتل ابراهيم باشا المصري فلسطين وسورية وعيّن حكامًا على الإيالات (الولايات). من هذه الولايات كانت ولاية دمشق وولاية صيدا وطرابلس. اعتبر ابراهيم باشا النصارى واليهود رعايا متساوي الحقوق دون تمييز، ورغم أنه أبقى على الجزية، وهي ضريبة الرأس، إلا أنه لم يفرض عليهم ضريبة الفردة. كانت ضريبة الفردة الباهظة، التي فرضت على المسلمين بدلاً من أخذهم للخدمة العسكرية، أهم أسباب التذمر التي أدت إلى الثورة ضد الحكم المصري. على هذه الخلفية قام المسلمون في عام 1834م بمهاجمة اليهود في صفد ونهب أموالهم، وقد امتدت أعمال العنف لتشمل النصارى والعساكر في دمشق ما أجبر الحكمدار هناك إلى استعمال القوة. كما تحرك أهالي طرابلس على العساكر والنصارى ما أدى إلى هروب النصارى إلى الجبل في لبنان، أما أهالي الكرك والسلط، فذبحوا العساكر الذين عندهم.

يقول صاحب مذكرات تاريخية بلغة ركيكة: "إن الأمير بشير (الشهابي) توجّه من طرف ابراهيم باشا لقصاص أهالي صفد، فنزل على صفد ومعه نحو خمسة آلاف (كذا) عسكري من الجبل، فقرروا له يهود صفد أن الذين نهبوهم الإسلام لهم أربعة وتسعين خزنة مال عدا الذي لم يعرفوا فيه، فصار الأمير بشير يجيب (أي يحضر) أهالي صفد ويخلص مال اليهود منهم ما عدا العذاب الذي عذبهم إياه فزبط (حجز) بيوتهم وأرزاقهم ومن الجملة راح منهم نحو مايتين زلمه قتل في عكا وفي غير مطرح ".(ص 74)

اجتمع الأمير الشهابي إلى وفد من يهود صفد، فشكوا له ما أصابهم من نهب أموالهم وأمتعتهم وهدم منازلهم وقتل بعضهم، فطلب الأمير من رؤساء صفد إعادة ما نهب وتعويض ما فقد، كما شرع في جمع الأسلحة، وقد استعمل في تنفيذ مطالبه كل شدة، وأمر بإلقاء القبض على ثمانية عشر شخصًا من وجهاء صفد منهم الشيخ عبد الغني النحوي نائب صفد، والشيخ محمد السلطي مفتيها، والشيخ محمد النقيب نقيبها وغيرهم وبعد ذلك صدر الأمر بالنفي، وأرسل بعضهم إلى يافا وغيرهم إلى غزة ومصر وعكا.

نجح روبينه حاييم أبو العافيه في إقناع والي صيدا وطرابلس بأن يقوم اثنان من الحاخامات في صفد، واحد من طائفة السفارديم، وهو حاييم مزراحي، والثاني أشكنازي، وهو حاييم فرانكو، بجمع الضريبة المطلوبة من اليهود القاطنين في المدينة لمنع تلاعب محصلي الضرائب. في الوثيقة الموجودة بين يدينا، المؤرخة في 13 رجب سنة 1253ﻫ/ 13 أكتوبر 1937م، يتبين أن الوزير أحمد زكريا باشا قد أمر بإعفاء السلطة الروحية اليهودية من دفع الضريبة. والوثيقة نادرة، وتبين أن الوالي دافع عن اليهود ورعاهم ومنحهم حقوقهم كاملة، ولأهمية الوثيقة نوردها كاملة:

"افتخار الأماجد والأعيان محصل صفد حالا ولدنا الحاج عبد الحليم آغا زيد قدره

بعد السلام التام بمزيد الإكرام المنتهي إليكم بتاريخه ورد معروض من روبنيه حييم أبو العافية يتضمن أنه قام وكلاء على طائفة اليهود في صفد وهما الحاخام حييم مزراخي والحاخام حييم فرانكو ويلتمس أن المطلوبات الذي(التي) تتطلب من طائفة اليهود يصير طلبها من الحاخامين المذكورين وهما يقدموها بمحلها ولدى تلاوة معروضه بالشُورا صار القرار بأن يتحرر لكم بهذا الخصوص، فبناء على ذلك قضى تحريرنا هذا إليكم لكي المطاليب الذي(التي) يصير طلبها من طائفة اليهود بطرفكم تطلبوها من المذكورين وهما يقدموها لكم، كذلك موجود بيدهم أمر من سعادة أفندينا السيد أحمد زكريا باشا المفخم باعفاء روحية  الطائفة المذكورة يقتضي معاملتهم بموجب الأمر المشار إليه اقتضى إفادتكم بذلك.

في 13 رجب 1253(ﻫ)
طغراء
سبب وقوعه طاهره محمد
 سند يحافظ عليه"

في عام 1840 عُيّن أحمد زكريا باشا سرعسكر (وزيرًا للحربية) ووكيلاً لوالي دمشق (نائبًا له).

في 5 شباط سنة 1840 اختفت آثار الراهب الفرنسي البادري توما (توماسو) وأجيره المسلم في حارة اليهود في دمشق، فنشط الوالي شريف باشا في البحث عنهما، وسرت إشاعات مفادها أن اليهود ذبحوهما ليستعملوا دمهما في خبيزهم. وقد تم القبض على وجهاء الطائفة اليهودية في دمشق وجرى تعذبيهم حتى أن موسى أبو العافية أعلن إسلامه وتسمى باسم محمد أفندي أبو العافية، وصار يفسر من كتب اليهود عن قبح عملهم، وقد عرفت هذه القضية باسم (فرية الدم في دمشق)، التي لعب السفير الفرنسي في دمشق دورًا مهمًا في تأجيجها.

آنذاك، كانت القوات المصرية تنسحب تدريجيًا من بلاد الشام، ولولا ذلك لما نشبت هذه الفتنة ولما تمادى الوالي في إجراءاته القمعية ضد اليهود.

فيما بعد أصدر السلطان العثماني فرامانًا يبرئ فيه اليهود من تلك التهمة، فزالت عنهم تلك المحنة.

(راجع: مذكرات تاريخية عن حملة ابراهيم باشا على سورية لمؤلف مجهول (معاصر)، تحقيق أحمد غسان سبانو،  دمشق، 2007).

الصورة المرفقة للوثيقة عن موقع الباحث أحمد مروات على الفيسبوك.

التعليقات